بين ما أبدعت فيه إدارة الرئيس جورج بوش، يقتضي الانصاف أن يُحسب لها اجتهادها في اختراع مصطلحات جديدة في علم السياسة... بل في فنون ادارتها تلك الحرب الكونية على "الارهاب". هي لم تبخل أيضاً على اسرائيل، كلما تطلب الأمر، حتى في انقاذها ومؤازرتها بقاموس مضلّل، يقلب الأسود أبيض، في معركة أطلق عليها البيت الأبيض زوراً معركة الخير والشر، حين انتحل صفة الحاكم العادل للأرض! بعد "الخلايا النائمة" وتلك اليقظة في مقارعة بن لادن وأنصاره، ابتدعت واشنطن تعبير المخيم النشط لعين الصاحب، حيث احتاج شارون المايسترو الأميركي للترويج لذرائع ما فعله بسورية، وما يخطط له هناك، بعدما "سئم" المشاهد المكررة كل يوم في الضفة الغربية وقطاع غزة. هناك يذبح الفلسطينيين كل يوم، "دفاعاً عن النفس" يقول بوش الذي كانت له حربه على العراق، برضا الحليف الاسرائيلي وتحريضه، فجاء دور الأخير ليخوض حربه الكبرى شمالاً، حيث "المخيم النشط". في التفسير الكلاسيكي ان رئيس الوزراء الاسرائيلي ادرك ضجر مواطنيه من ملحمة ذبح "الارهابيين الفلسطينيين"، وانحسار شعبيته، فاختار نقل المواجهة الى "الخارج"، بأسلوب مختلف وبدعم أميركي أكبر. وإذا كانت الغارة الجوية على عين الصاحب اعتبرت مجرد رسالة الى دمشق، لتخويفها بالذراع الطويلة لشارون، فإن مبادرة الخارجية الأميركية الى تكذيب الرواية السورية عن حال الموقع الذي استهدفته الغارة، وكان "مركزاً لتدريب الارهابيين، نشطاً خلال القصف"، تكفي دليلاً دافعاً على قبول واشنطن اختراق شارون خطوط فك الاشتباك مع سورية، بل وتشجيعه على المزيد. لم يعد مجرد تهويل، الكلام على سيناريو أميركي اسرائيلي يفوّض الى شارون توسيع المواجهة مع الفلسطينيين والقفز على التأزم "الروتيني" على الحدود مع لبنان، ليطاول سورية ذاتها. وإذ يضيف الناطق باسم الخارجية الأميركية ريتشارد باوتشر "دليلاً" غامضاً على حقيقة ما كان يعرف بمخيم عين الصاحب، انما يعطي اسرائيل ضوءاً أخضر جديداً، يطلق يدها في استهداف "الأعداء الذين يؤوون الارهاب أينما كان"، بالتالي يعلن ضمناً ان ادارة بوش لا تغفل كل الاحتمالات. وفي اعتقاد دمشق ربما أنها حين تتمسك بحقها في الدفاع عن النفس، انما ترد الكرة الى الملعب الأميركي، لعل بعض العقلاء في الادارة يلجم الاندفاع الجنوني في تبني عدوانية زعيم ليكود، وجوقة المجانين المتطرفين من حوله الذين يعتقدون بأن الوقت حان ل"تأديب" سورية، وممارسة الترهيب بالنموذج العراقي... أميركياً. وبديهي أن دمشق لا يمكنها تجاهل "التحول" المفاجئ ! في موقف بوش الذي اسقط كل تحفظاته عن مشروع المتشددين في الكونغرس ل"محاسبة سورية"، ولا جوهر المشروع الذي يركز على ادعاء "إيواء الارهاب" وتطوير برامج أسلحة الدمار الشامل". وبديهي أيضاً ألا تغيب احتمالات تكرار السيناريو العراقي، بصيغة معدّلة اسرائيلياً، ولو اكتفى شارون بسياسة الضربات الجوية "الاستباقية"... متشجعاً بالقاموس الأميركي، وباستياء الولاياتالمتحدة مما تعتبره "شغباً سورياً" في العراق، ومحاولات للي ذراع "التحالف" على أرضه. قلة تشكك في احتمالات تراجع الكونغرس عن تمرير "محاسبة سورية"، وكذلك في ما عناه باوتشر وهو يأنف سرد تفاصيل ما تعرفه ادارة "الخير" عما كان يحدث في عين الصاحب. ومن قانون المحاسبة الى اصرار شارون على توسيع حربه، ولو بادعاءات كاذبة في معظمها على الأقل تتهيأ ظروف المواجهة المقبلة التي تبدو شبه حتمية، فيما يدرك بوش ان لا أحد سيسائل ادارته عن موضوعية "الأدلة" التي تدين سورية ب"إيواء الارهاب"، ولا عن نوعها، ولا طرف دولياً قادراً على مساءلة رئيس الوزراء الاسرائيلي عن انتهاك ما كان يعرف بالقانون الدولي، ما دام حليفه بوش. ألم يغيّب ذاك الحلف كل صوت في العالم إزاء المذبحة الكبرى في فلسطين؟ حين ارتضى الرئيس الفرنسي جاك شيراك دور العرّاب مع سورية، لنقلها الى مرحلة "الانفتاح"، بدا كأن واشنطن تعوّضه عن دور في العراق. والآن، حين تتخوف باريس من خطأ سوري في قراءة معادلات ما بعد الحرب على العراق، انما تحذر دمشق من الرهان على مفاجآت في المواجهة المكشوفة.