الشرق الأوسط على شفير الحرب... الدلائل الواضحة تشير الى ان النزاع قادم ولا مجال لتجاهله أو تجنبه... ففي حرصها على الاستفادة من عنصر المفاجأة، تحاول الولاياتالمتحدة زرع بعض الشك حول نياتها حتى اللحظة الأخيرة. لكن كل المؤشرات تدل الى ان الهجوم سيبدأ يوم 15 شباط فبراير أو حوالى ذلك التاريخ. اذ حشدت الآلة الجهنمية الاميركية قوات ضخمة لمهاجمة العراق، ويتوقع ان تكون الضربة سريعة وجراحية، وماحقة. وعليه فلا مناص من الاستنتاج بأن نظام صدام حسين ربما يعيش أيامه الأخيرة. ولقد أعلن الرئيس بوش في خطابه عن حال الاتحاد مساء يوم الثلثاء الفائت بأن كولن باول وزير الخارجية سيقدم الى مجلس الأمن يوم 5 شباط فبراير الدليل على امتلاك العراق أسلحة دمار شامل وعلى علاقته بالارهاب، محاولاً بذلك ان يقدم الحجة الدامغة لتبرير الحرب. وفي هذا السبيل بدأت واشنطن بإعداد حملة اعلامية رصدت لها ملايين الدولارات لإقناع الأصدقاء والأعداء على السواء بأن صدام حسين يمثل خطراً لا بد من مواجهته وإزالته من أجل "تحرير" العراقيين وجعل العالم اكثر أمناً. أما هانس بليكس رئيس مفتشي الأممالمتحدة فقد قدم لأميركا الخدمة المطلوبة عندما نوه في تقريره لمجلس الأمن يوم 27 الجاري عن إخفاق العراق في تقديم البرهان على مصير مخزونه من غاز الانتراكس وغيره من الأسلحة الكيماوية، وقدم تفاصيل عن المخابر الكيماوية المتنقلة وأنظمة الصواريخ المحمّلة بهذه الغازات، الأمر الذي دعم الموقف الاميركي بقوة. لقد كان تقرير بليكس في الواقع أفضل مما كان يأمله الاميركيون. فهم الآن يعتقدون بأن مجلس الأمن بإمكانه ان يناقش الأمر ولكن لا حاجة الى قرار جديد. وسيضم ما تسميه اميركا الآن "تحالف الإرادة" كلاً من بريطانيا واستراليا واسبانيا وايطاليا وبولندا ورومانيا وبلغاريا والكويت وقطر، وعلى الأرجح ثلاثة أو أربعة بلدان اخرى مترددة. ولقد فشلت محاولات فرنسا والمانيا وروسيا والصين وتركيا والجامعة العربية في كبح جماح الولاياتالمتحدة، ذلك ان قرار مجلس الأمن الرقم 1441 الذي اعتبرته الديبلوماسية الأوروبية انتصاراً لها في منع الحرب هو الذي منح اميركا الغطاء لإعداد حشودها العسكرية. لا يبدو ان فرنسا متحمسة لاستخدام حق الفيتو في مجلس الأمن ولن تتاح لها الفرصة اصلاً لفعل ذلك. اما تركيا فلا تملك القدرة على منع اميركا من استخدام قواعدها. وفي الاجتماع الأخير لوزراء خارجية الدول العربية والاسلامية في اسطنبول لم يجرؤ هؤلاء على انتقاد اميركا، بل جعلوا مسؤولية منع الحرب على عاتق العراق. واما ايران فعلى رغم قلقها من قيام نظام موال لأميركا على حدودها فإنها سترحب بزوال صدام ألد أعدائها. كذلك فإن روسيا خففت من معارضتها، اذ أوعزت لصدام بأنه لا يمكنه الاعتماد على دعمها. واضح ان تيار معارضة الحرب الذي يجتاح العالم لن يثبط من عزيمة بوش، بل على العكس فإن غضبة الرأي العام تقود صقور واشنطن الى توجيه الضربة عاجلاً لا آجلاً. ويبدو ان شيئاً لا يمكن ان ينقذ العراق سوى نفي صدام حسين أو وفاته أو قرار يتخذ في اللحظة الأخيرة بالكشف عن أسلحته الخفية. وكما كان صدام عام 1991 واثقاً بأن اميركا لن تهاجمه فإنه اليوم أخفق في فهم اشارات الصراع الوشيك. فهو قد يخسر نظامه وربما حياته في محاولته اخفاء بعض الأسلحة التافهة التي لا فائدة حقيقية منها في العمليات الحربية والتي ستقوم القوة الاميركية بتقزيمها. تغلب النفوذ الاسرائيلي على السياسة الاميركية يبدو ان واشنطن في صدد الدخول في مغامرة امبراطورية لا تختلف عن سياسة بريطانيا في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين حين كانت تسيطر على مصر والعراق والخليج وجنوب الجزيرة ومعظم انحاء الشرق الأوسط. كذلك يبدو ان بوش مقتنع بأن احتلال بغداد، القطب القديم للحضارة العربية، والقضاء على صدام حسين سيقدمان نموذجاً ديموقراطياً لبقية العرب المقموعين، ويدفع باتجاه اعادة ترتيب الشرق الأوسط وفق الأسس الغربية. وهو يعتقد على ما يبدو بأن حربه ستحرم المجموعات الارهابية من رعاية "الدول المارقة" فتحمي بذلك اميركا من هجوم آخر قد يكون أكثر فتكاً من هجمات 11 ايلول سبتمبر لأنه قد يستخدم اسلحة دمار شامل. ولا بد ان إغراء النفط العراقي قد دخل ايضاً في حساباته. مع ذلك، فهناك مسحة قوية من المثالية الساذجة في رؤية بوش. فهي من ناحية تهدئ من مخاوف اميركا من تعرضها للارهاب مجدداً، وتشيد بزعمها ان قوتها تستخدم لمصلحة الانسانية. وأما رئيس الحكومة البريطانية توني بلير، في حرصه الشديد على الإبقاء على "العلاقة الخاصة" بالولاياتالمتحدة، فقد سمح لنفسه بأن ينساق وراء خطط اميركا الحربية وهو دائماً يهوى القول خلافاً لكل الدلائل المغايرة بأن اميركا هي "قوة الخير" في العالم. ولكن الحقيقة، ان بوش ابتلع كمية كبيرة من الأكاذيب. ذلك ان هناك عصبة من الصهاينة المتطرفين في قلب مركز صنع القرار في واشنطن قاموا برسم الأجندة السياسية والعسكرية الاميركية ولفّها بالعلم الاميركي بعناية كي يستهلكها الرئيس والشعب الاميركي. هؤلاء هم الذين وضعوا اميركا على درب الحرب والذين في سعيهم الى تدمير أعداء اسرائيل غلفوا خططهم الحربية بثرثرة وطنية عن مهمة اميركا العالمية. وهم اذ يتمتعون بتأييد حلفائهم في مراكز التحليل وفي الصحافة وفي المنظمات النافذة والمؤثرة لا يخرجون عن رؤية ضيقة اسرائيلية التركيز. والحرب ضد العراق هي اشارة الى انتصار هذه العصبة وزعيمها المفكر الاستراتيجي بول ولفوفيتز نائب وزير الدفاع الذي يسعى من دون كلل منذ اكثر من خمس سنوات الى اعلان الحرب على العراق. فالعراق في نظر هؤلاء يمثل الخطر الاستراتيجي الأكبر والأخير على اسرائيل. والهدف من الحرب هو اضعاف العراق الى الأبد عن طريق تحويله الى دولة فيديرالية فضفاضة تفتقر الى مركز قوي. وأما بالنسبة الى الاخطار الاقليمية الأخرى على اسرائيل فإن مصر أخرجت من المعادلة العسكرية حين عقدت اتفاقية السلام مع اسرائيل عام 1979 مقابل مساعدة سنوية اميركية مقدارها 2 بليون دولار، وسورية التي فقدت الكثير من وزنها بسبب زوال حافظ الأسد وبسبب الخصومات الداخلية لم تعد تشكل خطراً حقيقياً على اسرائيل. واما ايران فهي مثار قلق لاسرائيل بسبب طموحاتها النووية وتأييدها لحزب الله، غير انها بعيدة عن حدود اسرائيل ولها مشاكلها على جبهات اخرى. ويذكر في هذا الصدد بأن اسرائيل هي التي دربت جهاز الاستخبارات الايراني سافاك أيام الشاه وزودت ايران السلاح ايام حربها مع العراق... وما زالت هناك آمال لدى اسرائيل ببعث الحياة في هذه العلاقات. فالعراق اذن هو الهدف الرئيسي لاسرائيل واصدقائها الاميركيين، ولا بد من معاقبته على تجرؤه على مهاجمة اسرائيل عام 1991 ولا بد من نزع سلاحه للحفاظ على الحصر الاقليمي لحيازة اسلحة الدمار الشامل. فطرد صدام سيغير الأفق الاستراتيجي ويتيح لاسرائيل، تحت غطاء حرب ترمي الى اضعاف النظام العربي بأسره، أن تهزم الفلسطينيين وتفرض شروطها عليهم. تلك هي الرؤية المسمومة عند الفريق الموالي لاسرائيل. وهي الأمل العزيز على قلب ارييل شارون رئيس وزراء اسرائيل وبطل "اسرائيل الكبرى" الذي ينعم الآن بانتصاره الشخصي في الانتخابات. والأطروحة التي يرددها مستشاروه هي ان كل شيء سيكون مختلفاً بعد الحرب. فالطريق الى القدس ستمر ببغداد و"خريطة الطريق" الخاصة بالدولة الفلسطينية في عام 2005 والتي رفضها شارون ستغيب في التاريخ كما غابت قبلها خطة ميتشل وخطة تينت مدير ال"سي آي اي". ويستمر في هذه الأثناء بناء المستوطنات وهدم المنازل والقتل المستهدف ومنع التجول وإقفال المدن وكل ما سوى ذلك من أشكال القمع الاسرائيلي المتزامنة مع تحطيم كل أثر للسلطة الوطنية، ويستمر ذلك حتى يستسلم الفلسطينيون ويقبلوا بالفتات المعروض عليهم. وماذا بعد ذلك؟ لكن هذا السيناريو يرتكز الى العديد من الاخطاء. فمن ناحية أولى لا يبدي الفلسطينيون على رغم كل ما يلاقونه من عذاب أي اشارة تدل الى أنهم هزموا وانهم سيستسلمون، فشارون بارع في المناورة والتكتيك غير انه بائس في الاستراتيجية. وهو يقود شعبه نحو الكارثة كما ظهر ذلك في السنتين الماضيتين... وهو بحاجة لأن يعثر على "كويسلنغ" فلسطيني خائن لينفذ مشروعه بإقامة الدولة الفلسطينية الصورية التي يفكر فيها، دولة عبارة عن بقع ممزقة لا تملك وسائل الدفاع عن نفسها معزولة عن بعضها بعضاً وتعيش نصف عمرها تحت رحمة اسرائيل. غير ان المصير المؤسف الذي لقيه بشير الجميل الذي كان محمياً من شارون قبل 20 عاماً من شأنه ان يثني أي فلسطيني عن الاتفاق والتعاون مع شارون. وفي هذه الأثناء تستمر العمليات الانتحارية. أما اميركا فيرجح ان تجد احلال السلام في العراق مسألة تحتاج الى الكثير من الوقت والتكاليف الباهظة. فحين اجتاحت اسرائيل لبنان عام 1982 لقيت حفاوة في البداية ثم ما لبثت ان اضطرت الى الانسحاب نتيجة للمقاومة الشعبية. ومن المحتمل ان تواجه القوات الاميركية التجربة نفسها في العراق. هذا فضلاً عن المحاذير التي ستواجهها في المنطقة، وعن امكان تعرض المواطنين والمصالح الاميركية الى هجمات جديدة. وقد تكتشف الولاياتالمتحدة، في سعيها الى فرض هيمنتها الامبراطورية على الشرق الأوسط، انها تتورط في "فيتنام" جديدة وهي بالكاد قد شفيت من عذاب الضمير من جراء تلك الحرب. ان العالمين العربي والاسلامي غير جاهزين لحملة كولونيالية جديدة... ف"القاعدة" ما زالت طليقة تستميل المنتسبين الجدد كل يوم وتستعد لتوجيه ضربات جديدة. * كاتب بريطاني متخصص في شؤون الشرق الأوسط.