ما ظهرتُ في فضائية عربية أتحدث في الشأن السوداني إلا انبرى لي معلقون ناصحون أو متعجبون أو مستنكرون، كيف يقبل السودانيون بالتدخل الأميركي في شؤونهم وهم يعلمون أن أميركا هي حليف إسرائيل وعدو العرب وعدو المسلمين. فأعمالها كلها تتطابق مع وصفها "الشيطان الأكبر". هذه المنطلقات تكمن وراء فتوى "القاعدة" الصادرة في شباط فبراير 1998م أن قتل الأميركيين رجالاً ونساءً مدنيين وعسكريين، فرض عين على كل مسلم. آخرون في المنطقة يرون أن الأوراق الدولية كافة في يد الولاياتالمتحدة: كل الصيد في جوف الفرا، ويرون أن التسليم للأجندات الأميركية هو الخيار الوحيد المعقول والممكن. هنالك منطقة وسطى بين شيطنة أميركا وتأليهها، وقبل أن أفصل مقولتي، أمهد ببعض التجربة الذاتية مع السياسة الأميركية، لكوني فاعلاً وشاهداً لصيقاً في تجربة عامة وهي تجربة الحكم الديموقراطي الأخير في السودان. في كانون الأول ديسمبر من عام 1985 وأثناء الحكم الانتقالي الذي أعقب سقوط نظام جعفر نميري رتبت السفارة الأميركية في باريس لقاءً بيني وبين مسؤولين أميركيين يمثلون البيت الأبيض، والخارجية، والدفاع ووكالة الاستخبارات، ليعرفوا مني ماهية سياسة حزب الأمة نحو الولاياتالمتحدة. في ذلك الاجتماع انتقدت السياسة الأميركية الداعمة للديكتاتورية في السودان، وأكدتُ لهم استعدادنا للتعاون في ما يحقق المصلحة المشتركة، وأوضحت أننا كحزب سياسي ديموقراطي نعطي أولوية لمثل ناخبينا ومصالحهم، فلا تنتظر من الولاياتالمتحدة امتثالا لسياساتها القومية مثل ترحيل اليهود الفلاشا، ولا أن يكون موقفنا من الدول المنبوذة في نظر أميركا مطابقاً للموقف الأميركي. قال لي المسؤولون الأميركيون إنهم يقدرون هذه الصراحة ويقبلون ما أوضحت. يبدو أنهم لم يرحبوا بهذا الموقف. والدليل على ذلك هو أنني بعد الانتخابات العامة في السودان في آيار مايو 1986 انتخبت رئيساً للوزراء وفي أول لقاء جمع بيني وبين السفير الأميركي قال لي: إن الولاياتالمتحدة غير راضية عن حجم التمثيل الديبلوماسي في السفارة الليبية في الخرطوم. فليبيا دولة ترعى الإرهاب وهذا العدد الكبير في سفارتها يهدد أمن ديبلوماسيينا. قلت له إن ليبيا حرة في حجم سفارتها وهي ملتزمة القوانين السودانية. قال إذا بقي العدد كما هو، فإن تعليماته أن يقلص السفارة الأميركية وأن يذهب هو وآخرون إلى نيروبي. قلت له علم، وأضفت ان الخرطوم أكثر أمناً لكم من نيروبي ولكن يبدو أن الأمن "حالة نفسية". عند تأملي الموقف الأميركي من فترة الحكم الديموقراطي، وفي ضوء تصرفات الديبلوماسية الأميركية وإفادات أصدقاء لصيقين بدوائر الخارجية الأميركية اتضح لي أن الموقف الأميركي الرسمي يأخذ على الحكومة الانتقالية وحكومتي مآخذ عدة. ظهرت تلك المآخذ بثوب لوم الحكم الديموقراطي في الكتاب الذي أصدره أخيراً السفير الأميركي الأسبق في السودان إبان الديموقراطية نورمان أندرسون في عنوان "السودان في أزمة: فشل الديموقراطية". حفل ذلك الكتاب بمرارة تفتقر الى الموضوعية إزاء الحكم الديموقراطي انتقدتها حتى الدوائر الغربية نفسها، مثلاً جاء في موسوعة المعارف البريطانية عن ذلك الكتاب: "هذا الكتاب هو المثل الذي يؤكد بصورة مثالية حاجة السفراء الى كبح مجهوداتهم في تصوير إدارتهم لمهامهم عبر البحار"، إلى أن تقول الموسوعة: "وينطبق هذا بصورة خاصة على تركيزه على فشل الديموقراطية الذي يفترض أنه حدث نتيجة لأخطاء القيادة السياسية. أما اعتماد المفهوم على ثقافة سياسية ومدنية كدعامة جماهيرية عامة فمفقود تماماً". ولا شك عندي في أن التعلل بفشل الديموقراطية وآلياتها كمنت وراءه المآخذ الحقيقية وأهمها أن الحكومة الديموقراطية أوقفت التسهيلات كافة التي أعطاها نظام جعفر نميري لهم وهي: - تحالف أمني في البحر الأحمر. - تسهيلات تخزين معدّات عسكرية في بورتسودان ومحطات تنصت. - التعاون لترحيل اليهود الفلاشا إلى إسرائيل. - التعاون ضد الدول المعادية لأميركا مثل ليبيا وإيران. هذا إضافة الى تحفظاتهم على شخصي، إذ إن سياساتي لا تتناسب مع تصنيفي المحافظ، كما أن عالمنا الثالث لا يسمح فيه لقيادات سياسية بأن تتخذ مواقف مستقلة بل يجب أن تراعي سلم الامتثال. وبدت آرائي مزعجة لهم خصوصاً بسبب الجمع بين الإسلام والاستنارة، وهذا أيضاً غير مسموح به لأنه يهزم الحجة العلمانية. لكل ذلك عوقبنا بأن اتخذت الولاياتالمتحدة موقفاً سالباً من الديموقراطية الثالثة. أما شخصي فقد سلطت عليّ مخالب القط فانبرى لي الكثيرون بألسنة حداد وأقلام لا يجف لها مداد. وهؤلاء كانوا يفتعلون معي المعارك ولا يزالون بلا مبررات اللهم إلا إرضاء للباب العالي. أما حارس الباب "السفير الأميركي" فقد ركز في إفاداته وكتاباته ليس على التركيبة السودانية التي تشارك فيها أحزاب ونقابات وصحافة وخدمة مدنية وجماهير، بل على شخصي، ولذلك قال شاهد أهله منتقداً تركيزه على دور القيادة السياسية في ما يراه من فشل: "كان من الأجدى لأندرسون الحديث عن إطار للتنمية السياسية يركز على محاولة "دمقرطة" السودان، بدلاً من افتراض أن انتخابات تنافسية دورية أجريت لمرة واحدة هي شيء مساو للديموقراطية". تلك المآخذ ترجمت في شكل عداء سافر لحكومتنا الديموقراطية ظهر في الملفات الديبلوماسية والاقتصادية والتجارية، وكمثل لذلك فإن الحكومة الأميركية كانت تطلب من الحكومة الديموقراطية أن ترد لها ديونها وفوائدها التي أقرضتها لنظام جعفر النميري ليقهر الشعب ويعوق الهبة الديموقراطية، كشرط للحكومة الديموقراطية كي تتلقى معونات تصل إلى 1 في المئة من حظ حكومة النميري. فتكون الحكومة الديموقراطية هي الممول لأميركا في الناتج النهائي: تدفع 44 مليون دولار مثلاً لتتلقى 25 مليون دولار، وكان منتظراً عشية انقلاب "الإنقاذ" أن يهبط المبلغ الأميركي الى خمسة ملايين فقط! ومع كل ذلك، فبعد وقوع انقلاب "الإنقاذ" رحبنا بالسفير الأميركي الذي زارنا في السجن ليقول هو وسفراء الاتحاد الأوروبي إن حكوماتهم تريد أن تتأكد من أن السجناء يعاملون معاملة حسنة وسيلقون محاكمات عادلة. وكان من ثمار الزيارة أن أدخلت سلطات السجن لنا في الزنزانات مكيفات هواء! الولاياتالمتحدة رحبت بانقلاب الإنقاذ جهلاً بهويته الأيديولوجية وظنته نظاماً عسكرياً عادياً يمكن أن يصبح نسخة من نظام جعفر نميري يسهل ترويضه ما دامت نوافذ الحريات مغلقة والصفقات تدار وراء الكواليس. الولاياتالمتحدة في عالم الجنوب تجد التعامل مع النظم الديكتاتورية أفضل من الديموقراطية للأسباب الآتية: - الحكومات المنتخبة تراعي مواقف ناخبيها، وبالتالي فهي ليست مطيعة. - الحكومات المنتخبة تحرص على أن تقوم العلاقات على مصالح متبادلة، والديكتاتورية يمكن أن تضحي بمصالح وطنية في مقابل الاستمرار في الحكم. ولكن بعد فترة قصيرة اكتشفت الولاياتالمتحدة أن للنظام الجديد أجندة إسلامية راديكالية. اتضح أن أجهزة الأمن العربية والغربية - باستثناءات قليلة - كانت غائبة عن الحقائق، فاندفعوا يدعمون نظاماً تبينوا بعد حين خطره. فسرعان ما أعلن النظام سياسة دولية عدائية، وكون المؤتمر الشعبي العربي والإسلامي كبؤرة لتجميع الناقمين عبر العالم، وصدحت أبواقه الإعلامية بشعارات وأناشيد حربية عدوانية على أميركا لم يكن أوحدها: اميركا روسيا قد دنا عذابها عليّ إن لاقيتها ضرابها! وحتى على الصعيد الإقليمي فقد اتخذ النظام نهجاً أيديولوجياً توسعياً ودعم الحركات الراديكالية المعادية لدول الجوار وفتح البلاد لها. أما داخلياً، فقد تبنى النظام الجديد توجهات سياسية ثقافية أحادية واتخذ أجندة ووسائل قمعية استئصالية وطبقها بقسوة شديدة، فأدى ذلك إلى توحيد القوى السياسية ضده. هكذا تكوَّن تحالف عريض مضاد له: وطني، إقليمي ودولي. رحبنا بالدور الأميركي في تأييد التجمع الوطني الديموقراطي والسعي الى عزل النظام واحتوائه عبر مواقف مضادة أهمها: - إدراج النظام ضمن الدول الراعية للإرهاب في العام 1993. - تأييد قرارات مجلس الأمن بإدانة النظام السوداني وتطبيق عقوبات عليه 1996. - إصدار قرارات دولية من لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة تدين سجل النظام السوداني في مجال حقوق الإنسان. - تطبيق عقوبات اقتصادية أميركية على النظام السوداني في العام 1997. ولكن حتى في هذه الفترة التي سعينا الى دفع المجتمع الدولي نحو محاصرة النظام لم نقر كل أنماط الإدارة الأميركية ومنها الغارة على مصنع الشفاء في آب أغسطس 1998. فمع إقرارنا بوجود معلومات عن رعاية النظام للإرهاب وضلوعه في أنشطة مشبوهة كثيرة، إلا أننا كنا نرى تلك الغارة تحقق نقيض ما رمت إليه: فهي أقرب الى العدوان المرفوض من الضغط المقبول تحت ظلال الشرعية الدولية، وقد خدمت النظام في حينه أكثر مما اضرته، لذلك وصفنا أثرها في النظام بقولنا: رب غارة نافعة. في تلك الأثناء كان النظام أدرك تفاقم الضغط الشعبي والإقليمي والدولي عليه واستحالة بقائه معه، فأجرى تعديلات مثل اتفاقية السلام من الداخل والدستور المحتوي على نوع من التعددية السياسية كانت دون المطلوب، كما أنها كانت مشكوكاً في صدقيتها وجديتها، وأجرى تعديلات لسياساته الدولية والإقليمية وجدت استجابة مقدرة إقليمية ولدى الاتحاد الأوروبي، أما داخلياً فقد أبدى استعداده للحوار والحل السلمي عبر التفاوض وأكد قبوله مبدأ التعددية السياسية والثقافية وأتاح هامشاً نسبياً من الحريات... تجاوبنا مع تلك المراجعات، ما أدى الى نداء الوطن في تشرين الثاني نوفمبر 1999. وبدلاً من التجاوب مع مراجعة النظام لسياساته على غرار ما فعل الاتحاد الأوروبي وبعض دول الإقليم وكما فعلنا، فإن الموقف الأميركي لم يأبه للمستجدات وظل على ما كان عليه ملتزماً موقفاً محدداً، هو عزل النظام واحتواؤه، فقررنا القيام بحملة توضيح ونقد للسياسة الأميركية استمرت عاماً من الزمن. نتيجة لعوامل عدة إقليمية ودولية وسودانية فشلت سياسة العزل والاحتواء الأميركية تجاه النظام في تحقيق أهدافها. وفي تموز يوليو 2000، شرع مركز الدراسات الدولية الاستراتيجية في واشنطن في دراسة ملف الحرب الأهلية في السودان وفي شباط فبراير 2001 أصدر تقريره الشهير الذي أوصى بسياسة أميركية جديدة نحو السودان تقوم على التواصل الإيجابي وتهدف إلى تحقيق السلام ضمن معادلة جديدة: نظامان قانونيان في دولة واحدة. ثم جرت الانتخابات الرئاسية في أميركا وانتخب جورج بوش الابن وقبلت حكومته جوهر توصيات التقرير وغيرت سياسة العزل والاحتواء التي ألحت عليها إدارة بل كلنتون. من توصيات التقرير أن يعين الرئيس الأميركي مندوباً خاصاً للسودان. قبل الرئيس الأميركي التوصية وعين الديبلوماسي الشهير غستر كروكر، ولكنه بعد القبول المبدئي اعتذر فعين السناتور السابق جون دانفورث في 1/9/2001. كنا نعارض سياسة كلنتون في شدة عام 2000، ولكن لما اتخذت الإدارة الجديدة سياسة أقرب ما تكون لرؤانا أيدناها. التعامل بالمطلقات مع السياسة الأميركية لا يجدي، لأن السياسة الأميركية نفسها لا تقوم على مطلقات، بل مراكز اتخاذ القرار تصدر عن توجهات مختلفة: - أكثرها تعسفاً وقصر نظر القرارات الصادرة عن الكونغرس لتأثرها باللوبيات المدفوعة بمصالح مدفوعة الثمن. - ثم تأتي سياسات البنتاغون وزارة الدفاع المتأثرة بلوبيات ما سماه أيزنهاور عنقود الصناعات العسكرية. - ثم تأتي وكالة الاستخبارات المركزية ذات الأفق الأوسع وإن كانت مركزة على القضايا الأمنية. - ثم يأتي مجلس الأمن القومي الأوسع أفقاً. - ثم تأتي وزارة الخارجية التي ترفدها مساهمات الديبلوماسية المؤهلة والمتصلة بالعالم، فآراؤاها أكثر سعة أفق. هذه المراكز تؤثر بدرجة ما في القرار الأميركي، فهو قرار هجين. المواقف الأميركية الدولية ليست كلها على وتيرة واحدة: - فمواقف أميركا في البوسنة وكوسوفو وهاييتي مواقف صحيحة أخلاقياً وقانونياً. - وفي أفغانستان الحرب التي شنتها الولاياتالمتحدة مفهومة أخلاقياً ومبررة قانونياً، وإن وجدت تحفظات على الكيفية التي شنت بها الحرب وخروقات القانون الدولي بالغارات على المدنيين، إضافة الى التحفظات على الوضع البديل الذي ارتبط بأميركا في شكل مستفز لمشاعر الأفغان الدينية والوطنية. - أما الحرب على العراق فهي غير قانونية وإن كانت تجد مبرراً أخلاقياً في الإطاحة بنظام طاغوتي كريه ويمكنها ان تجد قبولاً بعدياً إذا مكنت الشعب العراقي من حكم نفسه والأمم المتحدة من الإشراف على البلاد. - أما الموقف من النزاع الفلسطيني - الإسرائيلي فهو غير قانوني وغير أخلاقي ويمثل قمة الانحياز المغرض. ينبغي أن نفهم أسس هذا الانحياز ونتبين الآثار التي يفرضها على سياسات أميركا: المنطقة العربية ذات أهمية استراتيجية للغرب: النفط، والموقع، والسوق، ولأسباب معلومة نشأ - إبان الحرب الباردة - تحالف بين القومية العربية والاتحاد السوفياتي، بينما مثلت إسرائيل حليفاً موثوقاً للغرب في منطقة بالغة الأهمية. منذ نهاية الحرب الباردة نشأ في المنطقة تيار إسلامي متشدد ومعاد للغرب. إسرائيل جيرت نفسها حليفاً موثوقاً ضده. ثم كانت الحرب على الإرهاب التي اكتسبت زخماً خاصاً منذ الحادي عشر من ايلول 2001. الإرهاب بالتعريف الأميركي يجد في إسرائيل حليفاً قوياً ضده. إن عدد اليهود في أميركا قليل يبلغ 2 في المئة ولكن وجودهم مميز: دخل الفرد منهم بلغ ضعف دخل الفرد الأميركي - نسبتهم بين أغنى الأغنياء عالية هي 16 من أغنى 40، أي 40 في المئة، نسبتهم بين أساتذة الجامعات في مجالات مهمة كالعلوم والاقتصاد 20 في المئة، ونسبتهم في الشركات القانونية الكبيرة 40 في المئة وكذلك وجودهم الإعلامي كبير-. ليس صحيحاً أن كل اليهود يؤيدون الصهيونية، فإن أهم ناقدي الصهاينة من اليهود المستنيرين مثلاً: أزايا برلين، ونورمان فنكلستاين، وغيرهما. ولكن هنالك لوبيات صهيونية قوية فاعلة في الولاياتالمتحدة. نظام "الإنقاذ" في السودان اتخذ نهجاً ايديولوجياً متطرفاً وحاول فرضه بالقوة فما افلح إلا في زيادة حدة الاستقطاب. واندفع في تصعيد جهادي فأعطى الحرب صفة دينية وزاد من مراراتها. إن فجوة الثقة بين السودانيين المحتربين من أصلها واسعة، ومع ذلك أمكن أطراف النزاع السودانية قبل انقلاب "الإنقاذ" في العام 1989 أن تلتقي مباشرة ومن دون تسهيلات وسطاء. ولكن سياسات أو ممارسات نظام "الإنقاذ" وسعت فجوة الثقة لدرجة جعلت الحاجة معها ماسة الى طرف ثالث. هكذا تعاقب الوسطاء. أهم هؤلاء الوسطاء إبراهيم بابانجيدا الرئيس النيجيري الذي رتب لقاءات أبوجا الأولى والثانية والثالثة، فانتهت إلى لا شيء. وإلى ذلك أيضاً انتهت وساطة الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر. ثم جاءت وساطة دول الإيغاد التي بدأت في العام 1994 وحتى العام 1999 ولم تحقق شيئاً يذكر. ثم وساطة المبادرة المشتركة المصرية - الليبية التي عاشت فترة قصيرة 1998- 2001. أثارت انتهاكات حقوق الإنسان في السودان اهتمام المجموعات المدافعة عن حقوق الإنسان، كما أثارت آثار الحرب الأهلية اهتمام المجموعات الكنسية والملونة السود الأميركيون ومنظمات الإغاثة الإنسانية، فأصبح الشأن السوداني جزءاً من السياسة الداخلية الأميركية. دخلت الولاياتالمتحدة في التوسط عبر مبادرة الإيغاد وشكلت ضمن دول غربية أخرى رافعاً دولياً هو منبر شركاء الإيغاد. لكي يكون الوسيط نافذاً ينبغي أن تثق فيه أطراف النزاع أو أن تطمع في وعده وتخشى وعيده. هذه الصفات لم تتوافر للوسطاء الإقليميين. المندوب الأميركي اتخذ نهجاً براغماتياً تشاورياً، فاتصل بأطراف النزاع وممثلي الحركة السياسية الآخرين. وبعد تداول الرأي اقترح أربع نقاط لاختبار حسن النيات. قدم اقتراحاته في كانون الثاني يناير 2002. وبعد دراستها قبلتها الحكومة والحركة الشعبية وأيدها الآخرون وحققت هذه النقاط أول خطوة عملية نحو السلام. وكانت نتائجها الملموسة في جبال النوبة حيث توقفت الحرب وتنفس المواطنون الصعداء وانسابت الإغاثات وبدأت عمليات التطبيع. الرافع الدولي بقيادة الولاياتالمتحدة نشط آليات الإيغاد، ما أدى إلى لقاء ميشاكوس والتوقيع على بروتوكول ميشاكوس في تموز 2002. وتم بعد ذلك توقيع مذكرة تفاهم ثم جرى الإعداد لمحادثات نيفاشا التي أدت إلى التوقيع على اتفاق في شأن الترتيبات الأمنية حسم وضع القوات المسلحة في الفترة الانتقالية في 25/9/ 2003. هذه التطورات تمت برعاية أميركية واضحة: فإن كانت إيجابية ينبغي أن ينسب الى الولاياتالمتحدة نصيبها من الفضل. لماذا صار الموقف الأميركي في بعض أوجهه مطابقاً لمصالح الوطنية السودانية؟ - إن إيقاف الحرب والتخلص من آثارها السالبة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والإنسانية وغيرها عمل يصب في المصلحة الوطنية السودانية، كما أن الوصول الى السلام عبر التفاوض هو الطريق الأسلم الذي نادى به كل من يحمل ولو ذرة عقل في السودان. أميركا كانت في عهد كلنتون تدفع في اتجاه المواجهة، وكان كلنتون يتطلع الى قرن إفريقي كبير يقوده قادة جدد ولكن هذه التطلعات خابت، وصارت التوجهات الأميركية أكثر واقعية. - التوجهات العدائية في الخليج جعلت الأميركيين ينظرون الى القرن الأفريقي كخط دفاع ثان للخليج. هذا يوجب أن يعم السلام القرن الأفريقي. - كانت بريطانيا - إبان العهد الاستعماري - تهدف الى فصل جنوب السودان عن الشمال. ولكن بعد ذلك رأت سلبيات تلك السياسة فعدَّلتها وأيدت وحدة السودان. لتلك الأسباب القديمة نفسها ولأسباب جديدة، أميركا اليوم تفضل أن يكون السودان موحداً. - أميركا تتطلع ليسد بترول أفريقيا 20 في المئة من احتياجاتها، والسودان جزء من معادلة البترول، كذلك لا يصفو لأميركا انفراد الصين بنصيب الأسد من بترول السودان الحالي والمنتظر. هذه الأهداف تتقاطع ولا تتناقض مع المصالح الوطنية السودانية. ما يريده السودانيون من أميركا هو: - أن تواصل أميركا دورها كوسيط لتحقيق السلام في السودان على أن تراعي حيادها لإنجاح مهمتها. سياسات النظام القديمة كونت لوبيات معادية في الكونغرس، ما أدى الى إصداره قانون سلام السودان في تشرين الثاني 2002. هذا القانون غير ملزم للإدارة الأميركية، ويؤثر سلباً في حياد الموقف الأميركي. ولكن هناك حاجة الى مواقف دولية تؤكد ان الذين يسعون الى السلام سيجدون تقديراً مثلما يجد الذين يعرقلون السلام عقاباً. على حيدة الموقف الأميركي. ولكن هناك حاجة لمواقف دولية تؤكد أن الذين يسعون للسلام سوف يجدون تقديرا مثلما يجد الذين يعرقلون السلام عقابا. - أن تواصل دورها بعد الاتفاق لضمان تنفيذ ما يتفق عليه. - أن تساهم في استقطاب الدعم لإعادة التعمير والتنمية في السودان بعد أن يتحقق السلام. - أن تقبل الشركات الأميركية على الاستثمار في السودان، لا سيما في مجال صناعة النفط. - أن ينتسب السودان الى القرن الأفريقي لا الى الشرق الأوسط. - أن يكون السودان موحداً بأسس جديدة، لأن في شمال مستقل احتمالات تكوين قنبلة أيديولوجية تؤثر في الاستقرار الجيو - سياسي شرقاً وغرباً وشمالاً. كما أن في جنوب مستقل متفجرات تؤدي الى مزيد من الاضطرابات في القرن الأفريقي وشرق أفريقيا. - أن يستدام السلام لتحقيق الاستقرار في القرن الأفريقي: الخط الثاني لأمن الخليج. - أن يحظى الجنوبيون في السودان بوضع يرضي أهم مطالبهم ومطالب اللوبيات المسيحية والإنسانية والأفراد في أميركا. - أن يقوم السودان بدور في حرب الإرهاب. - أن ينأى السودان بنفسه عن التيارات الراديكالية الإسلامية والقومية في المنطقة. - احتواء العلاقات السودانية الصينية، لا سيما في مجال صناعة البترول. - مراعاة حقوق الإنسان والتزام التوجه الديموقراطي. لن يجد السودانيون كل ما يريدون من أميركا، ولن تجد أميركا كل ما تريد من السودان، ولا يخلو الدور الأميركي في السودان الآن من مآخذ، فهي تبسط أموالاً لأطراف سياسية سودانية تشوه الجسم السياسي السوداني لأنها تدعم قوى سياسية ذات رؤية أيديولوجية ضيقة، وقوى أخرى ليس لها وزن حقيقي. وستستمر الأجندة الوطنية السودانية بالترحيب بإيجابيات الدور الأميركي، ومتابعته بدقة ويقظة بحيث تقبل النافع وترفض الضار. إن مصلحة السودان الوطنية هي ألا تكون العلاقة مع أميركا عدائية ولا أن تكون إملائية بل على اساس البراغماتية والمنافع المتبادلة. هنالك ملفات ساخنة أميركا طرف فيها: الملف الإسلامي، والملف العربي، والملف العراقي، والملف الفلسطيني. وهي ملفات أقرب إلى مواقف استقطابية، والسودان بتكوينه الحضاري لن يكون بعيداً عنها، ولكنه في الوقت نفسه لن يعتبر مواقف أميركا في تلك الملفات مانعاً من دور لها في الشأن السوداني تؤهله ظروفه لأن يكون إيجابياً وأن يحقق مصالح وطنية للسودان. ربما كان دور أميركا في السودان هو الوحيد من بين أدوارها في المنطقة الذي يمكن أن تطلق عليه صفات إيجابية، وربما وحده يكون قصة نجاح لأميركا فيها دور مرموق. ففي الشأن السوداني حرصت أميركا - حتى الآن - على التعامل عبر وساطة إقليمية وحرصت على التشاور مع كل الأطراف السياسية السودانية، وحرصت على إشراك لا استبعاد دول غربية أخرى، وتجنبت أن تأتي بحلول جاهزة بل تستصحب حلولاً سودانية، وحرصت على أن يكون دورها مع أهميته في الحقيقة حيياً في الظاهر... هذا الدور أقرب إلى الأميركي الوسيم وأبعد عن الأميركي القبيح. من الصعب أن يقال شيء ايجابي عن سياسة الولاياتالمتحدة الآن في وقت بدا فيه واضحاً أن سياستها الخارجية قد اختطفها لفيف من الكواسر الذين يصدق في وصفهم عمرو بن كلثوم فى نونيته الشهيرة: "لنا الدنيا ومن أضحى عليها ونبطش حين نبطش قادرينا" ولكن يجب ألا ننسى أن الرئيس بوش في حملته الانتخابية كان ينتقد سياسات الرئيس السابق كلنتون ويتعهد سياسة خارجية متواضعة يتم بناؤها على اساس من التحالفات الدولية. ولكنه عدل عن ذلك لأن حادث 11/9/2001 خلق مناخاً جديداً فتح لبوش ابواباً شعبية نادرة وللكواسر فرصه ذهبية. ولكن ها هي القوة العسكرية تكتشف حدودها في افغانستان وفي العراق. وها هو النقد يطل برأسه داخل الادارة وفي حملة الديموقراطيين وفي اعمدة الرأي في الصحافة الاميركية. والكواسر سيكسرون. وخطهم مهما دعمته القدرات العسكرية التى لا مثيل لها سيهزم. هذه المكارثية الجديدة ستكون حالاً طارئة مثل المكارثية القديمة ويمكننا بوسائل مختلفة والرشد الدولي معنا أن نعجل بتلك الهزيمة. * إمام الانصار المنتخب كانون الأول ديسمبر 2002. رئيس حزب الأمة القومي المنتخب نيسان ابريل 2003. رئيس وزراء السودان المنتخب نيسان 1986.