بدا واضحاً أمس أن استيلاء "الحركة الشعبية لتحرير السودان" على بلدة توريت الاستراتيجية الجنوبية ليس السبب الوحيد لانسحاب الوفد الحكومي السوداني من مفاوضات مشاكوس. وفيما يؤكد الوسطاء في "الهيئة الحكومية للتنمية ومكافحة الجفاف في شرق افريقيا" ايغاد وشركاؤها ضرورة العودة إلى طاولة التفاوض التي غادرها وفدا الجانبان أمس، صعدت الخرطوم حملتها لخوض معارك شاملة في مواجهة "الجيش الشعبي لتحرير السودان"، الجناح العسكري للحركة، وأقامت جسراً جوياً بين العاصمة وجوبا، كبرى مدن الجنوب، لنقل المقاتلين والعتاد والأسلحة، فيما اتهمت "الحركة الشعبية" القوات الحكومية بقصف توريت بكثافة منذ انسحابها منها. واستنفرت الحكومة قواتها والميليشيا العسكرية المساندة لها، وبدأت بنقل المقاتلين والأسلحة والعتاد عبر الجسر الجوي مع جوبا، والتي لا تزال تحت سيطرة الحكومة في منطقة الاستوائية بعد استيلاء "الجيش الشعبي" على توريت قبل يومين وكبويتا في حزيران يونيو الماضي. وقال قائد قوات الدفاع الشعبي العميد أحمد العباس إن "تفاهم مشاكوس" الذي أقره طرفا النزاع في 20 تموز يوليو الماضي "ذهب أدراج الرياح"، بعد استيلاء "حركة التمرد" على توريت. واضاف انه وجه بنقل المقاتلين من كل الولايات وحشدهم في جبهات العمليات لخوض معارك حاسمة وشاملة في مواجهة "المتمردين الجنوبيين". وعقد القطاع السيادي اجتماعاً أمس برئاسة الرئيس عمر البشير في حضور وزير الدفاع اللواء بكري حسن صالح وقادة الأجهزة الأمنية، وأقر "دعم القوات المسلحة دعماً كاملاً بالمقاتلين والإمكانات الكافية". وقال مستشار الرئيس للشؤون السياسية الدكتور قطبي المهدي للصحافيين إن الاجتماع "أيد مبررات تعليق المفاوضات" مع "الحركة الشعبية"، موضحاً "أن وزير الدفاع طرح تقريراً كشف ان الحركة خططت لاستهداف مناطق انتاج النفط والاستيلاء على مدن في الجنوب لإقامة إدارات أمنية مستغلة سياسة ضبط النفس التي انتهجتها الحكومة لتهيئة مناخ السلام". وأضاف المهدي "ان الحكومة سلمت وسطاء الهيئة الحكومية للتنمية في شرق افريقيا ايغاد مذكرة ترى أن هناك تراجعاً عن "تفاهم مشاكوس"، بسبب عودة "الحركة الشعبية" إلى طرح موضوعات حسمت في الجولة السابقة مثل علاقة الدين بالدولة وحدود الكيان الجنوبي، واتجاهها إلى الانفصال بدل الوحدة والحرب بدل السلام، وكذلك التهرب من الاتفاق على وقف الأعمال العدائية". وانتقد دور الوسطاء السالب، مشيراً إلى أن القطاع السيادي "أقر خطة للتحرك السياسي والديبلوماسي إذا ما زالت الأسباب التي أدت إلى تعليق المحادثات". وفي القاهرة، قال وزير الخارجية السوداني الدكتور مصطفى عثمان اسماعيل، بعد محادثات مع الأمين العام للجامعة العربية السيد عمرو موسى: "إن حركة التمرد رفضت التوقيع على وقف العمليات، ومارست عملاً عسكرياً وحشدت واحتلت مدينة. وهذا الوضع يتطلب وقفة عبرت عنها الحكومة بتعليق المفاوضات وتعبئة الشارع السوداني للرد على العمليات العسكرية لإرسال رسالة واضحة لحركة التمرد تقول إنها لن تكسب من خلال العمليات العسكرية وأن هذا السلام يجب أن يتم عبر التفاوض الذي يجري في نيروبي". وأكد اسماعيل "أن الغرض من تعليق المفاوضات هو تعبئة الشارع السوداني، والوقوف خلف القوات المسلحة لتصحيح ما حدث، وثانياً ارسال رسالة واضحة للحركة في اننا دعاة سلام حقيقي وأن هذا السلام يجب أن يتم عبر التفاوض وليس عبر الآلة العسكرية، وثالثاً رسالة للعالم خصوصاً أولئك الذين يتوسطون في المفاوضات، ولا يمكن أن نتحدث بلغتين لغة تتحدث عن السلام والحل السلمي والتفاوض، ولغة البندقية التي تتحدث عن القتل والتشريد والتدمير". وسُئل عن كون هذا يعني الانتقال مباشرة للحرب، فأجاب: "نعم الانتقال مباشرة إلى الحرب لتصحيح الأوضاع التي استجدت خلال اليومين الأخيرين". أربعة أسباب في موازاة ذلك، أفاد الناطق باسم "الحركة الشعبية" ياسر عرمان، في اتصال هاتفي مع "الحياة" في أسمرا، أن الوفد الحكومي قدم للوسطاء أربعة أسباب لتبرير انسحابه من المفاوضات، آخرها احتلال توريت. وأوضح "ان لقاء جرى صباح أمس بين رئيس وفد الحركة إلى المفاوضات سلفاكير ومساعد وزير الخارجية الأميركي للشؤون الافريقية والتر كانستاينر، وان الحركة أكدت للمسؤول الأميركي التزامها مبادرة ايغاد وبروتوكول مشاكوس والنتائج الايجابية للقاء الفريق عمر البشير والدكتور جون قرنق في كمبالا". وأضاف عرمان ان الحركة "علمت من الوسطاء أن التطورات الأخيرة في ميادين القتال استغلتها الخرطوم للانسحاب من المفاوضات"، مشيراً إلى أنها قدمت أربعة أسباب لخطوتها: "الأول يتلخص في رؤية النظام القائلة إن الحركة طرحت الكونفيديرالية، وهذا لا يتناسب مع بروتوكول مشاكوس، وأن الثاني هو مطالبة الحركة بعاصمة قومية لا تطبق فيها الشريعة الإسلامية، وان السبب الثالث هو مطالبة الحركة بضم جبال النوبة وجنوب النيل الأزرق ومنطقة ايي لجدول المفاوضات، وكانت أحداث توريت واستيلاؤنا عليها هي النقطة الرابعة والأخيرة". وخلص إلى أن للحركة الحق في أن تطرح ما تشاء، كما للحكومة الحق ذاته، وان الوسطاء هم الذين يقربون الشقة بين الطرفين. وعلمت "الحياة" أن وسطاء عملية السلام متمسكون بمبادرتهم ويبذلون جهوداً كبيرة لإنقاذ المفاوضات في مشاكوس. وقال عرمان في هذا الصدد: "إن الوسطاء أكدوا لنا حرصهم على استمرار العملية السلمية". ويتوقع أن يعلن الوسطاء موقفهم خلال الساعات المقبلة. وقال سامسون كواجي، الناطق باسم "الجيش الشعبي"، إن "الحجج الواهية التي تقدمها الحكومة السودانية لتبرير انسحابها من المفاوضات تخفي حقيقة الصعوبات الداخلية لنظام الخرطوم". وأضاف في مؤتمر صحافي عقده في نيروبي انه "منذ التوقيع على بروتوكول مشاكوس برزت خلافات مهمة بين شخصيات سياسية ومسؤولين حكوميين ودينيين، إذ يعارض معظمهم الاتفاق لأنهم يعتبرون ان الرئيس عمر البشير ومساعديه تخلوا عن الجنوب وارتكبوا خطأ فادحاً عبر استثنائه من تطبيق الشريعة". وأكد قائم بالأعمال السوداني في نيروبي أحمد الدرديري أن سقوط توريت ليس السبب الوحيد لانسحاب الخرطوم من المفاوضات. وأوضح أن اقتراحات "الجيش الشعبي" في شأن تقاسم السلطة تتعارض مع اتفاق مشاكوس لا سيما في شأن هيكلية الحكم، إذ يصر المتمردون على "مطالبتهم بتشكيل كونفيديرالية خلال الفترة الانتقالية". وأضاف ان "السبب الثاني هو أن الحكومة تشعر بأن المفاوضات غير مجدية بعد أن كثف المتمردون نشاطهم العسكري منذ الشهر الماضي، في غياب اتفاق لوقف النار". وقالت السفارة السودانية في بيان أمس إن "اتفاق مشاكوس ينص على الحفاظ على وحدة البلاد خلال الفترة الانتقالية، إلا أن الجيش الشعبي شكك بالاتفاق عبر تقديم اقتراحات تقوم على تشكيل كونفيديرالية بين دولتين في الشمال والجنوب". وقال البيان إن "الجيش الشعبي أعاد طرح مسألة العلاقة بين الدين والدولة، التي تم حلها في اتفاق مشاكوس عبر طرح فكرة انشاء عاصمة في الجنوب تستثنى من تطبيق الشريعة". واستنكر "التجمع الوطني الديموقراطي" المعارض انسحاب الخرطوم من المفاوضات، واعتبر ناطق باسمه "ان هذا القرار غير المبرر من قبل النظام، خطوة سالبة في مسيرة العملية السلمية"، مشيراً إلى "وجود أطراف نافذة في السلطة الحاكمة رافضة للعملية السلمية وظلت تعمل منذ البداية لاجهاض مفاوضات مشاكوس لكونها لا تتماشى مع النهج المتطرف الذي ظل يسلكه النظام".