} يروي السيد الصادق المهدي رئيس الوزراء السوداني السابق وزعيم حزب الامة المعارض في هذا الكتاب الذي تنشره "الحياة" على حلقات، تجربة فريدة في المواجهة بين الحكم السوداني ومعارضيه حصل خلالها تطور سريع في التفكير السياسي السوداني وادت الى انقلاب في العلاقات السياسية قاد بدوره الى اعادة تشكيل خريطة التحالفات السياسية وهيأ البلاد لدورة جديدة لم يكتمل رسم ملامحها بعد. يعود المهدي يوم الخميس المقبل الى بلاده بعد غياب استمر اربع سنوات طاف خلالها العالم داعياً الى اطاحة حكم الرئيس عمر البشير. ويحمد المراقبون للمهدي انه ادرك تغير المعادلة السياسية الاقليمية والداخلية قبل غيره فسارع الى اتخاذ قرار العودة، لاطلاق مرحلة جديدة من العمل السياسي لحزبه، احد اكبر حزبين في البلاد. واطلق المهدي اسم "تفلحون" على رحلة عودته المرتقبة بعدما كان خرج من البلاد في عملية دراماتيكية انشغل بها الناس في العام 1996 واطلق عليها اسم "تهتدون". ننشر اليوم الحلقة الاولى من كتاب الصادق المهدي الذي اكمل اعداده قبل ايام ممهدا الارضية بمادة فكرية وسياسية غزيرة لحوار جديد داخل حزبه ومع القوى السياسية السودانية الاخرى عنوانه "الاجندة الوطنية للسلام والاستقرار". في ما يأتي الحلقة الاولى: قال الإمام علي ع: عرفت ربي بنقض العزائم. بعد تخرجي من الجامعة في بريطانيا أحسست بالغربة التي اتصلت أثناء سنوات التعليم لدرجة آليت معها على نفسي ألا أغادر السودان مرة ثانية! كان هذا في عام 1958م. وصح هذا العزم لنحو عشر سنوات بقيت أثناءها داخل السودان مترحلاً داخله حتى طفته مرتين. أثناء حكومتي الأولى 6619-1967م سافرت خارج السودان قليلا. ولكن، في عهد الديكتاتورية الثانية 6919-1985م ثم في حكومتي الثانية 8619-1989م، ثم في العهد "الإنقاذي" الحالي تكاثر ترحالي خارج الوطن كأنني موكل بفضاء الله أذرعه! لم أكن مستعداً للهجرة الأخيرة، ولا سعيداً بها، بل مشيت فيها يستبد بي شعور غالب: يُقْضَى عَلَى المَرْءِ فِي أَيَّامِ مِحْنَتِهِ حَتّى يَرَى حَسَنَاً مَا ليْسَ بِالحَسَنِ كانت هجرتي نتيجة للاستقطاب الحاد، النافي للآخر، المفضي للاستئصال، المغذي للاستئصال المضاد. وغذت هجرتي هذه المواجهة حتى بدا لنا معشر السودانيين المشغولين بالشأن العام أننا أمام خيارين لا ثالث لهما. الواحد منا: إما قاتل وإما مقتول. سياسات النظام - في ذلك الوقت- دانت القوى السياسية الرئيسية في الشمال وخوّنتها، وعمقت المواجهة مع قوى المقاومة في الجنوب وكفّرتها، واتخذت سياسات إقليمية ودولية توسعية، فأدى ذلك كله إلى تكوين تحالف عريض ضد النظام، تحالف: سوداني، إقليمي، ودولي. كان التجمع الوطني الديموقراطي الذي كوناه في السجن في عام 1989م تطويرا منطقيا لميثاق الدفاع عن الديموقراطية 1986م، وحلقة تالية لبرنامج القصر الانتقالي في شباط فبراير 1989م. أما التجمع الوطني الديموقراطي الذي كوناه في الخارج بعد مؤتمر أسمرا في حزيران يونيو 1995م فقد كان هيكلاً جديداً ملائما للمرحلة ولظروفها. وكان رافداً سودانياً في التحالف الجديد ضد النظام. كان لحزب الأمة دوره الهام في ميثاق الدفاع عن الديموقراطية، وفي برنامج القصر الانتقالي، وفي تكوين التجمع الوطني الديموقراطي بالداخل الامتداد المنطقي لذينك الحدثين. وكان له دوره الهام في تكوين التجمع الوطني بالخارج، ثم في المرحلة الثانية بعد ضم الحركة الشعبية، ثم في المرحلة الثالثة التي أعقبت مؤتمر اسمرا للقضايا المصيرية في 1995م. هنالك فوارق واضحة بين التجمع الوطني التنظيم الأم بالداخل. والتجمع الوطني في مراحله الثلاث في الخارج. وهذه هي طبيعة الأشياء في العمل السياسي حيث ينبغي للقوى السياسية أن تتطور مراعية المستجدات ومتعاملة معها بوعي، فالقاعدة الذهبية في الأمور الاجتماعية هي: "لكل وقت ومقام حال، ولكل زمان وأوان رجال"... الكائنات الاجتماعية تواجه تحدياً حاسماً: أن تتجدد أو تتبدد! رؤيتنا للواقع السياسي السوداني نضالنا وتعامل النظام السوداني معه والتطورات الداخلية والإقليمية والدولية في الفترة 9519-1998م خلق واقعاً جديداً، واقعا قرأنا مدلولاته وتعاملنا معها، وخاطبنا حلفاءنا بأن النظام صار يقبل جوهر المبادئ المطلوبة لاتفاقية سلام عادل: المواطنة أساساً للحقوق الدستورية والتعددية الدينية والثقافية. والاستفتاء أساساً للوحدة الطوعية. وجوهر المطلوب لتحول ديموقراطي: التعددية الفكرية والسياسية، ومراجعة هيكلة مؤسسات الدولة، وإحلال دولة الوطن. وصار مستعداً للجلوس في مائدة مستديرة أو ملتقى جامع للتفاوض بشأن السلام العادل والتحول الديموقراطي، بحضور رقابي للجيران والأصدقاء. وقلنا أن هذا التطور يقتضي تجاوباً قوياً وجاداً لأنه مهما كانت الاخفاقات التي تواجه النظام فإن البلاد تتعرض لمخاطر التمزيق والتدويل، وهما قد يخلقان واقعاً جديداً يستعصي على القوى الوطنية إصلاحه. لذلك ينبغي أن نتخذ التوجه الآتي: - إقرار التفاوض المباشر مع النظام لتحقيق السلام العادل والتحول الديموقراطي. - تأييد آلية التفاوض الأجدى وهي الآلية التي تجمع كافة أطراف النزاع كافة وتبحث كل النقاط المتنازع عليها. صار الواجب الوطني في نظرنا تخطي مرحلة 9519-1998م والتعامل الإيجابي مع المستجدات لتحقيق تطلعات الشعب السوداني بوسائل أخرى. وخلاصة المطلوب للتحول الديموقراطي: الانتقال من الدولة الشمولية إلى التعددية السياسية، وكفالة حقوق الإنسان، والحريات العامة، والاحتكام للشعب. هذه الرؤية في نظرنا تزيل أسباب التناقضات التي أدت للحرب الأهلية وللاستقطاب السياسي في البلاد. لكن كثيراً من زملائنا في التجمع الوطني الديموقراطي لم يستجيبوا هذا النداء ودار جدل بدا أثناءه كأن المشكلة متعلقة بوسائل النضال وبآليات التوسط وباختلاف حول جدية النظام وغيرها. الرؤية المغايرة الحقيقة هي أن ثمة رؤية أخرى مختلفة تماماً عن هذه، وأوضح معبر عن هذه الرؤية الأخرى هي الحركة الشعبية وجيشها: - قال لي الرئيس اليوغندي يوري موسفيني أنه كان زميلاً للأخ جون قرنق في الجامعة. وأنه قال له أن حل المشكلة أن تنفصلوا بالجنوب عن الشمال والهيمنة العربية. رد عليه قرنق قائلا: لماذا الانفصال؟ نحن نريد الإبقاء على السودان موحداً وتغيير هويته أو أفرقة هويته. ونحن الأفارقة غالبية في السودان فلماذا الانفصال؟. - وثائق الحركة الشعبية وجيشها كلها تؤكد أنه لا مكان للديموقراطية كما نعرفها في أهدافها. إنها في المسارات الثلاثة التي أوضحها د. جون قرنق في خطابه بتاريخ 16 أيار مايو 2000م تسعى لتحقيق السلطة عن طريق القوة وأن تمارسها شمولياً. هذه الرؤية الأخرى هي الشمولية الإثنية. هذه الرؤية تجد تأييدا من فصائل سياسية سودانية أخرى لا تقبل الشمولية الإثنية كبديل ولكن تتحالف معها مرحلياً للإطاحة بثقافة المركز في السودان، ثم لكل حادث حديث!!. موقف الإدارة الأميركية هذه الرؤية الراديكالية صادفت تأييداً من موقف الإدارة الأميركية في بعض جوانبها: - الموقف الأميركي حتى إشعار آخر يرى ضرورة مواصلة الضغط العسكري على النظام حتى يسلم بكل مطالب الحركة. - ويرى أن السودان جزء من القرن الأفريقي وينبغي أن يحصر مصيره في نطاقه. - مواصلة الضغط تؤدي لتمكين الولاياتالمتحدة من تشكيل العلاقة مع السودان كما تريد. موقفنا من رؤية الانقلاب الإثني موقفنا من رؤية الانقلاب الإثني واضحة جداً، خلاصته: نعم كان لثقافة المركز في السودان هيمنة. ولكن، تلك مرحلة تاريخية ينبغي تجاوزها باتفاق فقد صار هذا ممكناً الآن كما أنه يواكب تطور العلاقات بين الأديان والثقافات والوعي الإنساني المعاصر. إن محاولة إحلال هيمنة محل هيمنة تفكيرٌ يغذي فتنة جديدة ويشعل الاقتتال الأهلي لا يوقفه. المجموعات الوطنية السودانية مهما كانت ثقافاتها وانتماؤها الإثني تستطيع أن تتطلع لأية مراكز تريدها ما دامت تحترم حق المواطنة للآخرين والوسائل الديموقراطية. لكن المرفوض أن تتطلع للسلطة بالقوة تحت أي شعار أيديولوجي أو إثني. ومن الموقف الأميركي: أما الموقف الأميركي فقد حاورناه بوضوح: - الضغط العسكري وصل حده بعد أن تحقق الاستعداد للتفاوض الجاد وإطلاق الحريات للتعبئة الشعبية. الضغط العسكري بعد هذه المرحلة سوف يؤدي لرد فعل مضاد. - نعم، السودان جزء من القرن الإفريقي وكذلك جزء من الشمال الإفريقي وهو إفريقيا مصغرة وهذا قدره الجغرافي السياسي. ولكي نضع النقاط فوق الحروف أقول: الحركة الشعبية ترفض المبادرة المشتركة بعد أن قبلتها لأسباب تكتيكية لأنها آلية لتحقيق حل سياسي شامل وفق الرؤية الأولى، وهي رؤية لا يقبلونها لذلك جعلوا كل اجتماعات هيئة قيادة التجمع المعنية بالنظر في متطلبات المبادرة المشتركة دوراناً في هباء. - اجتماع هيئة القيادة في تشرين الأول أكتوبر 1999م في القاهرة أوشك أن يعين اللجنة التحضيرية لمقابلة الطرف الحكومي والتحضير للملتقى الجامع. طلبت الحركة تأجيل القرار للاجتماع اللاحق في كمبالا في منتصف تشرين الثاني نوفمبر 1999م. - اجتماع هيئة القيادة في كمبالا تأخر ليعقد في كانون الأول ديسمبر 1999م. وكان مفروضاً أن يقرر موقفاً تفاوضياً ويعين أعضاء اللجنة التحضيرية. الحركة أجهضت هذا التوجه. - اجتماع هيئة القيادة في أسمرا في حزيران 2000م قرر تعيين لجنة فنية غير مفوضة للقاء الطرف الحكومي. هذه الاجتماعات بالذات اختلفت من اجتماعات هيئة القيادة في الماضي إذ صارت معبأة بلوبي محدد وممولة بدعم أجنبي. اجتماعات هيئة القيادة منذ اجتماع كمبالا في كانون الأول 1999م اجتماعات ملغومة!! وفي الساحة السودانية الآن ثلاث رؤى أساسية تتصارع: - الثقافة المركزية الحالية ودولتها الشمولية، وهي رؤية ما زال يوجد من يتمسك بها وإن عدل أساليبه. - رؤية المواطنة المتساوية وتعايش الأديان والثقافات والوحدة الطوعية والتحول الديموقراطي. - رؤية الانقلاب الإثني ودولته الشمولية الجديدة. إنني أعود للسودان لمواصلة تنظيم حزبنا كقوة سياسية ديموقراطية قومية ترحب بالصفحة الجديدة في السودان وتتعامل بإيجابية قوية مع كل إيجابياتها. وأعود للسودان لشن حملة فكرية وسياسية وتعبوية شعواء ضد الرؤية الأولى والثالثة ومن اجل الرؤية الثانية. حملة نخوضها بدعم شعبي عريض ودعم إقليمي متجاوب، ودعم دولي متنامٍ، لتحقيق السلام والاستقرار الديموقراطي في السودان وفتح الطريق أمام البعث الوطني والتنمية وكلها أهداف ممكنة إذا صمم الشعب السوداني على تحقيقها وأدركته العناية. لقد قتلت الاخفاقات والفتن الأمل في السودان حتى تمدد اليأس في النفوس وكاد يحيط بشعب متفائل بطبعه وواثق من نفسه. أعود وزملائي للوطن مراهنين على: - ان أخوتنا في التجمع الوطني الديمقراطي وفي تيارات المعارضة كافة سوف يدركون أن هناك ضرورة لتجنب تدويل الشأن السوداني وتمزيق الوطن وأن هناك فرصة لتفاوض جاد من أجل الأجندة الوطنية وينبغي أن نتعرض لها. - ان النظام سيبني على الجدية التي هدينا لها معاً في نداء الوطن ليعطي صدقية تامة لمقومات السلام العادل والتحول الديموقراطي. - ان اخوتنا في الحركة الشعبية الجنوبية سوف يدركون بطلان الانقلاب الإثني والشمولية الجديدة، ويحددون تطلعهم لأخذ حقهم واحترام حقوق الآخرين فنحن لا نألو جهداً في الوفاء بكل المواثيق التي وقعناها معهم في أسمرا في حزيران 1995م ونرجو أن يبادلونا الوفاء بها وأن يحاصروا أجندة الفتنة الإثنية. وتتزامن عودتنا للبلاد مع انتخاب رئيس أميركي جديد. لقد كانت سياسة الإدارة الأميركية السابقة نحو السودان مميزة بالتقلب وسوء التقدير. عندما كنا في مرحلة المواجهة الشاملة مع النظام السوداني أضرت السياسة الأميركية بموقفنا من حيث أرادت أن تنفعه. وبعد تجاوز تلك المرحلة واقتحام مرحلة الحوار من أجل الحل السياسي الشامل اتخذت السياسة الأميركية خطأ لا يليق بوزنها الاستراتيجي والمعنوي المرجو أن يكون موجها نحو الحل السلمي للنزاعات حيثما لاحت فرص لذلك. وإن تقاصرت فرص الحل السلمي العادل للنزاعات فالمتوقع من الولاياتالمتحدة أن تسعى لإيجادها. تورطت الإدارة السابقة في سياسات فاشلة نحو السودان وغير لائقة بالوزن الأميركي لذلك نتطلع أن تقوم الإدارة الجديدة بإعادة النظر الشاملة في الملف السوداني، لتقوم بدور واع بقدر ما هو لائق بدولة في مكانة الولاياتالمتحدة الأميركية. دور الإيغاد سوف تتزامن عودتنا للوطن مع اجتماع قمة الإيغاد. نحن نحمد لدول الإيغاد اهتمامها بالشأن السوداني ونحمد للرئيس الحالي لمنظمة الإيغاد الرئيس إسماعيل جيلي رعايته لنداء الوطن في بلاده. كما نحمد له رعايته للتطورات الإيجابية في الصومال الشقيق. ونرجو أن يوفق اجتماع قمة الإيغاد في إقرار سياسات تفعل هذه المنظمة الإقليمية الهامة في أدوارها المرجوَّة. ضاع وقت طويل في الاختلاف حول آليات فض الاختلاف حتى صارت الآليات نفسها في حاجة لفض النزاع بينها. إن مؤتمر القمة مطالب بتجاوز هذه الشكليات والسعي لتعاون جيران السودان كافة لتسهيل قيام آلية فاعلة، وهي ملتقى جامع لأطراف النزاع في السودان بأجندة شاملة لكل النقاط المتنازع عليها. هذا الملتقى يكون لجيران السودان فيه حضور مراقبين، كما لأصدقاء السودان من الأسرة الدولية فيه حضور متابعة. ونقول للرئاسة السودانية المقبلة لمنظمة الإيغاد: لقد أحسن السودان صنعا بالاهتمام بهذا الملتقى وتوسيع الدعوة لحضوره. وهذه فرصة تاريخية للسودان ليكتسي حلة السلام والاستقرار في إقليم مبلل بالدماء، فإن هذا تطلع آن أوانه وتتحرق الشعوب من أجله وتتحرك الأسرة الدولية من أجله. وكلما كانت الرئاسة السودانية عالية الصدقية في التمسك بالسلام العادل والتحول الديموقراطي في دارها كلما كانت صدقيتها في السعي للسلام والاستقرار الإقليمي راجحة. أقول: ما من غريب وإن أبدى تجلده إلا سيذكر بعد الغربة الوطنا لقد أوحشنا السودان الحبيب الذي إن خشنت طبيعته فقد رقّ طبع أهله. طبع دمث يرضي الحواس الخمس: لناظره ورد، ولذائقه شهد، وللامسه برد، ولسامعه غرد، ولشاممه ند. شعب سليم الفطرة، حسن النية، لا يستحق ما عاناه من شقاء، اللهم إلا من باب المزايا في طي البلايا. واستحقاق: كل ما لا يقتلني يقويني. فليكن البلاء مدرسة، ولتكن الأزمة مفتاح الفرج. الموقف من العنف حزب الأمة الذي أسسه الإمام الراحل عبدالرحمن المهدي ومن أيده من الاستقلاليين في 1945م وليد تفكير سياسي رحماني يبغض العنف. لأن عنف الاستعمار العثماني التركي أجبر المهدية على عنف مضاد، زاد من نبرته عنف الغزو الأجنبي الذي مارسه المستعمرون الأوروبيون حتى بلغ مداه في معركتي كرري، وأم دبيكرات، وفي مذبحة الشكابة. لقد فصل الإمام عبدالرحمن تماما بين التربية الجهادية المطلوبة والعنف كأداة سياسية. وحرص على التربية الجهادية ورفض العنف السياسي، وجعل الرضا والتسامح أسلوبيه في السياسة. هذا النهج الذي جعل التربية الجهادية ضرورة، والتسامح السياسي خيارا مفضلا هو الذي نشأنا عليه، والذي اتسمت به ممارسات حزب الأمة. حاول خصوم حزب الأمة إلصاق تهمة العنف السياسي به مستشهدين بحوادث أول آذار مارس 1954م وغيرها من الأحداث. وأثبتت المحاكمة لمتهمي أول آذار، ومذكرات الرئيس المصري اللواء محمد نجيب براءة حزب الأمة من تدبير الحوادث. وتأكد أن موكب الحزب لم يكن معتديا بل مدافعا عن نفسه. وهو نفس الموقف في حوادث المولد في عام 1961م. وسيراً على هذا النهج امتنعنا عن تكوين كوادر عسكرية لحزبنا في القوات النظامية، وكان توجيهي لابني كضابط في القوات المسلحة: التزم قانون القوات المسلحة ولا تلتفت للسياسة. وامتنعنا من اتخاذ ميليشيات، بل التزمنا التزاما قاطعا بقومية القوات النظامية. وكان السجل أننا كنا دائماً في موقف المعتدى عليهم لا المعتدين. حتى انقلاب 17 شباط 1958، وإن اشترك فيه بعض عناصرنا كان موجها ضد القيادة الشرعية في كياننا السياسي. ومع كل المخاطر على الديموقراطية التي لم تبرح أذهان المغامرين، حرصنا أن يكون دفاعنا عن الديموقراطية دفاعا مدنيا من طريق ميثاق الدفاع عن الديموقراطية. مخاطبة النظام الأولى عندما وقع انقلاب 30 حزيران 1989م، تخلف ميثاق الدفاع عن الديموقراطية. وكان أول رد فعل لنا أن نخاطب السلطة الجديدة بالآتي: أولا: إن تعثر التجربة الديموقراطية لا يعني إخفاق الديموقراطية فهي نظام لا بديل له. ثانيا: إن استيلاءكم على السلطة لا يبطل الحق فأنتم معكم القوة ومعنا الشرعية. ثالثا: إن مشاكل البلاد الوطنية ذات وجود موضوعي وليست من صنع الأحزاب، لذلك لن تزول بحل الأحزاب. رابعا: لكيلا تدخلوا في ممارسات فاشلة تعقد مشاكل البلاد، نقترح إجراء حوار بيننا يضع آلية لمحاسبة المخطئين، ويسعى لإقامة ديموقراطية مبرأة من الثغرات، ويركز الجهد الوطني في حل قضايا البلاد. السلطة الجديدة لم تشأ التجاوب معنا، بل اندفعت في خطة أيديولوجية حزبية هدفها استئصال الآخر. ففرضوا علينا أدوات القهر. أما المقاومة الجنوبية فعرضوا عليها الحل الذي رأوه. وعندما أبوا سلطوا حملة جهادية. الجهاد المدني بعد حوالى عامين من عمر النظام، أطلق سراحنا. فأعلنت في أول خطبة لي بعد إطلاق سراحي جهادا مدنياً ضد النظام، وتصاعد الاستقطاب الحاد في البلاد بين النظام وبيننا. كنا اتفقنا نحن ممثلي القوى السياسية والنقابية السودانية في السجن على تكوين تنظيم عريض للمعارضة باسم "التجمع الوطني الديموقراطي". انبرى النظام لنا بكل أدوات الشمولية الحديثة. وبقدر إقدامنا على المعارضة كان نصيبنا من التنكيل. استطعنا أن ننشر ما تعرضنا له في كل مكان. وفي مناخ الاهتمام بحقوق الإنسان الذي عم العالم بعد نهاية الحرب الباردة في عام 1991م أكسبنا الصمود عطفا دوليا واسعا. وتراكمت على النظام الإدانات من منظمات إنسانية عالمية، لا سيما مفوضية حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة. واستمرت الحرب الأهلية في البلاد وأكسبها النظام الجديد طابعا دينيا قيض للحركة الشعبية تأييدا دوليا وكنسياً. حوار النظام مع المعارضة بدا لبعض عناصر النظام الأكثر تفتحا أن خطة استئصال الآخر مستحيلة فشرعوا يحاوروننا منذ عام 1989م. إدارة الحوار مع النظام كانت المبادرة فيه دائما من عناصر من النظام ومن الوسطاء، وتمت - قبل "تهتدون" - عشر مرات:1989م، 1991م، 1993 مرتان، 1994م مرتان، 1995 مرتان، و1996م مرتان. أما بالنسبة الى الحركة الشعبية فقد فشل الحوار الأول الذي توسط فيه الرئيس الأميركي السابق كارتر. وبدأ بعد ذلك حوار للسلام بوساطة الحكومة النيجيرية. كانت حلقات حوار أبوجا الأربع فاشلة. بعد ذلك وسّط النظام زملاءه في دول الإيغاد فاستجابوا للقيام بوساطة في 1994م. كانت حصيلة حوارات السلام هباء: - حواراتنا مع النظام فشلت لأنه كان يريد أن نشاركه ضمن أطروحاته. وكنا نقول أن أي حوار مفيد ينبغي أن يبدأ من إقرار الحريات الأساسية والتحول الديموقراطي. - حوارات النظام مع الحركة الشعبية تعثرت لأن النظام كان يريد أن يكون الحل في إطار أجندته الأيديولوجية. والحركة كانت تريد أن يتفق على سودان علماني أو تقرير المصير. نتيجة لموقف النظام الأيديولوجي الإسلامي العربي المتعصب، والحملة الجهادية التي خاضها ضد المقاومة الجنوبية المسلحة، دعا السناتور الأميركي هاري جونستون القوى السياسية السودانية المعارضة، وجمع بين القوى السياسية الجنوبية للاتفاق على مطلب تقرير المصير في تشرين الثاني 1993م. نحن والحركة الشعبية منذ مؤتمر كوكادام الذي كان حزب الأمة الحزب السياسي الكبير الوحيد المشترك فيه انفتح حوار بيننا وبين الحركة الشعبية. وتواصل الحوار بيننا في لقائي المطول بعد انتخابي رئسا للوزراء مع وفد الحركة الشعبية بقيادة الأخ جون قرنق في تموز يوليو 1986م. انقطع الحوار بيننا لموقفهم الغريب إذ أسقطوا طائرة الخطوط الجوية السودانية فوق ملكال في آب أغسطس 1986م واعتبروا تلك العملية غير المبررة نصرا عسكريا. لكن الحوار استؤنف بعد ذلك من طريق تفاوض قادة الحزب الاتحادي الديموقراطي بإذن مني في الحكومة حتى وصل لمشروع اتفاق في تشرين الثاني 1988م. واتصل الحوار بعد عرقلة سببتها المناورات الحزبية حتى وصل لمرحلة متقدمة في أيار 1989م في ضوء اتفاق الأحزاب السياسية والنقابات على برنامج القصر الانتقالي، والاتفاق المبدئي مع الحركة الشعبية على المؤتمر القومي الدستوري في 18/9/1989م. لذلك وبعد إسقاط النظام الديموقراطي بدأ الأخ مبارك المهدي الاتصال بالحركة. - كنا في حزب الأمة في الداخل نناقش مسار مفاوضات أبوجا. وكنا نحاور اخوتنا في مجموعة يوساب، ونتيجة لما توصلنا له من آراء كتبت وأرسلت للأخوة بالخارج مشروع سلام عادل. كان أهم ما في المشروع المرسل اليهم 1992 اقتراح أن تحل مسألة علاقة الدين والدولة بالاتفاق على حقوق المواطنة لتكون هي أساس الحقوق الدستورية. كان نص الاقتراح هو النص على حقوق المواطنة وحقوق الإنسان وجعلها ملزمة دستوريا. هذا الاقتراح بحثه أخوتنا في الخارج مع القوى السياسية الأخرى فصائل التجمع في مؤتمر نيروبي في نيسان أبريل 1993، فاتفقوا على أمرين لحل مسألة الدين والدولة، هما: - أن تكون المواطنة أساس الحقوق الدستورية. - أن تكون الاتفاقات والعهود الدولية المعنية بحقوق الإنسان العالمية جزءاً من دستور البلاد. - عندما طرحنا مشروع السلام العادل المذكور لأخوتنا الجنوبيين في الداخل بقيادة الأخ أبيل ألير والأخ هيلاري لوقالي - رحمه الله - وسائر قادة يوساب اتضح لنا مقدار المرارة التي ألمت بهم نتيجة لسياسات النظام وحملاته الجهادية. كانوا يرون ان كل أساس للثقة قد زال وان علينا أن نتجه للانفصال. وفي نهاية الحوار اقترحنا أن يتفق على فترة انتقال لإزالة المظالم ثم يجري تقرير المصير في الجنوب. هذا الاقتراح تداولناه ملياً في الداخل، وأرسلت مذكرة بمضمونه للأخ عمر نور الدائم في تشرين الأول 1993م. هذا الاقتراح صادف ما أجمعت عليه القوى السياسية الجنوبية في واشنطن في تشرين الأول 1993م. وصار أساس اتفاق بين حزبنا وبين الحركة الشعبية في شقدوم في كانون الأول 1994م. - الأخ مبارك المهدي وزملاؤه من كوادرنا في الخارج وقعوا مع الحركة الشعبية اتفاقية أديس أبابا للسلام التي حققت السلام في مناطق التماس في 28/2/1990م. ودعا الأخ مبارك الحركة الشعبية للانضمام للتجمع الوطني الديموقراطي، وجمعها بالفصائل الأخرى، وانضمت الحركة مشترطة تعديلا في الميثاق الوطني. بعد ذلك جرت حوارات كثيرة في نيروبي، وفي لندن، وفي شقدوم، مهدت لعقد مؤتمر القضايا المصيرية في أسمرا في حزيران 1995م. الحلقة الثانية من كتاب العودة تنشر بعد غد الاربعاء وتتناول اسباب هجرة المهدي ودواعي عودته يوم الخميس 23 الجاري.