الاشكالية الاساسية في العلاقات السورية - الاميركية ان دمشق تتحدث بمنطق العدل والشرعية وان واشنطن تتحدث بلغة القوة والعنجهية بعد حادث 11 ايلول سبتمبر الذي يعطيها "الحق" للقيام ب"حرب استباقية" ضد اخطار مفترضة. وبين هذين "المنطقين"، هناك مساحة صغيرة جداً للحديث عن المصالح المشتركة والمفاوضات. وسرعان ما تتقلص هذه المساحة مع اقتراب الحملة الانتخابية الاميركية، ليحل محلها تأثير جماعات الضغط اليهودية. تتهم ادارة الرئيس جورج بوش سورية بانتاج اسلحة كيماوية وبيولوجية وبدعم "الارهاب" وبارسال متطوعين الى العراق. وتطالبها بطرد قادة المنظمات الفلسطينية من دمشق وبتفكيك "حزب الله" في لبنان والانسحاب منه ومنع تسلل "الجهاديين" الى العراق. صيغت هذه "المطالب" سياسياً بلائحة قدمها وزير الخارجية كولن باول خلال زيارته دمشق في ايار مايو الماضي، و"تشريعياً" في"قانون محاسبة سورية واستعادة سيادة لبنان" الذي أقره الرئيس بوش بعد حصوله على موافقة وإجماع لافتين من مجلسي النواب والشيوخ في الكونغرس الاميركي. وكان لافتاً ان الفروق ضاقت كثيراً بين "حمائم" ادارة بوش مثل الوزير باول ومساعده لشؤون الشرق الاوسط وليم بيرنز و"صقور" الادارة والكونغرس. فانتقل باول وبيرنز من اقناع بوش بالتدخل لمنع تمرير "قانون المحاسبة" لأنه "يقيد سياسة اميركا" عشية الاعداد للحرب على العراق، الى دعم اجراءات الكونغرس بسبب "عدم الرضا" على سياسة سورية في الاولويات الاميركية في الشرق الاوسط: عملية السلام، العراق، مكافحة الارهاب والاصلاح الداخلي. الرد السياسي على هذه الاتهامات الاميركية سهل من ناحية المنطقية والشرعية: عموماً، ان مشروع "قانون المحاسبة" كان سيحصل على معارضة أكبر لو أنه طرح للتصويت في الكنيست الاسرائيلية، وانه لن يضر بالمصالح السورية مقدار ما يضر بالمصالح الاميركية. علماً ان الكونغرس ليس هيئة دولية بديلة من الاممالمتحدة كي تأخذ بتشريعاته بقية الدول. وتفصيلاً، فان هناك ردوداً "عادلة" في الخطاب السوري على كل مطلب أو اتهام اميركي: أولاً، سورية لا تنتج اسلحة دمار شامل، وقد اقترحت في مجلس الامن مشروعاً لتنظيف الشرق الاوسط من كل أنواع اسلحة الدمار الشامل. ثانياً، دمشق لا تدعم الارهاب، بل هي تعاونت مع واشنطن في محاربة تنظيم "القاعدة" بعد احداث 11 ايلول إذ أدت المعلومات التي قدمتها سورية الى انقاذ حياة اميركيين. ثالثاً، ان سورية كثفت النقاط الحدودية مع العراق، وهي تبذل قصارى جهدها لمنع تسلل ارهابيين الى هناك. لكن هذا صعب من الناحية العملية لاسباب عدة، اذ ان الحدود صحراوية وطويلة وتبلغ اكثر من 600 كيلو متر، حتى ان سورية فشلت في بداية الثمانينات في منع ارسال نظام الرئيس صدام حسين شاحنات مفخخة الى سورية. كما ان الاميركيين اعتدوا على حراس حدود سوريين. وبالتالي في امكان القوات الاميركية القيام بهذه المهمة لان سورية لن ترسل قوات من الجبهة مع اسرائيل الى حدودها الشرقية. رابعاً، ليس هناك وجود عسكري للمنظمات الفلسطينية. كان هناك وجود سياسي واعلامي، لكنه توقف "طوعاً" قبل وصول باول الى دمشق في أيار الماضي، مع ان قادة المنظمات الفلسطينية لا علاقة لهم بالعمل العسكري الذي يخطط له وينفذه اولئك الموجودون في الداخل. سياسياً، ان اسرائيل مسؤولة عن وجود الفلسطينيين في الخارج لأنها طردتهم من اراضيهم وبالتالي ان حل المشكلة يبدأ بالسماح لهم بالعودة الى وطنهم. وعملياً، ان وجود قادة "حماس" و"الجهاد" في الخارج يجعلهم أكثر براغماتية لأن أي قرار سيتخذونه يتطلب اخذ الاعتبارات الاقليمية بالحسبان. خامساً، لا تزال دمشق متمسكة بخيار السلام مع اسرائيل. وهي مستعدة لاستئناف المفاوضات من النقطة التي توقفت عندها في بداية العام 2000 ومستعدة لاقامة "علاقات سلم عادية" مع اسرائيل اذا انسحبت من الاراضي السورية المحتلة الى ما وراء خط 4 حزيران يونيو 1967. هذه الردود صحيحة منطقياً وعادلة اخلاقياً وشرعية قانونياً، لكنها تستند في نظر المحافظين الجدد في واشنطن الى"عالم" ما قبل 11 ايلول وما قبل "الاستراتيجية" الاميركية الجديدة. كان "العالم" يقوم على المصالح المتبادلة وعلى التفاوض والبناء على النقاط المشتركة، كما حصل مثلاً عشية حرب الخليج الثانية برعاية مهندس التبادلية الوزير الأسبق جيمس بيكر. اذ مقابل مشاركة سورية "قوات التحالف الدولي" التي أخرجت الجيش العراقي من الكويت، تعهد الرئيس بوش الاب اطلاق عملية سلام على اساس قراري مجلس الامن 242 و338 ومبدأ "الارض مقابل السلام" وقبول العلاقات الخاصة بين لبنان وسورية. اما الان فان الوضع الدولي-الاقليمي مختلف: المصالح الاميركية اولوية للكون وفق "رؤية" تحالف المحافظين الجدد واليمين المسيحي. ديكتاتورية الرئيس بوش صارت اشبه بديكتاتورية عابرة للحدود. ومثلما لا ترى الانظمة الديكتاتورية سوى مصالحها وان منطقها هو المقدس ويعلو على القوانين والدساتير، فان ادارة الرئيس بوش تضع وعيها في منطقة أسمى وأعلى من شرعية الاممالمتحدة. وكما هو مطلوب من الشعب الخضوع لارادة الزعيم، صار مطلوباً من جميع الدول والحكومات والشعوب الخضوع لمصالح اميركا عموماً وأحياناً لمصالح بوش الضيقة. أي، ان بوش يتوقع من الجميع الرقص على ايقاع حملته الانتخابية. ومثلما تتوقع الانظمة الفردية ولاء المواطن لاتقاء الشر، فان اميركا - بوش تتوقع تقديم كل المساعدات والمعلومات والتعاون في "الحرب ضد الارهاب" لاتقاء شر العبث الاميركي والضغوط السياسية والعسكرية. اميركا الآن تعد الملف السياسي، تختلق الذرائع، تهيئ العالم، تغزو، تحتل، تخلق الفوضى، ثم تلجأ الى الدول الكبرى لمساعدتها على ترتيب فوضاها ونقص خبرتها الاستعمارية. تتجاهل الشرعية الدولية وقوانين الاممالمتحدة ثم تعود اليها عندما تلبي غاياتها. تعلن حالة الطوائ الدولية وحرباً على الارهاب وتنسى شرائع حقوق الانسان عندما تصطدم مع مصلحتها الامنية، لكنها تعلن انها تريد نشر حقوق الانسان والديمقراطية في العالم. ديمقراطية في الداخل وديكتاتورية في الخارج. قد يبدو الرهان على الزمن وبروز قوى واقطاب تنافس القطب الاميركي الاوحد مخرجاً، لكنه مخرج آني وتكتيكي. وقد تبدو الرهانات على خسارة بوش انتخابياً وتقهقر تصورات المحافظين الجدد واتضاح المسافة في التطابق الاسرائيلي - الاميركي حلاً، لكنه حل غير مضمون وغير منطقي.