المراجعة النقدية ضرورة وطنية وقومية، استخلاص الدروس والعبر في مجرى الصراع الدائر مع الاستيطان والاحتلال ضرورة لتجاوز التدهور والخطر الكامن امامنا. لماذا وصلنا الى ما نحن فيه وعليه؟ في مسار منظمة التحرير، الانتفاضة، المقاومة، معارضات وانقسامات، وتناقضات، لماذا وإلى اين؟ والآن ازمة انقسامات السلطة الفلسطينية ومحاور كتل فتح، والحوارات الوطنية المتعددة لتجاوز ما نحن عليه نحو: برنامج وطني جديد وموحد، قيادة وطنية موحدة، حكومة وطنية ام حكومة اللون الواحد. ان مراجعة حاضرنا والقادم علينا ترتبط بأمسنا حتى يومنا تتجاوز اخطاءنا والفتح على سياسة وطنية وقومية مسؤولة، عملية، واقعية، توحيدية تشكل خشبة الخلاص الوطني، واعمدة القياس في صوغ قوانين التقاطع والتناقض مع المحاور الاقليمية والدولية الضاغطة، والحافرة يومياً في عمق اتجاهات الحركة الوطنية الفلسطينية والصراع الفلسطيني الاسرائيلي. في الدورة الثامنة عشرة للمجلس الوطني الفلسطيني 12 - 15 تشرين الاول/ اكتوبر 1988 خضنا صراعاً مريراً، والخلاف على الصياغات الملتبسة للقرارات كما ارادها البعض لم يكن خلافاً شكلياً، هذا ما أظهرته الوقائع لاحقاً. ففي أسس الدعوة لعقد مؤتمر دولي جاء ربط اليمين في المجلس بين القرارين 242 و 338 وبقية القرارات الأممية الاخرى ذات الصلة بالقضية الوطنية الفلسطينية متراخياً. يومها طالبت بربط جدلي بين هذين القرارين، وبقية القرارات الاخرى، وبفضل ملاحظاتنا حمل القرار السياسي بحدود معقولة ما يكفي من الشفافية والواقعية، والاصرار على دور الاممالمتحدة والدول الدائمة العضوية محاضر الدورة. ولكن على رغم كل ذلك، فإن المحذور الذي حاولنا تجنبه سريعاً، وقع بعد ايام معدودة من صدور هذه القرارات، اذ كسرها فريق تونس، وتراجع عنها تحت ضغط صفقة شروط الادارة الاميركية "لتأهيل منظمة التحرير الفلسطينية" من دون علم مؤسساتها ومن وراء ظهرها، باتجاه ما يجري طبخه على مساحة شهور سبقت اعمال مجلسنا الوطني، باتجاه حلول خارج اطار الشرعية الدولية ومرجعيتها فضلاً عن الفلسطينية والعربية، وبإخراج الصدمة الساداتية وتكتيكها، صدمة المفاجأة والامر الواقع، والقرار الانفرادي من دون الاحتكام للمؤسسات الوطنية، واحترام قراراتها والالتزام بها. تمثل ذلك بالرسالة التي وقع عليها عرفات في استوكهولم في 7 كانون الاول ديسمبر 1988، والموجهة الى ستين اندرسن وزير خارجية السويد، والنص المرفق بهذه الرسالة المصاغ باللغة الانكليزية والبارز فيه: "ان منظمة التحرير الفلسطينية على استعداد للتفاوض مع "اسرائيل" على اساس القرارين 242 و338"، و انها "تتعهد ان تعيش مع اسرائيل ضمن حدود آمنة ومعترف بها"، وانها "تنبذ العنف الفردي والجماعي، وارهاب الدولة في كل صورها ولن تلجأ الى شيء من ذلك"... يلاحظ هنا انه تم اشتقاق سياسة على نقيض قرارات مجلسنا الوطني، التي لم يمض عليها عشرون يوماً، وتم اخراج هذه السياسة كأنها بنت لحظتها وساعتها، وبتكتيك الصدمة اياها لتوليد الذهول والارتباك Shock and Awe. الادارة الاميركية اعتبرت الرسالة والتعهد خطوة إلزامية قبل الجلسة الخاصة للجمعية العامة للامم المتحدة في 13 كانون الاول 1988 في جنيف، وطالبت بإعلان لا يحمل أدنى التباس به في خطاب عرفات، وعندما ضمّن عرفات خطابه الشروط الاميركية الثلاثة كما وردت في النص الذي حمله وليم كوانت عضو مجلس الامن القومي الاميركي في عهد كارتر الى شولتز وزير الخارجية في 12 ايلول سبتمبر 1988، ونص الرسالة الى اندرسن في 7 كانون الاول 1988، اعتبر شولتز انها غير كافية، ولذا لن تكون منظمة التحرير مؤهلة للحوار مع الادارة الاميركية، وعلى هذا الاساس طالب شولتز من جديد باعلان دقيق من جانب عرفات، وبعبارات مركزة لقبوله الشروط الثلاثة، ووقع ما طلب فعلاً في 14 كانون الاول 1988 في المؤتمر الصحافي لعرفات في جنيف، حيث قرأ عرفات النص المطلوب والمكتوب بالانكليزية كما وضعته واشنطن الاعتراف بحق "اسرائيل" في الوجود، والتسوية على اساس القرار 242، نبذ العنف الفردي والجماعي. سياسة التنكر للبرامج والقرارات الوطنية المشتركة هي التي اوصلتنا الى الكوارث بالاضافة الى ضمور ومصادرة هامش الديموقراطية في صنع القرار الوطني، وحلول التفرد مكان القيادة الجماعية. لاحقاً حصرت الادارة الاميركية الحوار الرسمي مع منظمة التحرير الفلسطينية بقناة روبرت بيللترو السفير الاميركي في تونس، بينما الحوار الملموس يدور في القنوات السرية ذاتها التي تحدثنا عنها، الحوار الذي اصبح حوارات متوازية مع قناة بيللترو ولم يكن اكثر من تواصل اسئلة وعمليات جمع معلومات عن الاوضاع الداخلية الفلسطينية والعربية، والضغط لوقف الانتفاضة تحت عنوان "تنفيذ شرط نبذ العنف الفردي والجماعي في الضفة والقطاع"، إلى أن تم تجميد الحوار في 30 أيار مايو 1990 بقرار من جيمس بيكر وزير الخارجية الاميركي في اعقاب عملية أكيلي لاورو جبهة التحرير الفلسطينية - ابو العباس لكن القنوات السرية تواصلت ولم تتأثر بوقف الحوار الرسمي. ونشط فيها الرئيس الروماني الاسبق تشاوشيسكو وخصوصاً بعد اندلاع الانتفاضة، تقدمت حكومة ليكود العمل الائتلافية بمشروع شامير 14 أيار 1988 وعناصره الاساسية كانت كالآتي: * حكم ذاتي موسع للسكان لاحظ للسكان من دون سيادة على الارض استناداً لاتفاقات كامب ديفيد، وانتخاب "مجلس فلسطيني" في الضفة والقطاع يتحمل مسؤولية الحكم الذاتي. مرحلة انتقالية من خمس سنوات للحكم الذاتي. * لا وقف للاستيطان وشق الطرق الالتفافية للربط بين المستوطنات. * مفاوضات الحل النهائي مع بدء السنة الثالثة من اتفاق الحكم الذاتي، ووقف الانتفاضة عند الاتفاق على مبادئ الحكم الذاتي. وبعدها طرحت العديد من الاوراق والمبادرات والبدائل ابرزها مشروع النقاط العشر للرئيس المصري حسني مبارك لكنها كانت كلها مشروطة بالآتي: 1- ان تكون المفاوضات مع شخصيات من الضفة والقطاع، فالمفاوضات حول الحكم الذاتي لسكان الضفة والقطاع. 2- لا احد من القدس، ولا أحد من اللاجئين، ولا احد من اعضاء المجلس الوطني الفلسطيني. 3- دور منظمة التحرير الفلسطينية من تحت الطاولة، سري غير مرئي. 4- وقف الانتفاضة. 5- "مناطق مقابل السلام" وليس "المناطق المحتلة مقابل السلام". ونلاحظ في الاوراق والمشاريع المطروحة انها الحلقة الثانية من التسويات الثنائية المنفردة بعدما سقطت حلقة 17 ايار 1983 اللبنانية الاسرائيلية، وعلى النقيض من القرار السياسي لمجلسنا الوطني حول التسوية السياسية والمؤتمر الدولي للسلام 15 تشرين الاول / نوفمبر 1988. مثلت مبادرة الرئيس بوش الاب التي اطلقها في 6 آذار مارس 1991 امتداداً لسياسة واشنطن في الشرق الاوسط، وحلولها التي طالما سعت الى فرضها، استناداً الى كامب ديفيد ومشروع ريغان، واتفاقية 17 ايار 1983، وجاءت صيغة مدريد نسخة عن "صيغة ريغان غورباتشوف" في قمة واشنطن في أيلول 1987 التي عطلتها حكومة ليكود خشية من دور الاتحاد السوفياتي آنذاك. بعدها قام بيكر بجولات مكوكية على منطقة الشرق الاوسط بلغ مجموعها ثماني، وفي الجولة الثالثة كان قد بلور صيغة لمؤتمر السلام على الأسس الآتية: جلسة افتتاحية برعاية الولاياتالمتحدة الاميركية والاتحاد السوفياتي، الاممالمتحدة مراقب صامت، أساس المؤتمر القراران 242 - 338 فقط، والمفاوضات على المسار الفلسطيني الاسرائيلي على مرحلتين: المرحلة الاولى مفاوضات على الحكم الذاتي لسكان الضفة والقطاع بالاستناد الى اتفاقات كامب ديفيد وبمدة خمس سنوات. المرحلة الثانية مرحلة مفاوضات الحل النهائي وتبدأ بعد السنة الثالثة من الحكم الذاتي وتنتهي بسقف خمس سنوات، وتتم على اساس القرار 242، التمثيل الفلسطيني يكون بشخصيات من الضفة والقطاع غير اعضاء في المجلس الوطني الفلسطيني، لا احد من الشتات، لا احد من القدس، يندرج الوفد الفلسطيني ضمن عضوية وفد أردني - فلسطيني مشترك. الحدود، القدس، اللاجئون، الاستيطان، المياه، السيادة على الارض، السيادة السياسية، كلها مواضيع يتم ترحيلها الى مفاوضات المرحلة الثانية الحل النهائي، ودارت صراعات واسعة في الصف الفلسطيني ومؤسسات منظمة التحرير وبين فصائل المقاومة الفلسطينية بأمل مواجهة هذه الخطة لم تحسم، فانسحب بعد الجولة الثالثة من لجنة الحوار مع بيكر ممثلو كل من "الديموقراطية"، "الشعبية"، حزب الشعب، حيدر عبدالشافي، وتواصل طبخ الحوار مع وفد "فتح" فقط برئاسة فيصل الحسيني. وهكذا وصلنا الى المجلس الوطني الفلسطيني بدورته العشرين في ايلول 1991 بانقسام تمثل بثلاثة تيارات: 1- التيار الساعي للانخراط في التسوية الاميركية بالشروط وشكل التمثيل الذي يطرحه بيكر شامير. 2- التيار الوطني الديموقراطي الواقعي الداعي للمشاركة في مؤتمر السلام على قاعدة الشرعية الدولية، ومرحلة تفاوضية واحدة مثل الاردن وسورية ولبنان، وضمان وقف الاستيطان. 3- التيار القومي العام الرافض للمفاوضات من حيث المبدأ. وبرز في المجلس تيار اوسع لتطويق سياسة التسليم بشروط بيكر وشامير، شمل التيار الديموقراطي الثوري والقوى الوطنية المدافعة عن قرارات الاجماع الوطني، واتجاه من "فتح" وقوى قومية وشخصيات وطنية. قرارات المجلس قدمت حلولاً ملموسة ومتوازنة مستندة للشرعية الدولية والاطار الذي اعلنه جورج بوش للتسوية السياسية الشاملة 242، 338، والارض مقابل السلام، فأسس مؤتمر مدريد لا تشمل مبدأ "الارض مقابل السلام". وجاء في نص القرار استعداد منظمة التحرير الفلسطينية للمشاركة في مؤتمر السلام في حال توافرت الأسس الآتية: 1- تطبيق الالتزام بتطبيق الشرعية الدولية على قاعدة الارض مقابل السلام، والحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني. 2- ضمان حق منظمة التحرير الفلسطينية في تشكيل وفدها من داخل الوطن وخارجه، بما فيها القدس، ومشاركته على قدم المساواة مع سائر الاطراف. 3- وقف الاستيطان كشرط لا غنى عنه لبدء عملية السلام. 4- ضمان حضور القدس موضوعاً وتمثيلاً، واستبعاد الحلول الجزئية المنفردة، وضمان التنسيق العربي على هذه الأسس. في الجولة المكوكية الثامنة لجيمس بيكر، طلب لائحة باسماء الفريق الفلسطيني وفق المعايير الاميركية، شخصيات من الضفة والقطاع من دون القدس ولا أحد من منظمة التحرير الفلسطينية، وطالب بالموافقة على المشاركة في المؤتمر تحت سقف وفد اردني فلسطيني، ورقة الدعوة الاميركية اساس التفاوض حول الحكم الذاتي للسكان، خمس سنوات قبل الانتقال الى المرحلة الثانية، من دون وقف الاستيطان ومن دون حضور القدس موضوعاً أو تمثيلاً. لكن المجلس الوطني الفلسطيني رفض شروط بيكر، وأكد على ضرورة تشكيل الوفد من الداخل والخارج بما فيها القدس، وحق تشكيل الوفد يعود الى منظمة التحرير الفلسطينية، حضور القدس موضوعاً وتمثيلاً، ضمان وقف الاستيطان مع بداية اعمال المؤتمر، لكن وبعد ثلاث ساعات فقط من انتهاء الاجتماع علمنا ان بيكر اعلن ان فيصل الحسيني سلمه لائحة بأسماء الوفد الفلسطيني مكونة من 7 اعضاء داخل الوفد الاردنيالفلسطيني "7 خارج الوفد المشترك والكل من الضفة والقطاع وفق المعايير الاميركية الاسرائيلية الليكيودية، وهكذا ذهب جناح "فتح" ومن حوله الى مؤتمر مدريد وفق صيغة ورقة الدعوة الاميركية، في الاطار السياسي والتمثيلي والتفاوضي خلافاً لقرارات مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية القيادة الفلسطينية، المجلس الوطني، المجلس المركزي وبدأ ركضه وراء سراب رحلة الاوهام الاوسلوية. * الامين العام للجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين.