عرفنا الراحل محفوظ عبدالرحمن، كمشاهدين، كاتباً درامياً يقف في الصفوف الأولى وبالذات في الحيز الدرامي الذي اختاره وانحاز له بأعماله، وأعني الدراما التاريخية. محفوظ عبدالرحمن «قرأ» التاريخ قراءة بصرية في صورة مختلفة أساسها تعددية الرؤية التي تقوم على عدم التسليم بالشائع والعام في كتب المؤرخين، بل الذهاب عميقاً في تقليب السرديات التاريخية بحثاً عن حقيقة ما حدث، وفوق ذلك رؤية ما حدث بعيون كل الأطراف وليس الحاكم وحده. هي رؤية وموقف في الكتابة التاريخية نعتقد أنها شكلت، الى جانب أعمال وليد سيف، افتراقاً عن المعالجات الدرامية الشائعة والتي سادت طويلاً في الدراما العربية عموماً، تلك المعالجات التي انطلق أصحابها من نقطة التسليم بالسرديات في ما يشبه الامتثال للقول المعروف «اذكروا محاسن موتاكم». عقلية أقالت الدراما التاريخية العربية من أي وظيفة نقدية وجعلتها أقرب الى أن تكون كتاباً مصوراً للتاريخ، بما يعنيه ذلك من إفقاد الدراما من غايات لجوئها للتاريخ كمعلم للراهن والمستقبل معاً. ولعلّ هذه المسألة بالذات شكلت جوهر تجربته وعمودها الفقري الذي يأتي أولاً وتأتي بعده القيمة الفنية الكبرى لما كتبه وحقق فيه جماليات أبرز صفاتها سلاسة الكتابة وبنائياتها الحيوية، خصوصاً لجهة الشخصيات التاريخية والدرامية على حد سواء. هكذا – وفي هذا السياق الفني– لم يكن محفوظ عبدالرحمن كاتباً درامياً غزير الإنتاج كغيره من الكتّاب، وهو الذي كرَس لأعماله الوقت والجهد والتمحيص والمقارنة، فنجح في منح الدراما التاريخية جاذبية جعلتها قادرة على التنافس بقوة مع الأعمال المعاصرة التي تقوم على حدث يألفه المشاهد ويجرى تصويره في أماكن عصرية تشبه مدينته والحي الذي يعيش فيه. مع ذلك، كان عمله الأكثر انتشاراً ومشاهدة هو مسلسل «أم كلثوم»، مسلسل عصري بزمن حوادثه وشخصياته على رغم أنه يظل أيضاً عملاً تاريخياً في التصنيف الفني. في «أم كلثوم»، قدم الراحل محفوظ عبدالرحمن مقاربة فنية لشخصية هي الأولى في تراتبية أهل الفن العربي وخصوصاً فن الغناء. تجربة قدمت حياة «كوكب الشرق» من خلال حياتها وأعمالها وعصرها السياسي والاجتماعي، عبر من تعاونت معهم خلال تجربتها الفنية المديدة من الملحنين والشعراء والحوادث التي حصلت وما خلقته من مناخات فنية كان لها أثرها البارز في تجربة أم كلثوم الفنية وصعودها واستمرار توهجها لعقود طويلة لا تزال باقية بعد وفاتها. رحل محفوظ عبدالرحمن وترك إرثاً أدبياً وفنياً مرموقاً يمكن أن تكون صفته الأبرز في ما حملته من قيم إنسانية نبيلة، نجح الراحل في تقديمها في سياقات جمالية بالغة الجاذبية. وهي تمتلك أسرارها في القبض على أهم ما في الدراما من عناصر، وأعني عنصر التشويق الذي هو جوهر فن الدراما وأساس وجودها وحيوية هذا الوجود الذي يحكم علاقتها بالمشاهدين واستمرار هذه العلاقة أو فشلها. وبرحيل محفوظ عبدالرحمن فقدت الدراما العربية كاتباً من أبرز كتابها وأهمهم تحتاجه هذه الأيام ونحن نعيش حوادث عاصفة ودامية في أكثر من بلد عربي.