صرّح وزير الخارجية الاميركي كولن باول قبل زيارته الى دمشق قائلاً: "سأشرح للاسد كيف تبدل الوضع بعد صدام". وعندما أنهى زيارته لدمشق وبيروت وعاد الى واشنطن صرح مهدداً بأن اميركا ستنظر الى الافعال وليس الى التطمينات. انها لغة الحرب النفسية الابتزازية من أجل الاخضاع لكل المطالب الاميركية ما ظهر منها وما خفي، وما قدم وما سيلحق. وهذا الايهام بأن الوضع تبدل بعد احتلال العراق بمعنى ضرورة الاستسلام للمشروع الصهيوني والسيطرة الاميركية ليس موجهاً لسورية فحسب وانما ايضاً للبنانوفلسطين ولمصر والسعودية ولكل الدول العربية ولايران وتركيا. ويمكن القول انه موجه الى كوريا الشمالية والصين وروسيا وفرنسا والمانيا وحتى الى الهند وباكستان. بكلمة، للجميع. ومن هنا فإن قراءة مضادة للوضع، ويجب ان تكون بالضرورة موضوعية ودقيقة، مسألة مهمة جداً في دحض هذه الحرب النفسية المتسببة بالمبالغة والغلو. مما يفتح آفاقاً واسعة للممانعة بالنسبة الى كل المعنيين بهذه التهديدات، بمعنى امكان اعتراض الهجمة الاميركية وافشالها. وهذه مسألة مهمة، ايضاً، بالنسبة الى القوى الشعبية المنخرطة في مقاومة المشروع الاميركي الصهيوني في المنطقة من فلسطين الى جنوبلبنان الى العراق مروراً بالجماهير العربية والاسلامية وانتهاء بالرأي العام العالمي. نعم، لقد تبدل الوضع فعلاً في العراق الآن. ولكنه تبدل على عكس ما يتصور كولن باول، لأن اميركا اصبحت في مواجهة شعب العراق الذي يرفض احتلالها لوطنه، وسيطرتها الاستعمارية الصهيونية على دولته وثروته وتقرير مصيره. وهو تبدل في غير مصلحة اميركا منذ اليوم، فكيف غداً وبعد غد. اما اذا ظن كولن باول ان في امكان اميركا ان تقمع شعب العراق، او تخدعه فيعمى عن حقيقة اهدافها، أو تجرّعه المشروع الصهيوني له ولفلسطين وللمنطقة فسيكون واهماً. ويكفي ان يلحظ كيف انتفض الشعب في العراق بشيعته وسنييه منذ اليوم الاول بعد انهيار نظام صدام حسين مطالباً برحيل القوات الاميركية . هذا ولا بد من أخذ العبرة مما حدث في مدينة الفلوجة حيث ارتكبت تلك القوات اول مجازرها بحق التظاهرات السلمية، واخذت تسجل اولى خطوات تراجعها امام تواصل التظاهر على رغم المجزرة 16 شهيداً واكثر من ثمانين جريحاً. والوضع الدولي تبدل فعلاً ولكن ليس كما يوهم كولن باول، فالانقسام بين اميركا وكل من فرنسا والمانيا وبلجيكا وروسيا والصين، وقد انضمت الهند اليه، أصبح بعد احتلال العراق أعمق من ذي قبل. ولا ينبغي لأحد ان يتصور ان محاولات فرنسا والمانيا لترطيب الاجواء تجدي شيئاً، ذلك ما دامت ادارة الرئيس الاميركي جورج بوش ممعنة في تنفيذ استراتيجيتها الدولية التي كانت السبب الحقيقي وراء ازمة اميركا مع غالبية الدول الكبرى والعالم. ولا يخفى على العين البصيرة ان ثمة ازمة اميركية بريطانية، وللاسباب نفسها، تحت سطح "التحالف"، آخذة بالتفاقم وإن بدت مراوحة في مكانها. وهنا يتوجب الانتباه الى القمة الرباعية بين فرنسا والمانيا وبلجيكا ولوكسمبورغ وقرارها تشكيل قوة عسكرية اوروبية للتحرك السريع مستقلة عن حلف الاطلسي، كما الى المحادثات الروسية الفرنسية لبناء مشروع درع صاروخية واقية من الصواريخ، والقمة الروسية مع خمس دول من جمهوريات الاتحاد السوفياتي سابقاً في دوشانبي، وقد تمخضت عن تشكيل قيادة مشتركة. ثم هناك ازدياد التعقيد في الازمة مع كوريا، وجديد التقارب الهندي الباكستاني، وقد تكشف مخاطر اميركا عليهما بعد حرب العراق. ومع كل هذا يحاول كولن باول ان يروّج لمقولة تبدل الوضع في مصلحة اميركا بعد احتلال العراق واستحالة قول لا لها، لئلا يتكرر ما حدث لصدام حسين. وحتى الوضع العربي آخذ بالتبدّل من الحال التي كانت عليه قبل العدوان وفي اثنائه، الى حال تتسم الآن بالوقوف امام مفترق طرق، وهو يرى اميركا بعد الحرب تحتل العراق وتوسع مخاطر العدوان وعلى سورية ولبنان، وتتهدد الانتفاضة الفلسطينية بل تعد للمضي في مشروع شارون فلسطينياً وعربياً إلى آخر المدى، مع تكرار التهديدات الموجهة إلى مصر والسعودية وسائر الدول العربية، الأمر الذي أخذ يفرض على دول النظام العربي، مجتمعة ومنفردة، بأن تستشعر الخطر، وترى نفسها تقف أمام مصير مجهول. فالسير في ركاب أميركا، هذه الأميركا التي يقودها الفريق المتطرف الصهيوني ما فوق الليكودي في إدارة بوش، غير ممكن لأن مطالبها تتخطى كل الخطوط الحمر، بما في ذلك طبيعة النظام ووجوده وحدوده. ناهيك عن مصالحه واستتباعه للمشروع الصهيوني. فالمؤشرات المتعلقة بما حدث من قبل، أو ما قد يحدث في المستقبل القريب، تشير إلى أنها متجهة إلى غير ما يريد كولن باول أو يحاول تصويره، وان لم تتحول تلك المؤشرات إلى تضامن وأفعال ومواقف أكثر جدية بعد. ولعل التبدل سيظهر بقوة أكبر عندما تصل العلاقة بسورية ولبنان إلى مرحلة المواجهة التي لا مفر منها، وذلك حين تصل المطالب إلى الخطوط الحمر، أو تبلغ المرونة والحوار والمساومة ذلك الطريق المسدود. المهم أن التبدل الحادث، أو الذي يُتوقع أن يحدث، في الوضع العربي بعد احتلال العراق وانتهاء نظام صدام حسين، ليس كما يصور كولن باول الذي يريد أن يأخذ سورية والسلطة الفلسطينيةولبنان والعرب عموماً بالحرب النفسية والإرهاب والعصا الغليظة والتهويل، فيما التبدلات الحقيقية لا تسمح بكل ذلك. صحيح أن الوضع الفلسطيني يواجه الآن تحدياً خطراً، إذ يتصور باول أن الأمور مع تشكيل الحكومة الجديدة برئاسة محمود عباس أبو مازن ستسير كما تريد إدارته وحكومة شارون، أي إلى الحرب الأهلية، وذلك من خلال الضغط عليها بدفع فاتورة مقدماً تحت شرط القضاء على الانتفاضة والمقاومة وصمود الشعب الفلسطيني من أجل عيون "خريطة الطريق"، ذات الطريق المسدود، لأنها ابنة ظروف الإعداد للعدوان على العراق، وقد ولّت ظروفها، ولم يبقَ غير الفخ الذي تنصبه للحكومة الفلسطينية الجديدة، في الوقت الذي يتهيأ شارون، مدعوماً من الإدارة الأميركية، لنسفها وجعلها طبخة بحص. فماذا سيفعل باول حين يكتشف أن الفلسطينيين لن يبتلعوا طعم "خريطة الطريق"، ولن يسمحوا بالصدام الداخلي، وأنهم أدوا بسياساتهم، وإن كانت مختلفة، إلى كشف أوراق ليكوديي واشنطن والدولة العبرية الذين يسعون عملياً إلى استبعاد اللجنة الرباعية أو تقزيم دورها بتسليم أميركا رعاية "خريطة الطريق"، أي الإقرار بتعديلها من خلال ادخال خمسة عشر شرطاً إسرائيلياً عليها. فتصبح خريطة التصفية الرهيبة للقضية الفلسطينية. أما الناحية التي لم يخطر ببال كولن باول أن يضعها في حسابه عندما تحدث عن تبدل الوضع بعد احتلال العراق، فهي ما طرأ من تبدل على الوضع الشعبي، فإلى جانب الانتفاضة والمقاومة في فلسطين وصمود "حزب الله" وثباته في جنوبلبنان وانخراط الشعب العراقي في مقاومة الاحتلال الأميركي، هنالك الازدياد الهائل في الغضب الشعبي العربي والإسلامي الذي يكاد يصل درجة الانفجار. ثم هناك الرأي العام العالمي الذي ضاعف معارضته لأميركا، وهذه ليست قوة معنوية فحسب، وإنما هي قوة مادية، في الآن نفسه. إذ تتحول إلى المقاطعة والضغط على الحكومات لتقف بقوة أكبر في وجه العربدة. طبعاً لا يستطيع كولن باول أن يرى كل هذا التبدل في الوضع بسبب طبيعة شراكته مع الفريق المتطرف ما فوق الليكودي في الإدارة الأميركية. ولكن هذا ما يجب أن يُرى من جانب المستهَدفين العرب والفلسطينيين والمسلمين، أنظمة وشعوباً، من أجل رسم سياسات واقعية، لا تخضع للابتزاز، وتكون جريئة وواثقة بإمكان الممانعة في الآن نفسه.