احتفلت دولة الكويت مطلع هذا الاسبوع بالذكرى العاشرة لتحريرها بمشاركة ابرز الشخصيات التي ساهمت في الاعداد لعملية "عاصفة الصحراء". ولكي لا تحرج القادة العرب والاوروبيين الذين شاركوا في بناء قوات التحالف عام 1991، اكتفت الحكومة الكويتية بتوجيه الدعوة الى الرئيس الاميركي الاسبق جورج بوش والى رئيسي وزراء بريطانيا السابقين مارغريت ثاتشر وجون ميجور، اضافة الى وزير الخارجية الحالي الجنرال كولن باول الذي شغل منصب رئيس هيئة اركان القوات الاميركية اثناء حرب تحرير الكويت. وعندما كان الجيش الكويتي 25 ألف جندي يتدرب على برنامج العرض العسكري بالتنسيق مع مسيرة طلابية تضم 17 الف تلميذ، اعلنت الاذاعات ومحطات التلفزيون نبأ قصف منشآت الرادار قرب بغداد. وبرّر الرئيس الاميركي الجديد جورج دبليو بوش، اول عملية عسكرية يدشن بها عهده، بالقول ان السياسة الفاشلة الليّنة تجاه العراق انتهت مع ولاية كلينتون! وكان من الصعب على الوزير كولن باول القيام بمهمة محامي الدفاع عن الضربة المفاجئة التي سددتها واشنطن نحو العاصمة العراقية، في وقت اختارت اسرائيل بطل مجزرة "صبرا وشاتيلا" بديلاً من ايهود باراك لعله ينجح في خنق الانتفاضة وتدمير عملية السلام. وخرج المتظاهرون في شوارع غزة وغالبية العواصم العربية احتجاجاً على الانحياز الاميركي، وتأييداً لموقف العراق الذي دشن مرحلة الانفتاح التجاري على اكثر من ثلاثين دولة. ورأى الوزير باول انه من الصعب جداً اعادة الوضع العربي الى اجواء 1991 بحيث يجعل من فكرة احياء التحالف ضد صدام حسين مدخلاً لإقناع شارون بتجديد مفاوضات السلام. ولكنه تحاشى مشاركة اسرائيل في مسألة العراق لئلا يعطي النظام العراقي حجّة اضافية لربط العمليات العسكرية ضده بموقفه المؤيد لكامل الحقوق الفلسطينية. وهو موقف عرف صدام حسين كيف يستثمره بعناية فائقة مستفيداً من صلافة اسرائيل لجعل غضب الشارع العربي مدخلاً الى اعادة تأهيل نظامه مع الانظمة العربية والاوروبية التي شنّت الحرب ضده. ولقد استفاد من شكوى الدول التي رفضت الولاياتالمتحدة مشاركتها في الحصول على المواد النفطية او صفقات الاسلحة. ويتردد في باريس ان الغارة الاخيرة على بغداد كانت تمثّل شيئاً من التهديد وشيئاً من التذكير بأن التعاون مع بكين وموسكو وباريس وتركيا ومصر لا يؤمن عودة النظام الى الاسرة الدولية، وان واشنطن وحدها قادرة على عرقلة كل التسويات. ومعنى هذا ان وراء قرار تفعيل الحظر على العراق هدفاً اقتصادياً لا يحرم اميركا من حق المنافسة في الحصول على قطعة كبيرة من كعكة المشاريع العراقية المقدرة بثمانية بلايين دولار. ومن المؤكد ان صدام حسين ارسل خلال السنوات التسع الماضية العديد من الرسائل المشجعة التي يطالب فيها بالحفاظ على دوره السابق اثناء الحرب مع ايران، مقابل الموافقة على مشروع السلام والاعتراف بحدود دولة الكويت وسيادتها. والثابت ان ادارة كلينتون تجاوبت بخفر مع سياسة الانفتاح البطيء والمتدرج بحيث تغاضت عن غياب لجنة المراقبة الدولية لمدة سنتين. وبما ان هذه السياسة تقود تلقائياً الى رفع العقوبات والى عودة النظام العراقي الى حضن الشرعية الدولية... فان الرئيس الجمهوري بوش أيّد عملية ضرب هذه السياسة لان انتصارها يحقق فوزاً مزدوجاً لصدام حسين: اولاً - يحقق له السيطرة الكاملة على خصومه في الداخل ويعينه على فرض ارادته على دول منطقة الخليج في الخارج. ثانياً - لا بد وان تشجع عملية تأهيل النظام على انتشار التيار المطالب بانسحاب القوات الاميركية والبريطانية من بعض دول الخليج والممرات البحرية الاستراتيجية. ويبدو ان قرار استئناف ضرب نظام صدام حسين، واظهاره بمظهر الآلة العسكرية المُهدِدة لاستقرار المنطقة، ينسجم مع نظرية المؤامرة التي تروجها المعارضة العراقية بأن استمرار صدام حسين في الحكم ضرورة لاستمرار الوجود العسكري الاميركي فوق منابع النفط. وتستند هذه النظرية الى حجج مختلفة بدءاً بايحاءات السفيرة الاميركية ابريل غلاسبي قبل غزو الكويت... وانتهاء بادعاءات بوش الوالد والوزير باول بأنهما ارتكبا خطأ كبيراً في تقدير انهيار النظام العراقي. ولكن الاعتراف بسوء التقدير لا يعفي ادارة بوش السابقة من مسؤولية تشجيع صدام حسين على قمع حركتي التمرد في الشمال والجنوب ولو بحجة الحفاظ على وحدة العراق وتماسكه الجغرافي. وتزعم قيادة المعارضة العراقية في لندن ان هناك تنسيقاً خفياً بين واشنطنوبغداد يصبّ في خدمة نظرية المؤامرة. وآخر مثل على ذلك التصريح الذي أدلى به عدي النجل الاكبر للرئيس العراقي، وفيه يهدد بعودة بغداد عن اعترافها بالكويت ما لم تحترم دولة الكويت سيادة العراق وسلامة اراضيه. وكان العراق اعترف عام 1994 بدولة الكويت والحدود المشتركة التي رسمتها الاممالمتحدة. وأُعتبر تصريح عدي انتهاكاً لبنود وقف اطلاق النار، خصوصاً انه طلب من المجلس الوطني رسم خريطة "العراق الكبير" على ان تضم الكويت كمحافظة رقم 19. وعلّق وزير خارجية العراق محمد سعيد الصحاف على هذا المطلب بأنه غير ملزم لسياسة الدولة لكونه يعبّر عن رأي شخصي. لكن واشنطن لم تأخذ بتفسير وزير الخارجية لاقتناعها بأن كل تصريح يدلي به اي شخص في العراق يجب ان ينال موافقة الرئيس. وعليه اتخذت من التصريح قرينة ل،ثارة مخاوف جديدة لدى دولة الكويت. ومن المؤكد ان مثل هذا التصريح سيشجع الكويت ودولاً خليجية اخرى على تجديد الارتباط بالمظلة العسكرية الاميركية التي تنتهي مدتها في نهاية هذه السنة. كما تشجع الدولة على زيادة مخصصات التسلح التي تشكل نفقاتها اكثر من 30 في المئة من موازنة الكويت السنوية البالغة 13 بليون دولار. وفي اطار النفقات الدفاعية لجيش يتألف من 25 ألف جندي، اشترت الكويت دبابات وطائرات من الولاياتالمتحدة، وعربات لنقل الجنود من بريطانيا، وزوارق سريعة من فرنسا. ومع ان هذه الدولة الصغيرة مرتبطة امنياً ب"درع الصحراء" الذي يلزم دول مجلس التعاون الخليجي بالدفاع عن اي دولة عضو... الا ان المظلة العسكرية الاميركية تبقى الجهة الفعلية الحامية، على رغم توقيع اتفاقات دفاع وتعاون مشترك مع لندن وباريس وموسكو وبكين. والمعروف ان روسيا والصين زودتا الكويت بمدافع بعيدة المدى وبنظام حديث لاطلاق الصواريخ. لكن توازن القوى يبقى لصالح صدام حسين الذي يؤكد يومياً ان الهزيمة كانت من نصيب خصومه، وان اخراجه من الكويت لم يؤد سوى الى تأجيل طموحاته. وعليه يتوقع الاميركيون ان تتضاعف نسبة النفقات المخصصة لاستكمال تجهيز الجيش والشرطة، خصوصاً وان ارتفاع سعر النفط حقق دخلاً سنوياً للكويت يقدر بعشرين بليون دولار، علماً بأن رصيد المال الاحتياطي في تاريخ الاول من آب اغسطس 1990 كان يقدر ب96 بليون دولار ونصف البليون. ولم يبق من حساب الاحتياطي بعد خمس سنوات اكثر من 37 بليون دولار على اعتبار ان تكاليف الحرب استنزفت ما نسبته 60 بليون دولار. يبقى السؤال المتعلق بإحياء التوازنات الاقليمية عبر توسيع الغارات على العراق مقابل تحريك مفاوضات السلام. وهو سؤال سمعه الوزير كولن باول في العواصم العربية التي زارها لأن الادارة الاميركية الجديدة كشفت عن اسلوب تعاملها مع ازمة العراق، لكنها تجاهلت اسلوب التعامل مع ازمة الشعب الفلسطيني. وانتقد باول وساطة كلينتون في التدخل الاميركي الزائد عن اللزوم، وقال انه سينشط بين اسرائيل والفلسطينيين بالقدر المطلوب من الوسيط المنطقي الملتزم امن اسرائيل وتحقيق الطموحات الشرعية للشعب الفلسطيني. وحرص على اقناع شارون بتقديم بوادر حسن النية اذا كان فعلاً يريد من الزعماء العرب ان يحكموا على الحاضر ويتناسوا الماضي. ووافق شارون على فتح الحوار مع ياسر عرفات شرط ان يأمر بوقف الانتفاضة لان اسرائيل لا تحتمل الاذعان لضغط التهديد والوعيد. ودافع ابو عمار عن موقفه بالقول ان شارون هو الذي اشعل نار الانتفاضة، وان عليه تحمّل مسؤولية الاتهام بالإشارة الى مشروع السلام، الامر الذي يقتضي سحب قواته من مواقع الاستفزاز. زادت هذه الاقوال المتناقضة من عوامل التشويش لدى الوسيط الجديد الذي اكتشف هوّة عميقة بين الموقفين اللذين تباعدا كثيراً خلال الاشهر الخمسة الماضية من عمر الانتفاضة. وفي اللقاء مع عرفات خرج كولن باول بانطباع تشاؤمي مفاده ان اسرائيل تتعمد انهيار السلطة الفلسطينية. قال له "ان الوضع السياسي - الاقتصادي يتآكل يومياً بسبب تدمير المنازل والمزارع وقطع المياه والكهرباء. لقد ازدادت البطالة بنسبة تزيد على الخمسين في المئة، واختفت خدمات الرفاه الاجتماعي لتحل محلها خدمات المؤسسات الخيرية التابعة ل"حماس" و"الجهاد الاسلامي". واعتقد ان هاتين الحركتين سترثان السلطة الفلسطينية المنشغلة حالياً بنقل الجثث والجرحى الى المستشفيات. عندئذ لن يكون بمقدور اي زعيم اسرائيلي اجراء اي حوار سياسي او امني مع دعاة الثورة. ومعنى هذا ان انهيار سلطة ابو عمار وحكومته سيؤدي الى انتشار الفوضى في الضفة وغزة، والى تعزيز قبضة التنظيمات المسلحة بحيث تتحول هذه الارض المحروقة الى شيء من لبنان وشيء من افغانستان وشيء من الجزائر. ان القنابل الذرية لا تستطيع حماية اسرائيل من اثر الفوضى العارمة. كما ان تفشيل عرفات لا يعطي الضمانة بأن وريثه سيكون افضل لمسيرة السلام". ارييل شارون من جهته وصف الوضع الداخلي في غزة والضفة بأنه من صنع ياسر عرفات وجماعته. وعندما قال له باول ان الازمة تفرض تراجع القوات الاسرائيلية عن مواقع التحدي والاستفزاز، ادعى رئيس الوزراء ان عرفات يستطيع وقف الانتفاضة وتجميد نشاط تنظيم "فتح" لأن مروان البرغوثي يأتمر بأوامره وينفّذ توجيهاته. ولما سأله عن الافادة التي يجنيها عرفات من وراء الانهيار الكامل لسلطته، اجاب شارون "الانتفاضة تزيد من سيطرته على الاحداث من دون ان يكون مسؤولاً عنها. ومثل هذه السيطرة الخفية يتمثل في خلق وعي جماعي بواسطة الجو المحموم والاحداث الدامية. عرفات يترك عملية التصعيد تتنامى بواسطة التنظيم واجهزة الامن، وحماس، والجهاد الاسلامي، ومجموعة بن لادن، واصدقاء حزب الله، وقوات ال17. صحيح ان الضائقة الاقتصادية تقلق عرفات، ولكن الفوضى تساعده على توسيع دائرة المشاركين في القتال. وربما اوحى بضرورة زيادة حدة العنف مع اقتراب موعد انعقاد قمة عمان. وهو بالطبع قادر على استغلال المناسبة لبث الرعب في قلوب الحاضرين والحصول منهم على طلب تدخل دولي لحل النزاع، او مضاعفة حجم المساعدات". في لقاءاته السريعة عاد كولن باول الى واشنطن ليؤكد ان الادارة لم تستكمل رسم الخطوات التي ستتخذها لحل ازمة الشرق الاوسط. وهي خطوات بالغة الصعوبة من شأنها ان تؤدي الى تورط اميركي عسكري جديد اذا لم تحسن الديبلوماسية معالجة الوضع المتقيّح... او اذا لم تبادر واشنطن الى انقاذ السلطة الفلسطينية قبل ان يحولها الانهيار الاقتصادي المتسارع الى سلطتين وقيادتين وثورتين! * كاتب وصحافي لبناني.