الإحصاء: إيرادات القطاع غير الربحي في السعودية بلغت 54.4 مليار ريال لعام 2023م    وزير الخارجية يصل الكويت للمشاركة في الاجتماع الاستثنائي ال (46) للمجلس الوزاري لمجلس التعاون    السعودية رئيسًا للمنظمة العربية للأجهزة العليا للرقابة المالية والمحاسبة "الأرابوساي" للفترة ( 2025 - 2028 )    الذهب يرتفع بفضل ضعف الدولار والاضطرابات الجيوسياسية    استمرار هطول أمطار رعدية على عدد من مناطق المملكة    استخدام الجوال يتصدّر مسببات الحوادث المرورية بمنطقة تبوك    استشهاد خمسة صحفيين في غارة إسرائيلية وسط قطاع غزة    الفكر الإبداعي يقود الذكاء الاصطناعي    السعودية وكأس العالم    صوت حياة    «الإحصاء»: 12.7% ارتفاع صادرات السعودية غير النفطية    حملة «إغاثة غزة» تتجاوز 703 ملايين ريال    بلادنا تودع ابنها البار الشيخ عبدالله العلي النعيم    الحمدان: «الأخضر دايماً راسه مرفوع»    المملكة ترحب بالعالم    رينارد: مواجهة اليمن صعبة وغريبة    حائل.. سلة غذاء بالخيرات    وطن الأفراح    حلاوةُ ولاةِ الأمر    "الثقافة" و"الأوقاف" توقعان مذكرة تفاهم في المجالات ذات الاهتمام المشترك    أهازيج أهالي العلا تعلن مربعانية الشتاء    مكتبة الملك عبدالعزيز وجامعة الأميرة نورة تطلقان معرض الإبل    شرائح المستقبل واستعادة القدرات المفقودة    نجران: «الإسعاف الجوي» ينقل مصاباً بحادث انقلاب في «سلطانة»    أمير نجران يواسي أسرة ابن نمشان    ملك البحرين: علاقاتنا بالسعودية أخوية ومميزة    حل الفصائل.. خطوة سورية على الطريق الصحيح    مليشيات حزب الله تتحول إلى قمع الفنانين بعد إخفاقاتها    63% من المعتمرين يفضلون التسوق بالمدينة المنورة    منع تسويق 1.9 طن مواد غذائية فاسدة في جدة    العناكب وسرطان البحر.. تعالج سرطان الجلد    5 علامات خطيرة في الرأس والرقبة.. لا تتجاهلها    الزهراني وبن غله يحتفلان بزواج وليد    الدرعان يُتوَّج بجائزة العمل التطوعي    أسرتا ناجي والعمري تحتفلان بزفاف المهندس محمود    فرضية الطائرة وجاهزية المطار !    المأمول من بعثاتنا الدبلوماسية    «كانسيلو وكيسيه» ينافسان على أفضل هدف في النخبة الآسيوية    في المرحلة ال 18 من الدوري الإنجليزي «بوكسينغ داي».. ليفربول للابتعاد بالصدارة.. وسيتي ويونايتد لتخطي الأزمة    لمن لا يحب كرة القدم" كأس العالم 2034″    تدشين "دجِيرَة البركة" للكاتب حلواني    مسابقة المهارات    إطلاق النسخة الثانية من برنامج «جيل الأدب»    نقوش ميدان عام تؤصل لقرية أثرية بالأحساء    وهم الاستقرار الاقتصادي!    أفراحنا إلى أين؟    آل الشيخ يلتقي ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة والزيارة    اطلاع قطاع الأعمال على الفرص المتاحة بمنطقة المدينة    ما هكذا تورد الإبل يا سعد    واتساب تطلق ميزة مسح المستندات لهواتف آيفون    اكتشاف سناجب «آكلة للحوم»    دور العلوم والتكنولوجيا في الحد من الضرر    خادم الحرمين وولي العهد يعزّيان رئيس أذربيجان في ضحايا حادث تحطم الطائرة    منتجع شرعان.. أيقونة سياحية في قلب العلا تحت إشراف ولي العهد    مفوض الإفتاء بجازان: "التعليم مسؤولية توجيه الأفكار نحو العقيدة الصحيحة وحماية المجتمع من الفكر الدخيل"    نائب أمير منطقة مكة يطلع على الأعمال والمشاريع التطويرية    نائب أمير منطقة مكة يرأس اجتماع اللجنة التنفيذية للجنة الحج المركزية    إطلاق 66 كائناً مهدداً بالانقراض في محمية الملك خالد الملكية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نظام "الانقاذ" يتيم تخلى عنه صناعه فأين المخرج في السودان بعد حصاد التجربة المرة ؟
نشر في الحياة يوم 23 - 07 - 2003

قال الفريق البشير أمام جماعة سمت نفسها الهيئة الشعبية للدفاع عن العقيدة والوطن في حزيران يونيو المنصرم: "كنا شموليين وتسلطيين ونقبض ونجلد ونسجن"... الخ
أما الدكتور حسن الترابي ففي خطابه أمام جامعة القرآن الكريم في العام 1999، ثم في بيان أصدره لمناسبة مرور عام على تأسيس حزبه الجديد المؤتمر الشعبي في العام 2000، ثم كتابه الصادر هذا العام في عنوان "السياسة والحكم"، فإنه وصف نظام "الإنقاذ" أوصافاً ماثلت ما قالته المعارضة الديموقراطية السودانية. إن كتاب الدكتور حسن الترابي الأخير يمكن أن يعتبر إدانة مركزة لكل ما يتعلق ب"الإنقاذ"، إدانة للانقلاب العسكري، وللحزب الواحد، وللأيديولوجيا المتسلطة، وللأمن المطلق اليد ولقهر الآخر السياسي والمذهبي والمللي، وللسياسات الدولية العدائية. إدانات لهذه الممارسات باعتبارها منافية للإسلام جملة وتفصيلاً وإن لم يذكر "الإنقاذ" بالاسم. "الإنقاذ" نظام يتيم أنكره والداه ومهما كان صدقهما فإن هذه حسنة.لكن سياسات نظام "الإنقاذ" خلقت واقعاً ما زال ماثلاً ومؤثراً في حياة البلاد السياسية.
عندما وقع الانقلاب وجد مشروع سلام متفقاً عليه يوشك أن يُعقد بموجبه مؤتمر قومي دستوري في 18/9/1989، لكن النظام الجديد قضى على فكرة القومية وصنف كل القوى السياسية التي كانت تحكم السودان ديموقراطياً باعتبارها أعداء للدين والوطن، واعتبر جماعة المقاومة المسلحة كفاراً معتدين فأعلن ضدهم الجهاد. هذا التشدد كانت له نتائج أهمها:
1- سياسة أمنية إقصائية أجبرت القوى السياسية على النزول تحت الأرض للعمل السري والهروب خارج الوطن للسلامة أو لتنظيم النشاط المضاد. وفي ظل هذه السياسة نشأ نوع جديد من الهجرة السودانية: إعادة التوطين فاستقرت أعداد كبيرة من السودانيين في البلدان الغربية.
2- زيادة حدة الحرب الأهلية وبروز الدور الديني فيها وتضامن المسيحيين السودانيين والأفارقة والغربيين لنجدة إخوتهم في السودان.
3- تصاعد أو توسع الحرب الأهلية أدى الى زيادة عدد النازحين داخلياً من مناطق العمليات الحربية، ما زاد الحاجة في المناطق المتأثرة بالحرب ومناطق استقرار النازحين الى الإغاثات الإنسانية فنشطت المنظمات الكنسية والغربية أكثر من غيرها لتلبية حاجاتهم إلى درجة صرف حوالى مليون دولار يومياً على الإغاثات.
4- وتمشياً مع أجندة التشدد الديني تطلع النظام في ذلك الوقت الى جعل السودان منصة القفز نحو الحل الإسلامي عالمياً، ما أدى الى تكوين المؤتمر الشعبي الإسلامي العربي 1993 لتؤمه حركات الغلو الإسلامي من كل حدب وصوب. هذه التطورات، ضمن عوامل أخرى أهمها محاولة اغتيال الرئيس حسني مبارك في حزيران يونيو 1995، جلبت للنظام تهمة الإرهاب الدولي.
5- إذاً، هنالك أربعة عوامل لفتت الدول الغربية الى النظام في السودان وجعلت موقفها منه جزءاً من اهتماماتها الداخلية وسياساتها الخارجية. تلك العوامل هي:
أ التعديات على حقوق الإنسان التي تبنت إبرازها منظمات حقوق الإنسان الطوعية ولجنة الأمم المتحدة المعنية بحقوق الإنسان.
ب تنظيم الإغاثات الإنسانية وآليات جمع الأموال وصرفها بصورة ترضى عنها الجهات المانحة.
ج اهتمام الكنائس السودانية فالأفريقية فالغربية بقضايا الاضطهاد الديني في السودان وتنظيم أنشطة لحماية المسيحيين ومواجهة سياسات النظام.
د اهتمام الجهات الدولية المعنية بالإرهاب وبالدور السوداني، لا سيما وكثير من رموز الإرهاب حصلوا على تسهيلات سودانية من جوازات وإقامات ومعسكرات وغيرها.
هذه العوامل الأربعة تمثل وجهاً من وجوه تدويل الشأن السوداني كأثر مباشر لسياسات نظام "الإنقاذ".
6- قبل قيام نظام "الإنقاذ" كنا نتفاوض مع الحركة الشعبية من أجل السلام تفاوضاً مباشراً لم يحضر جلساته ولم يتوسط توسطاً مباشراً فيه أجانب. وكان اللقاء الماراثوني بيني وبين الدكتور جون قرنق ووفدينا في أديس أبابا في تموز يوليو 1986 اجتماعاً سودانياً خالصاً.
7- لم يشأ النظام الجديد بعد الانقلاب أن يؤسس على عملية السلام التي وجدها في مراحلها الأخيرة بل دانها، وفي كثير من التصريحات اعتبر النظام الديموقراطي مفرطاً في الشريعة الإسلامية، وعبر عن دوره الإنقاذي دفاعاً عن العقيدة المعرضة للخطر في نظره.
ووسع النظام الفجوة وعمقها، لذلك احتاج الى طرف ثالث عندما أدرك أنه محتاج الى سياسة سلام إلى جانب سياسة الحرب الجهادية التي أججها.
بدأ هذا الدور بالرئيس الأميركي السابق جيمي كارتر، ثم تيني رولاند صاحب شركة "لونرو" البريطانية، ثم الرئيس النيجيري السابق إبراهيم بابا نجيدا، لكن التفاوض من طريق هؤلاء الوسطاء لم يحقق شيئاً.
وبعد تعثر وساطات أبوجا قدر النظام أن حجر العثرة في التفاوض هو موقف جون قرنق المتشدد. لذلك قرر النظام التعاون مع العناصر داخل حركته التي لم تكن راضية عن قيادته، لا سيما بعد سقوط حليفه الداعم لموقفه الرئيس الأثيوبي السابق منغستو.
علاقة الدكتور جون قرنق بمنغستو كانت قائمة على أساس أن حركته هي حركة لتحرير السودان وليست حركة انفصالية. فأثيوبيا هي عاصمة الوحدة الإفريقية وتواجه حركة انفصالية في الشمال، لذلك يستحيل عليها التعاون مع حركة انفصالية في السودان.
ولكن، في صفوف الحركة الشعبية لتحرير السودان عناصر كثيرة معنية بتحرير الجنوب فحسب، لذلك تجاوب المفاوض باسم النظام مع آراء هؤلاء ووقع مع قادتهم رياك مشار ولام أكول اتفاقاً على تقرير المصير للجنوب في العام 1991.
مطلب تقرير المصير هذا وجد استجابة واسعة في الأوساط الجنوبية كافة، باعتبار أن النظام السوداني حدد للسودان هوية إسلامية عربية وبذلك لم يترك لمن ليسوا عرباً ولا مسلمين قبولاً في سودان موحد، ما أوجب البحث عن مصير آخر.
وفي العام 1993 وجه السناتور الأميركي هاري جونستون للقوى السياسية الجنوبية كافة دعوة للاجتماع في واشنطن لتحديد موقفهم في ضوء المستجدات في السودان فاتفقوا جميعاً على أن مطلب تقرير المصير هو ردهم على سياسات النظام الاقصائية.
8- هكذا زادت الحرب الأهلية ضراوة واتسعت الفجوة السياسية بصورة غير مسبوقة بين أطراف النزاع في السودان.
خاطب النظام السوداني زملاءه في الهيئة الحكومية للتنمية الإيغاد المكونة من دول القرن الإفريقي في أواخر العام 1993 للتوسط من أجل السلام فتوسطوا، ولكن، للمرة الاولى اتخذ التوسط شكلاً تحكيمياً فاشترطوا أن يوقع الطرفان حكومة السودان والحركة الشعبية على إعلان مبادئ مكون من ست نقاط خلاصته أن يتفق على سودان ديموقراطي علماني موحد أو يمنح الجنوب حق تقرير المصير.
لم يشأ النظام السوداني التوقيع على هذه المبادئ في العام 1994 عندما قدمها الوسطاء واستمر امتناعه ثلاث سنوات حتى وقع عليها في العام 1997.
مبادرة الإيغاد، وهي مبادرة إقليمية، عانت أمرين: الأول خلافات بين أعضائها والثاني قلة المصادر المالية.
لقد أوضحنا كيف أن دول الغرب صارت معنية بالشأن السوداني لذلك هرعوا لمساعدة الإيغاد فكونوا "منبر أصدقاء الإيغاد" من أميركا والاتحاد الأوروبي وكندا واليابان. ثم تعاظم دورهم فصار المنبر "منبر شركاء الإيغاد".
هذه التطورات تمثل وجهاً آخر من وجوه تدويل الشأن السوداني. هكذا اقتحم الساحة السياسية السودانية نتيجة سياسات نظام "الإنقاذ" أمران لم يوجدا قبل العام 1989 هما حق تقرير المصير والتدويل.
9- كنا في المعارضة انتقدنا إطار مبادرة الإيغاد لأنها حصرت التفاوض بين طرفين هما الحكومة والحركة الشعبية وجيشهما، وركزت على مسألة إنهاء الحرب من دون اهتمام كافٍ بنظام الحكم الشرعي للسودان، وغيبت تماماً جيران السودان في شمال أفريقيا.
لذلك ناشدنا مصر وليبيا القيام بمبادرة تصحيحية فأقدمت ليبيا على ذلك ودعت مصر لمشاركتها فاتفقا على المبادرة المشتركة في آب أغسطس 1999. وهناك أربعة عيوب شابت المبادرة المشتركة هي:
أ إسقاطها مسألة تقرير المصير التي صارت مطلباً جنوبياً إجماعياً يعتبرها بعضهم طريقاً للانفصال ويعتبرها أكثرهم شرطاً جزائياً لاقتضاء الالتزام بمطالبهم.
ب عدم الاهتمام بإشراك دول أفريقية جنوب الصحراء فيها.
ج عدم إشراك أعضاء الأسرة الدولية المهتمين بالشأن السوداني لأسباب موضوعية ذكرناها.
د عدم تكوين آلية للتحرك كمفوض وسكرتارية ولجان متخصصة وصندوق لتمويل تحركها.
لكن المبادرة المشتركة مع إخفاقها أفلحت في إثارة مبادرة الإيغاد وشركائها لمراجعة موقفهم وتنشيط مبادرتهم.
القرار السياسي في الدول الغربية لا سيما في الولايات المتحدة يمر بمرحلة بحثية فكرية، وقد بدا واضحاً أن الدور الأميركي في الشأن السوداني محتاج الى مراجعة، لذلك أجرى مجلس دراسات الاستراتيجية الدولية الأميركي في أواخر عهد الرئيس السابق كلينتون دراسة للمسألة السودانية صدر بموجبها تقرير أهم ما فيه هو أن تتحول سياسة الولايات المتحدة من احتواء النظام السوداني وعزله إلى الحوار والبحث عن اتفاق سلام.
هذا التوجه تقبلته الإدارة الأميركية الجديدة واهتمت بوساطة الإيغاد ذات الرافع الدولي ودعمت الرافع الدولي برافع أميركي. هذه التطورات هي التي أدت إلى اتفاقيات بناء الثقة الأربع بواسطة الشيخ الأميركي جون دانفورث في تشرين الثاني نوفمبر 2001 ثم بروتوكول مشاكوس في نيسان أبريل 2002 واتفاقية حماية المدنيين، ثم في بروتوكولات عن توزيع السلطة والمشاركة في الثروة وهكذا. والذي ينبغي توضيحه هو أن هذه الاتفاقيات ليست نتيجة حوار موضوعي بين طرفي النزاع السودانيين بل استحدث أسلوب توسط هو خليط بين توسط وتنوير وتحكيم وضغط.
10- بلغ الضغط مداه عندما أصدر الكونغرس الأميركي قانون سلام السودان في تشرين الثاني نوفمبر 2002. هذا القانون يمثل ضغطاً على طرفي التفاوض السوداني بصورة أكثر كثافة على الحكومة، ويفصل عقوبات للنظام السوداني سياسية واقتصادية وجنائية، والقانون يفرض على الرئيس الأميركي أن يقدم للكونغرس الأميركي كل ستة أشهر تقريراً يصف فيه حال تقدم مفاوضات السلام وما إذا كانت تسير بخطى جادة أم لا.
وفي شباط فبراير الماضي كان التقرير إيجابياً، وعلى الرئيس الأميركي أن يقدم تقريراً آخر في آب المقبل 2003. فإذا قرر أن الحكومة - مثلاً - تعرقل السلام فإن هذا يكفي لوضع قانون سلام السودان موضع التنفيذ.
11- قبل بروتوكول مشاكوس ازدحمت الساحة السياسية السودانية بدينامية متطلعة للتغير في أوضاع البلاد وازدحمت الساحة الخارجية بعشرات حلقات النقاش ومنابر الدراسة والمؤتمرات المعنية بالشأن السوداني، وكلها أنشطة غربية المبادرة والتمويل.
وبعد بروتوكول مشاكوس زادت هذه الأنشطة فأقدم المنبر السوداني المدني على عقد أربعة مؤتمرات في كمبالا واستطاع أن يوحد الرأي العام الكنسي مع عناصر مدنية أخرى في كمبالا 1 شباط 1999؟ كمبالا 2 تموز 2000، كمبالا 3 آذار مارس 2002، كمبالا 4 تشرين الثاني نوفمبر 2002.
وتجمع عدد من أبناء السودان من المناطق الأقل حظاً في التنمية في ألمانيا وكونوا "الاتحاد السوداني للأغلبية المهمشة" في نيسان 2003.
واستطاع أكبر الأحزاب السياسية السودانية، حزب الأمة، أن يعقد مؤتمره العام في حركة دعمت الزخم السياسي في السودان.
وفي نيسان 2003 اندلعت حركة مسلحة في دارفور ذات أهداف سياسية ولفتت الأنظار بأعمال درامية لمطالبها السياسية.
ومنذ إبرام بروتوكول مشاكوس صار النظام السوداني يتصور مستقبل البلاد بعد اتفاقية السلام في شكل تحالف ثنائي بينه وبين الحركة الشعبية في حكم ثنائي للبلاد.
وربما كان هذا التصور وارداً في ذهن الحركة الشعبية في مرحلة ما. لكن الحركة الشعبية أظهرت أنها لصيقة بالتطورات السياسية على الساحة السودانية، فأدركت ضرورة التعاطي مع هذه المستجدات بينما نأت الحكومة عنها تماماً، بل اتخذت الحكومة منها مواقف عدائية جعلتها أقرب الى التحالف مع الحركة الشعبية.
وفي الساحة الخارجية تكثفت الأنشطة البحثية والدراسية المعنية بالشأن السوداني، وكان آخرها ندوة اكسفورد في آيار مايو 2003 وورشة أديس أبابا في حزيران 2003 الورشة التي كانت أشبه بمؤتمر سياسي دستوري سوداني بمشاركة أفريقية وغربية.
وما يمكن أن يلاحظ هنا هو أن وجود الحركة الشعبية في هذه الأنشطة أكبر من الوجود الحكومي. والتعاطف معها بين المنظمين للمنشط والحاضرين أكثر من التعاطف مع الحكومة في القضايا المطروحة كافة.
12- المعلوم لدى الوسطاء أن طرفي النزاع المسلح، الحكومة والحركة، يمثلان طرفي النقيض في السياسة السودانية، وأن بينهما ما صنع الحداد، وأنهما إن تركا وحدهما لن يتقدما خطوة الى الأمام، ما جعل الوساطة تتخذ طابع التحكيم. وبعد أن وصلت الأمور الى ما وصلت إليه اعتبر الوسطاء أن المناخ مهيأ لخطوة عملاقة الى الأمام لإبرام اتفاقية سلام.
لذلك قام سكرتير عام الإيغاد الجنرال سيمبويو باتصالات واسعة بالحكومة ثم بالحركة للاستماع الى آرائهما وتقديم مشروع اتفاق يحسم ما بقي من نقاط ويضع الأساس لاتفاقية السلام النهائية. وهذا هو ما فعله وقدمه فقبلته الحركة في جوهره ورفضته الحكومة في جوهره وطلب منهما الوسيط مشاورة رئاساتهما وتقديم رد مكتوب الى اللجنة في اجتماع لاحق في 23/7/2003.
13- القوى السياسية السودانية غير الممثلة في هذه المفاوضات نشطت منذ كانون الاول ديسمبر 2002 لدراسة قضية السلام والتحول الديموقراطي للاتفاق الذي وصف بأنه الاتفاق الشعبي. والهدف هو أن يقوم هذا الاتفاق بدور فكري وسياسي يضغط على طرفي التفاوض والوسطاء برأي سياسي عريض القاعدة. وقدمت في هذا السبيل مشروعات قربت بين وجهات النظر وحظيت بتوقيع عدد كبير من الأحزاب والأشخاص.
لقد تشكل رأي سوداني عام حول أهم نقاط النزاع، ما جعل الشعب السوداني الحاضر - الغائب في مفاوضات السلام الثنائية.
14- ولكن، ماذا بعد تعثر المحادثات وتصريحات قادة النظام الرافضة رفضاً حاداً مشروع الاتفاق الذي قدمه الوسطاء؟
إن موقف الحكومة الحاد هذا لا مبرر له إلا إذا تغلب طرف داخل الحكومة غير مقتنع باتفاقية السلام ويبحث عن ذرائع للتخلي عن المشروع. وكان واضحاً للحكومة أنها إزاء اتخاذ قرارات صعبة، وكان المتحدثون باسمها يقولون ذلك صراحة.
الحقيقة هي أن النظام، وعلى ألسنة المتحدثين باسمه أبدى درجة عالية من التقلب في المواقف، من تفاؤل مبالغ فيه إلى تشاؤم مبالغ فيه في الاتجاه الآخر، وفي الحالين كانت درجة الانفعال عالية جداً. مثلاً، بعد لقاء البشير - قرنق في كمبالا في أيار مايو 2003 أعلن قادة النظام تفاؤلاً عظيماً وبشروا قواعدهم باتفاق ثنائي يكتب للنظام عمراً جديداً. ولكن، لدى حدوث مستجدات ميدانية عاد النظام الى لغة الإدانة والإقصاء.
وبعد "إعلان القاهرة" في 24/6 الذي استقبله بعض قادة النظام بنفسٍ هادئ يشبه الترحيب، انقلب النظام على نفسه ونظم حملة تكفير وتخوين، وخصّ زعيمي "الأمة" و"الاتحادي الديموقراطي" بما قاله مالك في الخمر.
الحملة المسعورة التي أطلقتها الحكومة على "إعلان القاهرة" زائفة لأنها تدينه باعتباره دعماً لعلمانية العاصمة، والإعلان نصّ على قوميتها. العلمانية تعني إبعاد الدين. والقومية تعني العدل بين الأديان. وهي حملة زائفة لأن قومية العاصمة إذا اعتبر تنازلاً لغير المسلمين فإن ما أجراه النظام من "تنازل" في نصوص دستوره أبلغ من هذا لأن الدستور يسمح بأن تترأس السودان امرأة على دين غير كتابي إذا انتخبت.
بعد زيارة الجنرال سيمبويو للخرطوم في أيار الماضي وعلى طول شهر حزيران بالغ عدد من قادة النظام في تأكيد أن السلام آت قريباً، وأن وفد التفاوض الحكومي لمحادثات 6 تموز 2003 أعطى تفويضاً تاماً للتوقيع. ثم جاء الموقف الأخير والانفعال بلا حدود والهجوم على الوسطاء والعودة الى لغة المربع الأول الإقصائية وهي عنتريات لا تسمن ولا تغني من جوع!
على النظام في هذا المنحنى المصيري أن يقف وقفة جادة مع الذات مدركاً أن أنشطة التوسط الحالية كافة متأثرة سلباً بسياسات النظام الإقصائية التي أعلن تخليه عنها الآن، وأن النظام نتيجة لذلك موضوع لدى كثيرين في قفص اتهام وقفص شك في صدقية تنفيذه لما يبرم، شك عززته سلوكيات النظام مع محاوريه كافة في الماضي، ما جعل النظام يقف الآن معزولاً إلا من سند نوعين من الفصائل. النوع الأول هو فصائل إسلاموية منكفئة غير راضية حتى عما قبله النظام من "تنازلات"، وهؤلاء ينتهزون كل فرصة للعودة الى مربع مفاصلة نهائية بين "الإسلام" والكفر، وهم من شدة غيبوبتهم السياسية يعلنون أن المسلم بنص القرآن يجب أن يكون إرهابياً في تفسير جهول للآية: "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم". ونوع آخر هم فصائل سياسية منشقة من أحزابها ومحتمية بالنظام لا مساهمة لها في حمايته.
إن النظام وهو يقف معزولاً إلا من هذا السند الذي تنطبق عليه عبارة: ومن الصداقة ما يضر ويؤلم، يظهر درجة عالية من تناقض المواقف، وهي ظاهرة خطيرة جداً في الظرف المصيري الذي يواجهه السودان الآن.
الوقفة الصادقة مع الذات مطلوبة للتخلص من التقلب والانفعالات والتناقض لتوحيد الرؤية حول أحد ثلاثة خيارات هي المتاحة للنظام:
* الخيار الأول: العودة الى المربع الأول وسياسات الإقصاء والتعبئة الجهادية والاستعداد للتبعات.
* الخيار الثاني: التنحي أسوة بما حدث في هايتي العام 1999 وما يحدث الآن في ليبيريا.
* الخيار الثالث: هو وسط بينهما وفحواه:
الاستمرار في وساطة الإيغاد، فكثير من علاتها مما صنعت سياسات النظام في مراحله المختلفة، والكف عن محاولة إيجاد منابر بديلة، والتسليم بأن القضايا موضع البحث لا تخص طرفي التفاوض وحدهما، والأجدى التعرف على آراء القوى السياسية الأخرى في السودان، وهي قوى يعلم النظام من كثير من الظواهر وزنها الفكري والسياسي والشعبي. وإن أكدته اخيراً نتائج انتخابات جامعة الخرطوم مكان ولادة حركتهم الإسلاموية وقاعدة انطلاقهم في العمل السياسي.
وبدل التمترس في موقف معزول ويائس يجب قبول رأي القوى السياسية السودانية مخرجاً من الاستجابة الانفرادية أو العزلة التامة.
وأمام الحركة الشعبية خياران هما: استثمار أخطاء النظام وانفعالاته في الطريق إلى حل إقصائي برافع دولي. والخيار الثاني هو الاحتكام الى رأي القوى السياسية السودانية غير المشاركة في التفاوض.
والقوى السياسية غير المشاركة في التفاوض أمامها خياران.
الأول: أن تعتبر أن موقف النظام الحالي يعزله تماماً. ومع وجود عوامل أخرى مساعدة ينبغي التصعيد ضد النظام لاطاحته.
الثاني: مراجعة مشروع الوسطاء الذي قدموه في ناكورو في 6 تموز 2003 الى طرفي التفاوض في ضوء ما توصلت إليه القوى السياسية من أسس وطنية للسلام العادل والتحول الديموقراطي وفي ضوء خمسة مقاييس مرجعية هي:
أ مدى إعطاء أولوية لوحدة البلاد.
ب مدى عدالة نسب المشاركة في السلطة والثروة للبلاد.
ج مدى كفالة حرية العقيدة للمسلم وغير المسلم وكفالة حق المسلمين في الامتثال لمطالب دينهم ما داموا ملتزمين بمراعاة حقوق المواطنة للآخرين، وحقوق الأديان الأخرى، وبالنهج الديموقراطي في تحقيقها.
د مدى الالتزام بالتحول الديموقراطي.
ه مراعاة توسيع المشاركة في الأمر بما يشمل القوى السياسية السودانية ومشاركة دول الجوار السوداني شمال الصحراء الكبرى.
على القوى السياسية السودانية بعد هذه المراجعات أن تقدم ما تراه ليقبله الوسطاء وطرفا التفاوض. وإن مصلحة السودان العليا أن يتفق على هذا الخيار والتحرك السريع لتحقيقه.
الطريق الأول مع الظروف الداخلية والخارجية الحالية محفوف بمخاطر كثيرة والطريق الثاني أقرب إلى السلامة. لكن، إنك لن تهدي من أحببت.
* إمام الأنصار المنتخب - كانون الاول ديسمبر 2002
رئيس حزب الأمة القومي المنتخب - نيسان أبريل 2003
رئيس الوزراء المنتخب - نيسان أبريل 1986


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.