قبل أيام عقد في مدينة الدوحة لقاء عمل بيني وبين الأخ محمود عباس أمين سر اللجنة التنفيذية ورئيس طواقم المفاوضات الفلسطينية، بمشاركة وفد موسع من الجبهة الديموقراطية والسيد ياسين الشريف سفير فلسطين في الدوحة، لم يكن اللقاء مرتباً مسبقاً، وانما تم بناء على وجودنا معاً في الدوحة. وكان فرصة ايجابية للتباحث في القضايا والعناوين المفصلية الراهنة داخل فلسطين وفي الشتات الفلسطيني وفي إطار عملية التسوية ومفاوضات التسوية السياسية. ولا أخفي أن التباينات كانت موجودة خلال اللقاء، إذ يتمسك الأخ محمود عباس بمواقفه المعروفة تجاه مواضيع الوحدة الوطنية والمرجعية الائتلافية. لذا دارت حوارات الاجتماع الطويل حول مناحٍ عديدة، وتم التوصل إلى تقارب في الرؤية حول عدد من المواضيع السياسية الراهنة. كان الأخ محمود عباس أبو مازن في النتيجة المنطقية لحوارنا المشترك مقتنعاً بأهمية منع أي تفرد فلسطيني من أي طرف كان بمصير الوطن والحقوق الوطنية - القومية في إطار مفاوضات الوضع النهائي، وأبلغناه من جهتنا بأن المفاوضات تتطلب قبل كل شيء إطاراً سياسياً جديداً يستند على مرجعية الشرعية الدولية وقرارتها، كما يتطلب الإعداد الفلسطيني المناسب والجديد بما يعني إعادة ترتيب البيت والمؤسسات الوطنية الفلسطينية وإستعادة روح الحياة إلى منظمة التحرير بعدما تهمشت وتقوقعت وتكلست منذ اتفاق أوسلو 1993 وتم اختزالها بالسلطة، ويتطلب كذلك إعادة تشكيل وفود التفاوض على قاعدة ائتلافية وطنية من دون انفراد وتفرد وتحت إدارة مؤسسات منظمة التحرير وإشراف هيئة وطواقم ائتلافية وطنية على كل محاور المفاوضات: القدس، اللاجئون، الاستيطان، السيادة على الأرض، الحدود، المياه العلاقات مع دول الجوار. كما أكدنا في حوارنا مع أبو مازن بأن مفاوضات التسوية السياسية لا يمكن ان تسير وتندفع في مسارها الصحيح من دون العودة الفعلية الى المرجعية الدولية وقرارات الأممالمتحدة كما تحدد في بيان القاهرة 23 آب/ اغسطس بين الجبهة الديموقراطية و "فتح" والسلطة برئاسة الأخ ياسر عرفات، ومن دون ذلك تصبح مفاوضات مساراً متعرجاً ومحفوفاً بالاهتزازات التي لا توفر الاستقرار ولا تقود إلى السلام الشامل. وأكدنا مع أبو مازن مخاطر الوصول إلى "اتفاق إطار" آخر يعاد من خلاله استنساخ نهج أوسلو وسياسة الخطوة خطوة ولفترة انتقالية أخرى من 5-10 سنوات، كما يطرح باراك. وهنا أظهر الأخ محمود عباس تشاؤمه من إمكان التوصل إلى إتفاق الإطار كما هو محدد في شباط فبراير 2000. أكثر من ذلك، أقول أنه مقتنع، كما أبدى لنا، بأن المسار التفاوضي مع حكومة باراك وفق الصيغة القائمة سيتعثر. في المحصلة بقي اللقاء في نطاق التشاور المشترك وفي الوجهة ذاتها التي تحاورنا خلالها في القاهرة في آب الماضي، وفي الحدود التي عبرنا ونعبر من خلالها على موقفنا المعلن بأن مفاوضات الحل الدائم تعني كل الشعب وكل قواه السياسية في الداخل والشتات، وأنه لا يحق لأي طرف فلسطيني أن ينفرد بها أو أن يقرر وحيداً مصير الشعب والوطن. لذا فإننا نعيد التأكيد بأننا شركاء في تقرير مصير وطننا وقضية حقوق الشعب بالخلاص من الاحتلال والاستيطان، والاستقلال في حدود 4 حزيران يونيو 1976 في دولة عاصمتها القدس، وعودة اللاجئين عملاً بقرار الأممالمتحدة 194. تماماً كما كنا دوماً شركاء في العملية الكفاحية الفلسطينية منذ نهوض المقاومة المسلحة والسياسية رداً على هزيمة حزيران في الستينات وحتى اللحظة. وكما أن مفاوضات الحل الدائم تعني كل شعبنا وكل ائتلاف منظمة التحرير، فإن هذه المفاوضات لا بد لها من تحديد لإطارها المرجعي ووضعها تحت المظلة الدولية وقراراتها ذات الصلة 242، 338، 194، 237، 252 الخاص بالقدس، و465 الخاص بالاستيطان وهذا لم يتم حتى الآن، لأننا بدون ذلك نضع أنفسنا تحت سقف المعادلة الإسرائيلية وخريطة باراك للحل الدائم، وتحت سقف لاءاته الستة المعروفة التي طوقها بإعلانه ان قرار 242 لا ينطبق على الضفة والقطاع كما هي حال سيناء والجولان والأردن، وإعلانه ان الاستيطان لن يتوقف. عند التوافق على الصيغة الدولية والائتلافية، كما جاء في بيان القاهرة 23 آب 1999، نكون شركاء اصيلين في مفاوضات متوازنة للحل الدائم على أساس الإطار المرجعي الدولي وتحت قيادة وإشراف منظمة التحرير الائتلافية. وعندما طلب أبو مازن من الجبهة الديموقراطية التوجه إلى مفاوضات الحل الدائم من خلال لجان المفاوضات ورفدها بالاختصاصيين من أعضاء الجبهة الديموقراطية، أجبناه على الفور بأن المسألة ليست موضوع أشخاص ذوي اختصاص بمواضيع المفاوضات، مع أن هذه قضية مهمة، فالمشكلة ليست فقط في الأداء التفاوضي البائس موضع غضب شعبنا كما موضع الانتقاد العربي، وآخر نقد مرير ورد على لسان الدكتور اسامة الباز مستشار الرئيس مبارك قبل أيام، إلا أن الموضوع السياسي المرجعي الوطني والدولي هو الموضوع الأهم والضروري والذي عليه يتوقف الدور الفلسطيني في قيادة دفة العملية التفاوضية ومواجهة الضغط الإسرائيلي الهادف لكسب المزيد من التنازلات وفرض التراجعات والتداعيات التي لم تتوقف طوال ستة سنوات من مسار سياسة الخطوات الصغيرة والأوسلوية ومن المنظور ذاته ما طرحه باراك في قمة أوسلو الثلاثية في 2 تشرين الثاني نوفمبر 1999 بحضور كلينتون. والآن، في السياق ذاته من تطور الأوضاع الفلسطينية في فلسطين، نتطرق إلى الضجيج الذي أثاره بيان الشخصيات العشرين في الضفة والقطاع حول الفساد في مفاصل أجهزة السلطة. منذ عام 1997 ونحن نتحدث عن الانفجار الاجتماعي في صف شعبنا نتيجة الفساد وسرقة المال العام وتضخم "القطط السمان" إلى "حيتان كبار" على حساب جوع الشعب والبطالة الهائلة. ومنذ فترة طويلة تتحدث كل الهيئات والمؤسسات الفلسطينية في الداخل، في تقاريرها ونشاطاتها، عن استشراء الفساد في أجهزة السلطة ومؤسساتها. ومنذ عام 1997 صدر تقرير الفساد الشهير عن المجلس "الاشتراعي"، وفيه يحمل المسؤولية إلى كل مجلس السلطة، مطالباً بإحالة سبعة من كبار وزراء السلطة وبالأسماء إلى المحاكمة ويوجه لهم أصابع الاتهام بهدر المال العام وسرقة خبز الشعب، ويطالب بإقالة كل مجلس "وزراء السلطة". وبعد مماطلة 14 شهراً تم تثبيت نفس المجلس وإضافة طابق جديد للفساد من "عشرة وزراء". نخوض في فلسطين إلى جانب كل قوى شعبنا وشخصياته الوطنية، صراعاً ضد الفساد واستشرائه في أجهزة السلطة، وضغطنا ونداؤنا مفتوح ومعلن ومتواصل بإحالة كل الوزراء الفاسدين إلى المحاكمة لمحاكماتهم علناً وبحضور بعثة من الأممالمتحدة والاتحاد الأوروبي ولجان حقوق الإنسان وإلى محاربة ومواجهة كل أشكال التعدي على الحق العام بما في ذلك التعدي على الرأي الآخر. وأوضح لكم بأننا في حوارات القاهرة 22-23 آب 1999 بين وفد "فتح" والسلطة برئاسة الأخ ياسر عرفات من جهة، والجبهة الديموقراطية برئاسة حواتمة من الجانب الآخر، تناقشنا مطولاً وطالبنا بضرورة إطلاق سراح كل معتقلي الرأي الآخر وتحريم الاعتقال السياسي واحترام التعددية السياسية، لأنه بهذه التعددية واحترام الرأي الآخر نستطيع ان نحاصر عمليات الفساد والتخريب ونتمكن من مأسسة مجتمعنا الفلسطيني. وفي موقفنا رداً على اعتقاد عدد من موقعي بيان العشرين الأخير دعونا للافراج الفوري ورفع الإقامة الجبرية عن الشخصيات التي وقعت البيان وردع العدوان والبلطجة مع الرأي الآخر، وإلى احترام حرية التعبير كقاعدة من قواعد الحريات الديموقراطية المنصوص عليها في إعلان الاستقلال تشرين الثاني 1988، وكل القرارات المشتركة لمجالسنا الوطنية والمؤسسات الائتلافية. معتبرين أن الأمر يتعلق بالحقوق الأساسية للمواطن بمعزل عن مضمون أي بيان أو موقف وكيفية التعاطي مع ما يمكن أن يرد فيه من وجهات النظر قد يكون هناك اختلاف معها أو مع جزء منها. ولكن الأمر لا يُعالج بوسائل القمع. تصحيح أو لا تصحيح المسار الفلسطيني - الفلسطيني، هذا هو مأزق عنق الزجاجة الذي تمر به السلطة والمعارضة، بل تمر به ايضاً كل مصائر الوطن والشعب في هذه المرحلة. وعليه نبني معمار حلولنا وبدائلنا على قاعدة إعلان القاهرة نحو الحوار الوطني الشامل لاستخلاص حلول القواسم المشتركة ببرنامج سياسي وطني موحد وجديد لإعادة كل الاستراتيجية النضالية الموحدة في صف الشعب وائتلاف الاجماع الوطني، وإعادة بناء كل العملية التفاوضية على قاعدة الالتزام قولاً وعملاً بتطبيق قرارات الشرعية الدولية، وعلى أيدي مظلة وإدارة الائتلاف الوطني العريض مقابل ائتلاف حكومة باراك وطواقم الاشراف والتوجيه الائتلافية من قادة أحزاب وكتل الائتلاف الحكومي التي شكلها باراك برئاسته في 4/12/1999. إن اشراف مظلة الشرعية والمرجعية الدولية يشكل بديلاً عن الضياع والتداعي في زواريب الخطوة الصغيرة مقابل الاشتراطات الإسرائيلية الثقيلة وإعادة استنساخ مسار أوسلو تحت عنوان "اتفاق انتقالي آخر مدته بين 5-10 سنوات"، و"التفاوض على القضايا الكبرى: القدس، اللاجئين، الحدود، الاستيطان بين 10-20 سنة"، كما طرح باراك في قمة أسولو الأخيرة ويطرح في مفاوضات "قناة الخط الساخن" بينه وبين الأخ ياسر عرفات. إن سراب سقف أيلول سبتمبر 2000 ل "الحل الدائم" لا يخدع حكومة إسرائيل بل الرأي العام الفلسطيني والعربي والدولي لتمرير تداعيات فلسطينية واقليمية وعربية. * الأمين العام للجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين