"أنا أرفض ان يكون وجود اسرائيل وزنة في ميزان مشروع سلام الشرق الاوسط". بهذه الكلمات خاطب ارييل شارون الجنرال انتوني زيني اثناء بحثهما في خطة تينيت، وكيفية التوصل الى صيغة مرضية للطرفين تساعد على وقف اطلاق النار والدخول في مفاوضات جادة. وكرّر شارون موقفه المعارض لكل اشكال التسوية التي قدمها الوسيط الاميركي، مُعتبراً ان تنازل اسرائيل امام شروط عرفات لا يجوز ان يكون الثمن لإقناع الدول العربية بالمشاركة في حملة إسقاط صدام حسين. المؤكد ان شارون لم يكن ينتظر عودة زيني الى المنطقة بسبب امتناع ياسر عرفات عن التجاوب مع المطلب الاميركي بضرورة اعلان وقف النار. ويبدو ان قرار الرئيس جورج بوش صدر فجأة اثر اجتماعه بالعاهل الاردني والرئيس المصري. ونصحه الاثنان بأهمية احياء مهمة زيني كبادرة حسن نيّة يمكن ان تساعد نائبه ديك تشيني، وتخفّف من وقع الانحياز الاميركي لاسرائيل. ولكي لا يغضب واشنطن، قام شارون باعلان تنازله عن المطالبة بأيام الهدوء السبعة قبل بدء المفاوضات. كذلك أظهر بعض المرونة عندما ادعى انه سيأمر قواته بالانسحاب من المناطق الفلسطينية. ولم تكن هذه المؤشرات سوى مظاهر خداع أراد شارون بواسطتها استكشاف حقيقة موقف الادارة الاميركية من خصمه عرفات. وكان واضحاً من سلوك تشيني الذي وصفه علناً ب"الصديق القديم" ان سياسة الادارة لم تتبدّل تجاه رئيس السلطة الفلسطينية. وقرأ شارون في قرار امتناع تشيني عن الاجتماع بعرفات عنواناً سياسياً مفاده ان ادارة بوش لا ترى في الرئيس الفلسطيني شريكاً رئيسياً في عملية السلام. وهكذا فشلت مهمة الجنرال زيني قبل ان تبدأ بدليل ان خلافه مع لجنة التفاوض الفلسطينية انفجر بسبب اصراره على معالجة الجانب الامني من خطة تينيت، اي الجانب المتعلّق بموضوع العنف وجمع الاسلحة وتسليم المطلوبين من منظمات "حماس" و"الجهاد الاسلامي" و"الجبهة الشعبية". شعر رئيس السلطة الفلسطينية بأن وثيقة زيني هي نسخة معدّلة للشروط الاسرائيلية القاضية بتنفيذ المرحلة الاولى من خطة تينيت. كما شعر ايضاً بأن تسليم المطلوبين وعددهم 105 سيفتح الباب لاندلاع حرب اهلية فلسطينية - فلسطينية، خصوصاً ان منظمات الرفض لا تخضع لأوامره. وحاول ايجاد مخرج عملي يضمن الدخول في المرحلة السياسية من المفاوضات شرط ان ترفع اسرائيل الحصار وتفرج عن الاموال المُجمّدة وتفتح المعابر. ووافق شارون على تلبية هذه المطالب، وانما ربط تنفيذها بمرور فترة اختبار لا تقل عن اربعة اسابيع. وكان بهذا العرض المُعقّد يُحرج عرفات قبل انعقاد القمة العربية في بيروت. كما كان ينسف جسور الوساطة الاميركية التي رحّبت بسفر رئيس السلطة الفلسطينية شرط اعلان تقيده بوثيقة زيني، علماً بأن الوقت الذي حدّدته الوثيقة لا يسمح بانتقال عرفات الى بيروت. صحيفة "معاريف" نشرت تفاصيل المحادثات التي اجراها ديك تشيني مع شارون حول مهمته في المنطقة، وحول نظرته الى دور ياسر عرفات. وذكرت ان الزعيم الليكودي حذّر نائب الرئيس الاميركي من خطأ الرهان على سكوته ازاء استمرار "الارهاب" الفلسطيني بهدف بلورة تحالف عربي عشية الاعداد لهجوم على العراق. وادعى ان عرفات يشجّع سراً عمليات العنف لأنها في تصوره تؤدي الى خلق متغيّرات شبيهة بالمتغيّرات التي حصلت في لبنان وكوسوفو. ويرى شارون ان "حزب الله" اصبح مثال الاقتداء بالنسبة للمقاتلين الفلسطينيين، لأنه نجح في رفع حجم الخسائر البشرية وفي خلق جمهور اسرائيلي يؤيد الانسحاب من جنوبلبنان. ويقول شارون ان مقارنة لبنانبالضفة الغربية خاطئة، لان الاسرائيليين لا يعتبرون الضفة ارضاً محتلة لكونها تمثّل ذخراً تاريخياً توراتياً يُطلق عليه اسم "يهودا والناصرة". وفي اعتقاده ان جنوده لا يشعرون بأنهم يقيمون في اراض محتلة. اما بالنسبة للاقتداء بمثل كوسوفو، فإن تمتين العلاقات الفلسطينية - الاوروبية يخدم سياسة استقدام قوات دولية. وفي ضوء هذه القناعة يستقي ابو عمار العبرة من صمود الأقلية الاسلامية والألبانية التي وفّرت لها الحماية قوات الاممالمتحدة والتدخّل الاوروبي. وتقول "معاريف" ان شارون أبلغ تشيني بخطة السيطرة على مناطق الضفة الغربية في حال استمرت هجمات الانتحاريين الذين قتلوا منذ بدء الانتفاضة في ايلول سبتمبر 2000 اكثر من 415 اسرائيلياً. في الكتاب الذي أصدره عن سيرته الذاتية، كتب ارييل شارون يقول انه سجّل في يومياته إثر عملية اجتياح لبنان عام 1982 هذه العبارة: "المنصة جاهزة الآن لتنفيذ إبعاد كامل يقود الى انهاء حرب اسرائيل ضد مملكة العنف الممثلة بمنظمة التحرير الفلسطينية". يومها قرّر وزير الدفاع الاسرائيلي اغتيال عرفات والتخلّص منه. ولكنه فشل في تحقيق هذه الأمنية لأن المبعوث الاميركي فيليب حبيب منعه من تنفيذ الجريمة. ورضخ شارون للارادة الاميركية بعدما وافق رئيس الوزراء مناحيم بيغن على ترحيل عرفات مع تسعة آلاف مقاتل. وكتب شارون في مذكراته وعنوانها "المقاتل"، يقول بأنه توقع غرق ياسر عرفات في لجّة النسيان والمجهول، خصوصاً ان الباخرة التي أقلّته الى اليونان، كانت تحمل اسم "اطلنطس"، أي اسم القارة التي غرقت واختفت في قاع الأوقيانوسات. بعد انقضاء عشرين سنة تقريباً عاد شارون لينفّذ خطة الاغتيال المعنوي بعدما حذّرته الادارة الاميركية من عواقب التصفية الجسدية لغريمه القديم. وكما استغلّ عام 1982 محاولة اغتيال سفير اسرائيل في لندن أرغوف، لكي يقنع مناحيم بيغن بضرورة تصفية منظمة التحرير… هكذا استغلّ عمليات نتانيا والقدس وتل ابيب لكي يعلن حرب المواجهة ضد الفلسطينيين. وفي جلسة طارئة حضرها ممثلو الاحزاب، طلب التصويت على تجنيد عشرين الف جندي احتياط من اجل السيطرة على مدن الضفة الغربية. وأطلق على العملية اسم "السور الدفاعي" معتبراً ان قرار إبعاد عرفات سيكون الهدف الاول. واعترض رئيس الموساد افرايم هليفي ورئيس الشاباك آفي ديختر على فكرة طرد عرفات لاعتقادهما بأن وجوده في الخارج سيكون عامل تحريض على تنشيط العمليات الخارجية. وربما أدت التظاهرات والاضطرابات الى اضعاف حلقات الاتفاق مع مصر والاردن. ولقد ساعد على تنفيس احتقان الغضب المكالمة الهاتفية التي تلقاها شارون من كولن باول وفيها يطلب عدم المساس بعرفات. وبعد نقاش حاد استمر حتى الثالثة صباحاً تم الاتفاق على محاصرة مدينة رام الله واستخدامها كنموذج لتطبيق حرب "السور الدفاعي" على سائر مدن الضفة وقراها. كما تقرر عزل عرفات داخل مكتبه وعدم الاعلان عن السلطة الفلسطينية كعدو بسبب الحاجة الى ابقاء شريك مستقبلي لوقف النار. والطريف ان قرار العزل لم يفرض على الرئيس الفلسطيني تسليم هاتفه الخليوي لأن وزير الدفاع بنيامين بن اليعيزر اقترح ذلك. وبرّر اقتراحه بالقول ان الاستخبارات الاسرائيلية تستطيع رصد وضعه السياسي وحالته النفسية من خلال مراقبة اتصالاته التليفونية. ويبدو ان عرفات يشعر بالتنصت المتواصل، لذلك يكثر من التحدث مع شخصيات اجنبية لإيهام شأرون بأن كل زعماء اوروبا يؤيدونه. يقول الجنرال رافي ايتان ان ارييل شارون طلب منه احتلال مناطق أ والانتقال بعملية تفتيش واسعة من بيت الى آخر، والقبض على كل المتهمين والمطلوبين بعد جمع الاسلحة. وعندما تنتهي هذه المرحلة خلال اسبوعين، أوصاه بالانتقال لتنفيذ المرحلة الثانية وطرد القيادة المثيرة للشغب واعداد الميدان للقادة الحقيقيين المحليين مثل دحلان والرجوب والبرغوثي والتوقف عن الاتصال مع رجال تونس واوسلو. وبعد انقضاء شهر كامل على تنفيذ سياسة الضربة القاضية، يتوقع شارون ان تمنحه قوة الحسم دعم الرأي العام للقيام بخطوة سياسية تاريخية تقود الى المصالحة بين الشعبين. يقول المعلّق يوئيل ماركوس، ان شارون يعرف دائماً كيف يبدأ ولكنه يجهل دائماً كيف ينتهي. وأبلغ مثل على ذلك تورطه السابق في حملة "سلامة الجليل" عام 1982، وما احدثته من تفاعلات على الصعيدين السياسي والامني. وبدلاً من ان تحدث التغيير في هيكلية النظام اللبناني، أغرقت اسرائيل في مستنقع صبرا وشاتيلا، وأدت الى ولادة "حزب الله". التدخل الاميركي المفاجئ الذي اعلنه الرئيس جورج بوش يوم الخميس الماضي، احدث صدمة سياسية لدى جميع الدول التي أقلقها ظهوره كحارس لمجازر اسرائيل وكمدافع عن ارتكابات قواتها. واعتبر زعماء الاتحاد الاوروبي ان هذا الاعلان كان بمثابة تأييد للعملية الواسعة ودعم لسياسة شارون. كما كان في الوقت ذاته يمثّل تحذيراً للقوى الخارجية التي أطلّت عبر جنوبلبنان وسورية وايران والشوارع العربية الهائجة، بأن واشنطن ستتدخل لمنع كل محاولات انقاذ الشعب الفلسطيني وسلطته الوطنية. ولكي يخفّف من ردود الفعل على الساحة الدولية، قام توني بلير بزيارة عاجلة للبيت الابيض بهدف تحذير بوش من مخاطر تبني سياسة شارون لأن المنطقة العربية حبلى بالأحداث. ولقد استبشر رجال الكونغرس بهذه الزيارة لأن بلير في نظرهم، يمثّل دور المرشد الروحي غورو لرئيس قاده الغرور لأن يتصور نفسه يوليوس قيصر القرن الواحد والعشرين! * كاتب وصحافي لبناني.