بعد جون بولتون نائب وزير الخارجية الأميركي الذي كال لسورية اتهامات بالجملة، بدءاً من "امتلاكها أسلحة كيماوية" وانتهاء بارسال مقاتلين الى العراق، النائب الآخر ريتشارد ارميتاج اختار لغة "مهذبة" في تهديد دمشق: أميركا أزالت "البعث" العراقي وبقي "البعث" السوري، ولكن... استبعد ارميتاج في حديثه الى "الحياة" حرباً على سورية، لكنه أول مسؤول أميركي يكشف بتعابير لا تخلو من انذارات ما تتوقعه واشنطن من دمشق في ملفات الاصلاح ولبنان، بعدما أصرّ بولتون على عدم استبعاد أي اجراء للرد على ما اعتبره "تجاهلاً" للمطالب الأميركية. وبين النائبين تطول لائحة المطالب التي تنتهي عند تغييرات داخلية، وتتحكم عملياً بكل المفاصل الرئيسية لسياسة الدولة السورية، داخلياً وخارجياً! كان ذلك بالطبع كافياً لاستهجان دمشق تصور إدارة الرئيس جورج بوش لشروط مواصلة الحوار بين الجانبين، على الأقل على قاعدة "التعاون الواسع" الذي أبدته سورية في مكافحة الارهاب، وبالتحديد تنظيم "القاعدة". وإذا كانت صدمتها ب"النكران" الأميركي لما يقابل ذلك التعاون، تشبه صدمة عانتها ايران بعد تعاونها مع القيادة الجديدة في افغانستان وموقفها "الحيادي" خلال الحرب هناك، فالأكيد ان التشاؤم السوري بتشديد الضغوط الأميركية، لا يقل مرارة عن التشاؤم الايراني بالمدى الذي يمكن أن تذهب اليه الإدارة في تعاملها مع دول تعتبرها "مارقة". نظرياً، يمكن دمشق أن ترى هامش مناورة من خلال دورها الاقليمي في ما يسمى عملية السلام وهو دور ما زال مفترضاً لدى رموز المتشددين في الولاياتالمتحدة وغيرهم وفي العراقولبنان ومكافحة الارهاب. لكن الجانب الأميركي الذي يتصرف مع دول المنطقة بأسلوب "اسمع ونفذ"، لن يترك لها هوامش للتحرك، ضمن ما يحفظ ماء الوجه، ما دام المطلوب وجهاً واحداً ولوناً واحداً، للالتحاق بعصر بوش. وأولى الرسائل الانذارات في حديث ارميتاج، تلميحه الى أن مرحلة الوجود العسكري السوري في لبنان أوشكت على نهايتها، فيما لا تبدو دمشق بعيدة عن التحضير لما بعد تلك المرحلة. وواضح أن المسؤول الأميركي لم يقطع شعرة معاوية مع سورية، وان اختار بخبث تمني "علاقة جيدة مع الشعب السوري". استخدم فعل الماضي من دون أن يجزم بخيبة أمل من الاصلاحات في ذلك البلد، أما الانذار الآخر فيوجهه الى الحكومة الجديدة لتكون "عنصراً حيوياً وفاعلاً لا مصدر تخريب". وإذا كان بديهياً أن دمشق كسواها من عواصم المنطقة، لا تثق بالنيات الأميركية، فالبديهي كذلك ادراكها أن لائحة المطالب تُختصر بتغيير جلدها وسياساتها، في مقابل جزرة هزيلة هي ضم سورية الى "خريطة الطريق"، بحثاً عن سلام لا تريده غالبية الاسرائيليين. بين هؤلاء من اعترف علناً بأن الحرب الأميركية على العراق "حققت الأهداف الاستراتيجية لاسرائيل"، وبصرف النظر عن صواب بعض السياسات السورية أو خطأها، ترى دمشق أسباباً مشروعة للربط بين ما تتوقعه واشنطن منها وبين نيات المتشددين هناك، المتواطئين مع مشروع شارون لتصفية الصراع العربي الاسرائيلي بشروطه، وانهاك الدول العربية بسيف العقوبات الأميركي. في حال سورية، كما في فلسطين، المؤلم ان تصوّر ادارة جورج بوش مسيرة الاصلاحات الداخلية بوصفها مطلباً اميركياً لا سورياً أو فلسطينياً... وأن تزعم ان شعار دولة القانون ومكافحة الفساد والذي يرفع في دمشق الآن هو شعار للحزب الجمهوري في الولاياتالمتحدة... وأن ترفع لاحقاً مطلب اطلاق الحريات والسجناء، لأن هذه الخطوة تأخرت كثيراً، وبوش وحده يدعي دفاعه عن الخير في مواجهة شرور الأرض. حتى الآن، الحكم الأميركي يستغرب "تجاهل" دمشق مطالب كثيرة، ومن لبنان الى العراقوفلسطين وملف أسلحة الدمار الشامل، تصر واشنطن على حوار مع سورية، ولكن من جانب واحد: طرف يأمر وطرف لا يعترض... ولا يحتكر وحده تلقي الشروط والانذارات والتهديدات. جاز له الرهان على الوقت، لكنه رهان فاشل طالما الحوار مع إدارة صماء تقود العالم بسياط الرق، ولا تتوقع "لا" بين السيد والتابع. في كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، سيدعو بوش الى حظر العبودية في العالم.