بعد أن تناولت حلقة الثلثاء الماضي معاناة الأكراد العراقيين، هنا التتمة: عندما تقدمت، عام 1991، دبابات حسين كامل، صهر صدام، الى كربلاء، وقد كُتب عليها "لا شيعة بعد اليوم"، لم يكن سلوك فظيع كهذا غير جهر بما كبته البعث طويلاً. فالشيعة لم يكن حظهم مع البعث أفضل من حظ الأكراد. لكن مشكلة البعث مع الشيعة بدت أكبر من مشكلته مع الأكراد. فلأن الأخيرين ليسوا عرباً، وجدت الحرب عليهم غطاءً يوفّره تأويل شوفينيّ ما مهما بدا ضمنياً. أما هم، ففضلاً عن عروبتهم التي تُحرج حزباً قومياً عربياً، يشكلون أكثرية عددية مُحرجة بدورها لسنيّة نظامه. فهم أكبر طوائف الاثني عشريين في العالم العربي، تُقدّر نسبتهم ب60 في المئة من العراقيين او 15 مليون نسمة. ولئن كانت أكثريتهم الساحقة عربية، تعيش على رقعة أرض متصلة تمتد من بغدادجنوباً، فإنهم ضموا أيضاً أقليات صغرى من أكراد فيليين وتركمان ومن إيرانيين تعرّبوا. ويكفي لتقدير خصوصية الشيعية العراقية أن الطائفة الشيعية العربية الثانية عدداً، أي اللبنانية، لا تتعدى جزءاً ضئيلاً منهم يقل عن عُشر الطائفة الأولى. هكذا اتجه الحكم العراقي الى سحق كل تذكير بهوية للشيعة حتى لو اقتصرت على الحيّز الثقافي أو الطقسي. فبغداد البعثية أقرّت، في 1970، ولو لفظاً، بوجود حقوق لأكراد الشمال وبمنحهم حكماً ذاتياً. لكن إقراراً كهذا ظل مستحيلاً في ما خص أهل الجنوب. ولما استُخدمت البعثية والتكريتية أداتي استبعاد للآخرين وحصر للسلطة ومنافعها في حفنة من السكان، بدا الشيعة صورة حية عن هذا الاستبعاد. فهم الأكثرية العددية التي أُحيلت أقليةً سياسية ممنوعاً عليها الجهر حتى بأقليّتها هذه. فكان لا بد، بالتالي، من فتح أوسع الأبواب أمام تخييل مهووس. وبالفعل رُدّ كل تعبير عن خصوصية شيعية الى تآمر إيراني مفترض يتصيّد به "الفرسُ" "العرب". وتآمر كهذا لا يستقبله من العراقيين الا المنقوصو العروبة او المطعون في عروبتهم، او ممن تحرّكهم أغراض "دنيئة" في رأسها الطائفية. وبحسب المنطق الموصوف، فإن الطائفي مَن يرفع مطالب خاصة بالطائفة، لا من يعيد تأسيس الطوائف على نحو موسّع، ويصلّبها فكرياً وشعورياً. وإنما من هذا الكبت الكامل تجمعت، تحت الرماد، نيران تنتظر الفرصة التي تُطلقها لهيباً. بيد أن المشكلة المذهبية سابقة كثيراً على البعث. فما بين أوائل القرن السادس عشر وأواخر الثامن عشر، كانت تلك الرقعة التي صارها العراق مسرح المواجهة المحتدمة بين السلطنة العثمانية السنية والسلالة الصفوية الشيعية في إيران. وكلما وُفّقت إحداهما في الامساك ببغداد، كانت تُنزل القهر والثارات بالمذهب الآخر. ولما حُسم الأمر أخيراً بانتصار السلطنة، اعتمد العثمانيون على السنّة من أهل المدن لإدارة الولايات ما بين كردستان الجنوبية وشمال الخليج. وهذا ما اتبعه البريطانيون والحكم الملكي منذ تأسيس الدولة-الأمة في 1920. لكن التوتر المذهبي كان يزداد تأججاً مع كل تراجع ينتاب نزعة الوطنية العراقية لمصلحة القومية العربية الراديكالية والحداثية، والنزعتان ناشئتان وقيد التشكّل. فمثلاً، إبان الحكومة الثانية لياسين الهاشمي، عام 1935، وهو أكثر قيادات العهد الملكي عروبيةً، جرت محاولة جدية لمنع موكب مُحرّم جملةً وتفصيلاً. وكان الاجراء هذا أحد العوامل المؤدية الى انتفاضات العشائر الجنوبية خلال 1935-1936 في وجه من أسماه الشيعة "أتاتورك العراق". وبالطبع اشتمل الحذر على الخوف من الذوبان في أكثرية سنية تنجم عن وحدة عربية ما، اشتماله على رفض الظلم والحرمان. وانضاف الى البُعدين هذين تحفظ عن الدولة الحديثة غذّته المؤسسة الدينية. فالأخيرة بوصفها العمود الفقري لمجتمع الشيعة الأهلي، لم تكتم خوفها من التعليم الرسمي والعصري المنافس لتعليمها، حاضّةً تابعيها، منذ العشرينات، على ألاّ ينتسبوا الى الادارة والجيش. الا ان العلاقة السنية - الشيعية لا يختصرها الحذر والتناحر. فلئن تردد العهد القديم في توسيع ناديه السياسي لرموز الشيعة، حقق الأمر نقلة نوعية مع عبد الكريم قاسم، رائد الوطنية العراقية غير الطائفية والمتفرّع، هو نفسه، عن أمٍ شيعية. وكان من انجازات قاسم أنه، وإن عطّل السياسة، اتجهت إصلاحاته الى الصلب الاجتماعي فبنى، في المدن، أحياءً يخضع نظامها السكني للتصنيف المهني. هكذا تجاور السنة والشيعة وشرع التزاوج المختلط بينهم يخطو خطى واسعة. وظل الحزب الشيوعي، وعلى نطاق أضيق "الحزب الوطني الديموقراطي" الأهالي، بيئتين للتعدد العراقي العابر للمذاهب والاثنيات، ومثلهما النقابات. لكن البعث الذي راح، منذ 1963، يتعرّى من حضوره الشيعي ليتماهى مع عسكر البيئة الريفية لتكريت وجوارها، بقي غريباً عن تجارب كهذه يستغربها ويستريبها. فحين عاد الى السلطة في 1968 مثّل للشيعة كل ما هو مكروه في مسيرتهم خلال القرن العشرين: التحديث القسري والهيمنة السنية العسكرية والايديولوجيا القومية العربية. والحال ان الشيعة، وقبل أن يُذبحوا بصفتهم هذه، عانوا الآثار المترتبة على إقبالهم الواسع على الحركة الشيوعية. فبمعنى ما، جاء تدمير "حزب فهد" على يد البعث دفعةً أولى مُقدّمةً تم تسديدها لهم. غير أن الشيوعية الشيعية لم تكن الخلاصة السياسية الوحيدة لتجارب أبناء البصرة والنجف والعمارة. فهي، بالأحرى، الهامش العريض لمتنٍ جسّدته دوماً المؤسسة الدينية برموزها وتعليمها ومصالحها، ومعها كبار الملاكين الزراعيين والعشائريين في الجنوب. ومع تخوّف المرجعية من تنامي اليسار العلماني في وسطها، أواخر الخمسينات وأوائل الستينات، حصل تقارب عابر بينها وبين دعاة القومية العربية أفاد منه البعثيون. فإذ أفتى الأزهر في مصر، عام 1959، بأن المذهب الجعفري مذهب خامس يصح فيه ما يصح في المذاهب السنية الأربعة، أفتى كبير مراجع الشيعة، السيد محسن الحكيم، في 1960 بأن الانتماء الى تعاليم لينين يتنافى مع الانتساب الى دين محمد. وقد انتسب شبان شيعة الى البعث آنذاك لكن العروبة ظلت، في نظرة الشيعة المقبلين، دعوة موروثة عن الزمن الامبراطوري الى التعالي على "العجم" و"الفرس"، والى التنصّل من "شعوبية" كثيراً ما قُرنت بالشيوعية والوطنية العراقية. وما لبث ذاك المتن الديني العريض أن طوّر مداخلته الخاصة به، والتي بدأت ترث الشيوعيين قبل أن يستكملوا انهيارهم. وهذا، بدوره، ما لاح نذيراً مبكراً بانتقال البعث من قزميته حيال الشيوعيين الى قزمية حيال المؤسسة الدينية. فالسيد محمد باقر الصدر، المثقف الديني وسليل العائلة المنتشرة انتشار الشيعة، أطلق في الخمسينات نشاطاً من نوع مختلف. فعلى غرار ما قام به، في مصر، حسن البنا حين أسس "حركة الاخوان المسلمين" السنية عام 1928، أسس الصدر مشروعاً فكرياً وسياسياً استهلّه بالاقتصار على التبليغ. ومهجوساً بصدّ تأثيرات الشيوعية والحداثة و"التغرب"، أصدر في 1959 و1960 كتابيه "فلسفتنا" و"اقتصادنا"، طارحاً "بديلاً اسلامياً" ينطوي على نظرية للسيادة الشعبية مستقاة من الفقه والتجربة الشيعيين. صحيح ان ما بات يُعرف ب"حزب الدعوة" أثّر في شيعة غير عراقيين ممن درسوا في العراق، كالسيد اللبناني محمد حسين فضل الله وغيره، لكنه ظل أساساً، بعضويته كما بهمومه وطرحه لها، حزباً عراقياً. وصحيح أنه تحدث عن "الإسلامية" يافطةً ايديولوجية له، الا ان اسلاميته حوّرت شيعيةً لا يُتصوّر الإسلام من خارجها. وبزاد كهذا تقدمت "الدعوة" ونمت في الستينات فيما الضربات تُكال للشيوعيين، ولكنْ أيضاً في موازاة الإحباط الشيعي المتعاظم بالأنظمة العسكرية، القومية العربية والسنية، للبعث والعارفين. وخاطبت "الدعوة"، بالرعاية الروحية لباقر الصدر ورجال دين آخرين كالسيد مهدي الحكيم، نجل محسن، شبان الحوزات وفقراء الجنوب والمهاجرين منهم الى بغداد. غير أن الحزب وقد تأسس عملياً في 1958، وإن لم يُعلن عنه رسمياً الا في 1968، تحول في هذه الغضون عن التبليغ الى السياسة والفعالية التنظيمية والنضالية. ومثلما نشط تحت الأرض مضى يطوّر أفكاره السجالية ضد القومية العربية والماركسية - اللينينية. وفي هذه الصيرورة كلها لم ير البعث غير "طابور خامس" إيراني. والحق ان الحديث عن العلاقة بإيران أغنى وأعقد من الصورة التآمرية التي رسمتها القومية الضيقة والمتعصّبة للبعثيين. فمن حول العتبات والمزارات الدينية في جنوبالعراق، انعقدت صلات ترقى الى مئات السنين بين شيعة البلدين المتجاورين. وكانت صلاتٍ من النوع الحضاري والثقافي العابر للحدود الوطنية والتي يسعها، لولا السياسات القومية في الجانبين، أن تنجب بيئةً كوزموبوليتية تُثري طرفيها على كتفي ميناء البصرة العريق والانفتاح البحري على الخارج. فلأن جنوبالعراق مهد الدعوة ومسرح المآسي التي تجسّدها أضرحة علي بن ابي طالب وأنجاله، وتبعاً للمدارس الدينية التي نشأت هناك، تبادلت العائلات الدينية العراقيةوالايرانية الاقامة والدراسة، كما اتسع نطاق التزاوج بينها. وهذا كله أنتج، في بعض الحواضر المدينية، تداخُلاً في العادات وطرق الحياة والمأكل. وما بين مطالع القرن التاسع عشر وأواخر الستينات خصوصاً، تحول الجنوبالعراقي ومدنه المقدسة المركز الأول للتعليم الديني لشيعة العالم. وعرف العراق، بالنتيجة، عديداً من رجال الدين المؤثرين ذوي الأصول الإيرانية، فنقل معهم بعض هؤلاء خبرات سياسية عاشوها في بلدهم الأصلي ولم يتعرض لمثلها زملاؤهم العراقيون. فكثيرون منهم كانوا ضلعوا في انتفاضة 1891 ضد الاحتكار البريطاني للتبغ في إيران، ثم في ثورة المشروطية، أو الدستورية، عام 1909، التي أنهت حكم السلالة القاجارية. ومن هذا الرعيل وفد الى العراق ميرزا محمد تقي الشيرازي الذي غدا المرجع الأكبر، فأفتى في 1919 بأنه لا يجوز أن يقوم لغير مسلم حكم على مسلم، ثم أفتى بعد عام بشرعية "ثورة العشرين" ضد البريطانيين. وكان لهذه الخلفية ان عززت مواقع المشايخ الايرانيين في المؤسسات قياساً بالمشايخ العرب، الأفقر حالاً إنما الأمتن صلةً بالمجتمع الأهلي عائلاتٍ وعشائر. ولا يعني هذا أن خطوط التمايُز الوطني امّحت، أو تعرضت للامحاء، بين الجماعتين. فتاريخ المرجعية الشيعية نفسها كان، في واحد من وجوهه، تاريخ الصراع العربي الايراني عليها. ففي 1925، مثلاً، اندلع نزاع المرجعين الايرانيين الأصفهاني والنائيني والمرجع العربي أحمد كاشف الغطاء، وذاع إسم صالح الحلي بسبب الهجمات التي شنّها، كتابةً وخطابةً، ضد الايرانيين. وبعد سبع سنوات، أعاد الحلي تفجير النزاع الذي دعمته فيه حكومة بغداد، مدافعاً عن مصالح المجتمع الأهلي للشيعة ضد المؤسسة الدينية. ذاك ان الفقراء، في عرفه، أولى من كبار المجتهدين بثلث المواريث العقارية التي تُعطى للأخيرين. وأبدى المثقفون الشيعة العراقيون، في الثلاثينات، تأثرهم بما كان يجري في عالم الإسلام العربي. هكذا انجذبوا الى التجديد الذي أحدثه الأزهر عملاً بتعاليم الشيخ محمد عبده وسياسات سعد زغلول التربوية، داعين الى محاكاته. وقد برز حسين كاشف الغطاء بوصفه أبرز المدافعين عن تطوير المدرسة الشيعية القديمة جرياً على ما يحدث في مصر ومدرستها السنية. وحتى في الرواية الكربلائية وأداء طقوسها، اختلف العراقيون عن الايرانيين. فالعباس في "الروزخونية" ودّع أخاه الحسين قاصداً الشهادة، لكنه في "القراية" توجه الى المعركة حيث استشهد. وخلاف كهذا إنما يستمد الأهمية من الموقع المركزي الذي للشهادة في ذاك المذهب. أما التحامُل والتنميط الشعبي المعهود في عموم الجماعات الأهلية، فذهبا بأصحابهما الشيعة مذهب التشكيك بالعائلات الايرانية المقيمة في العراق، وأحاطاها بالريبة المألوفة عادةً حيال "الغريب". وغالباً ما اقترن شعور كهذا بالتباهي عليهم إذ العرب، لا الايرانيين، سلالة الرسول المباشرة، فكانت هذه الأحاسيس بعض ما حاول البعث، في بداياته، استثماره عروبياً. كذلك لم تخلُ العلاقة من تنافس تعليمي، وتالياً مالي واقتصادي، بين مدارس النجف وكربلاء ومدارس طهران وقم. لكنه، مرة أخرى، تنافس معقّد. ففضلاً عن الطلاب يؤمّ النجف وكربلاء ما يربو على الخمسة ملايين حاج سنوياً، وقد يصل العدد الى ثمانية، ممن يؤدون الطقوس على مقربة من الأضرحة. ولما كانت إيران الثقل العددي الأوزن للشيعية في العالم، غدا طبيعياً أن يشكل أبناؤها جسم الزوّار الأعرض. على أن البعث الحاكم لم يتلكأ في التكشير عن أنيابه ل"الطابور الخامس" الايراني، ومعالجته بسياسة تتجرأ على أعمدة التاريخ والواقع المحليين. فمنذ 1968 عملت بغداد على الحدّ من الحياة الثقافية والدينية للشيعة، فمسّت الأوقاف وعطّلت حلقات دراسية كما منعت بعض الاحتفالات الدينية، متعمدةً إذلال رجال الدين وكسر شوكتهم. وإذا بدا مُفارقاً أن البعثيين إنما يقلدون سياسة عدوّهم شاه إيران، التي تسببت بانتفاضة 1963، فاتهم أن الانسجام الديني لإيران غير متوافر في العراق أصلاً. لكن التجارب والمقارنات لا تردع مندفعاً مَسوقاً بعُظامه. ففي سياق مكافحة "حزب الدعوة" استُخدمت محاكمة "جواسيس" 1968-69 واعدامهم للتشكيك بعلاقات شيعية مع اسرائيل عبر همزة وصل ايرانية. لهذا الغرض صُمم عدد من "الاعترافات"، فضلاً عن إعدام عبد الحسين زيتا، مسؤول المؤسسات الحسينية في البصرة، بوصفه شريكاً لباقي "الجواسيس" اليهود. كذلك اعتُقل مهدي الحكيم في 1969 وعُذّب، ولم تكن التهمة أقل من "العمالة لإسرائيل" التي درجت يومذاك، على ما فيها من خيال فقير. الا أن ما لم يكن دارجاً هو ترحيل السكان وتهجيرهم الجماعي. وبالفعل أنزل البعث العقاب هذا، في 1972، بعشرات آلاف الشيعة العرب والأكراد ممن قدمت لهم إيران الشاهنشاهية حق اللجوء. ولما كانت "إيرانية" الشيعة العراقيين تُحتسب في خط واحد، لم تؤد اتفاقية الجزائر الى تذليل العلاقة بين بغداد والمتهمين بالهوى الإيراني، ولا خففت التوتر بينها وبينهم. ففي عاشوراء 1977 انطلق موكب ديني ضم 30 الف شخص من النجف الى كربلاء مردداً أناشيد دينية تتخللها شعارات مناهضة للبعث، فهاجمه الجيش براً تعززه المروحيات من الجو. وهكذا عرف الجنوب يومين أسودين قُتل فيهما من قُتل واعتُقل الآخرون فأُعدم بعضهم و"اختفى" منهم كثيرون. وعلى السلطة والحزب انعكست هذه السياسة حيال الشيعة بقدر ما صدرت عن تركيبهما. ففي 1968 لم يكن شيعي واحد في عضوية مجلس قيادة الثورة، وفي 1970 لم تضمّ "القيادة القطرية" شيعياً واحداً. ولئن سُلّم الشيعي ناظم كزار الأمن، فهو ما لبث أن اتهم بالتآمر مع إيران وأُعدم. اما الذين تعاقبوا على مجلس الثورة خلال 1968-1977 فكانوا 15 سنياً بينهم خمسة ضباط وخمسة من تكريت وواحد أصوله تكريتية وستة من "المثلث السني" وواحد يرجع بأصوله إليه. على أن التوتر الذي أعقب موجة الطرد الجماعي في 1972 حمل على ضم أربعة شيعة الى "القيادة القطرية" بعد عامين، وكانوا نعيم حداد وحسن علي العامري وعبد الحسين المشهدي وعدنان حسين الحمداني. وفي 1977، ومع بلوغ التردّي ذروته، أعطيت للشيعة مناصب حزبية وحكومية أخرى. لكن تصفية "مؤامرة" 1979، حيث قضى ثلث أعضاء "القيادة القطرية" ومعظمهم شيعة، وجهت ضربة قاضية لتمثيلهم الضئيل. وعلى العموم بقي بعض الوجوه البعثية، كسعدون حمادي ونعيم حداد ومحمد سعيد الصحّاف، ممن يتم استدعاؤهم من خزانة الحزب القديمة للتغطية على هزال الحضور الشيعي في السلطة. في هذه الغضون اندلعت، عام 1979، الثورة الايرانية وانتصرت. وكان من الطبيعي أن تُلهب مخيّلات الشيعة العراقيين ممن شهدوا في العام نفسه صعود صدام الى الرئاسة وتفاقم معضلتهم. لكن المشاعر الشعبية لا تكفي لإحداث المطابقة الكاملة بين أصحابها والخمينية الإيرانية. فالتنظيمات الدينية السياسية في العراق كانت عراقية، لم تدعُ الى الاندماج بإيران، فيما أفكار باقر الصدر لم تقل أصلاً ب"ولاية الفقيه"، النظرية الأم لآية الله الخميني. وحتى الخميني نفسه الذي عاش منفياً في النجف منذ 1965، لم يترك تأثيراً ملحوظاً على شيعة العراق، ولا كان تأثيره يقبل القياس بتأثير باقر الصدر. إلا أن السلطة البعثية التي أخافتها الثورة الخمينية، والاستجابة الشعبية لها، سارعت الى ترحيل ما بين 150 و200 الف شيعي. وكان في عداد هذا "الطابور - الإيراني - الخامس" آلاف التجار الذين رصدت بغداد أصولهم البعيدة لتصنّفهم إيرانيين، فصادرت أعمالهم وأملاكهم وجنسياتهم قبل ان تلقي بهم على الحدود. وفي حالات كثيرة حيل بين الأهل وأبنائهم الذين تتراوح أعمارهم بين ال15 وال25 ممن احتُجزوا ولم ير واحدهم الآخر بعد ذاك. وبأعداد كبيرة راحت تتضخم هجرة شيعية الى ايران وسورية والأردن وبلدان الخليج وبريطانيا والولاياتالمتحدة وغيرها. وتتويجاً لما ابتدأ أواخر الستينات، لوحق "حزب الدعوة" بقسوة غير مسبوقة حتى بالمعايير البعثية. فطال القمع عائلات الدعووين واصدقاءهم ورجال الدين ممن تربطهم بهم صلة ما. فإلى الناشطين القاعديين، لم يقلّ عدد رجال الدين الذين أُعدموا خلال 1979 عن 14 شيخاً. وفي 1980 أعدم عدد مشابه منهم في عدادهم باقر الصدر نفسه وشقيقته بنت الهدى، الروائية والنسوية على الطريقة الإسلامية. وصدر، كذلك، مرسوم عن مجلس الثورة يعيّن العضوية في "الدعوة"، وبمفعول رجعي، جريمة عقابها الاعدام، علماً أنه كان العقاب المعتمد منذ سنوات من غير مرسوم. وفرّ كثيرون من رجال الدين الى طهران مصحوبين بعائلاتهم الموسّعة وتابعيهم. فحين طلب أبو القاسم الخوئي، كبير مراجع الشيعة في العالم وابن الثمانين آنذاك، المغادرة صودرت أمواله الشخصية وما في عهدته من مال للمؤسسة الدينية. وكان ممن غادروا الى طهران السيد محمد باقر الحكيم، ابن محسن الحكيم وشقيق مهدي، حيث أُسس "المجلس الاعلى للثورة الاسلامية في العراق" مظلةً جامعة للتنظيمات الشيعية المعارضة. فعندما باشر صدام هجومه على إيران، وبدت بغداد مالكةً زمام المبادرة العسكرية، أتبعه بهجوم على الشيعة العراقيين قمعاً وتهجيراً. وما ضاعف العنف أن التنظيمات الشيعية ك"الدعوة" ثم "منظمة العمل الاسلامي" شرعت تردّ بأعمال تخريب ضد منشآت حكومية، لا سيما الأمني منها والحزبي. كذلك حاولت، في 1980، إغتيال صدام حسين وطارق عزيز، مكررةً بعد عامين محاولة اغتيال الأول. لكنْ مع التراجع العسكري الذي ظهر على جبهات القتال في 1983، تبدلت الاستراتيجية المتبعة، فأبدى النظام رغبة غير معهودة في كسب الشيعة، خصوصاً أن أغلبية جنود الجيش منهم فيما المعارك يدور معظمها على أرضهم. وفي السياق هذا راحت تتلاحق التوكيدات على إسلامية حكم البعث، فيما جعل صدام وباقي المسؤولين يكررون زياراتهم الى النجف وكربلاء. كذلك تم اصلاح بعض المباني العامة في مدن الجنوب، وبمبادرة تُعزى الى خير الله طلفاح لُفّقت شجرة نسب تربط صدام بالرسول، عبر التفرّع عن الامام الحسين. وعلى النحو هذا صار "الرئيس حفظه الله" سيداً من أهل البيت. غير أن هذا لم يوقف قمع رجال الدين والتنظيمات الدينية والمشتبه بصلتهم بها. ففي الفترة التي انتهت بالعام 1985 أحصي 41 رجل دين شيعي أُعدموا، ومئات اعتُقلوا بعضهم انضم الى قوافل "المختفين". وبعد ثلاث سنوات، وفيما الحرب تُختتم على ما صُوّر انتصاراً لبغداد، تجدد الصدام ليبلغ ذروة أخرى. فقد اغتيل مهدي الحكيم في الخرطوم، وهوجمت منطقة الأهوار لاعتقاد السلطة ان الفارين والمعارضين مختبئون هناك. وفي كانون الأول ديسمبر، أصدرت الحكومة "خطة عمل" لتلك المنطقة، ففرضت عليها حصاراً اقتصادياً مصحوباً بحرق القرى والمزارع واعتقال المشتبه فيهم. والحرب العراقية-الايرانية وقعت كلها وقوعاً كارثياً على شيعة العراق. ففضلاً عن القمع، أضعف انتقال المرجعية الى ايران موقع النجف وكربلاء واقتصادهما. وبفعل التهجير والترحيل، غدا جزء أساسي من القرار الشيعي العراقي مرتهناً بطهران. ولا يعني ذلك ان الشيعة كلهم أسلموا زمامهم لرجال الدين، وأنهم جميعاً غدوا يسيرون في ركاب الخميني. بيد أن وحشية النظام التي نجحت في إسكات التعدد داخل طائفة عُرفت بكفاءاتها وكوادرها العلمانية والعصرية، صيّرت الصوت الوحيد الذي يُسمع صوت القوى التي انتقلت الى إيران واستفادت من منابرها. الا أن جنود الجيش العراقي الشيعة خذلوا الايرانيين رغم استمرار نشاطهم المتقطع ضد سلطة بغداد، ومثلهم فعلت عشائر الجنوب التي دافعت بضراوة عن البصرة. وحتى الذين ظلت قلوبهم مع طهران غدت سيوفهم عليها وهذا، في آخر المطاف، ما يُحسب حسابه. فمنذ 1982-1983، مع انتقال المعركة الى أرض العراق، انحسر فرار الجنود من الجيش، فحاربوا "العدو" مثلهم مثل رفاقهم السنة، ومن بينهم سقط معظم ضحايا الحرب. واذا شهدت تلك التجربة لنفوذ الوطنية العراقية لدى الشيعة العراقيين، بقي ان الذين انتقلوا شرقاً لم يلقوا في إيران المعاملة التي يمكن اعتبارها قدوة تُحتذى. غير أن معضلتهم بقيت حادة ونابضة: فهم لم يوافقوا، بالطبع، على حرب شنها صدام لأغراضه، فيما واجهتهم حربه تلك بمأزق الخيار بين قناعاتهم وعدائهم للنظام وبين وطنهم. وإذ ثقلت عليهم أسوأ آثار التردي الاقتصادي، حاول النظام كسبهم، مرةً أخرى، ابان مغامرته الثانية بغزو الكويت، بتقديماتٍ طغى الرمزي فيها على الفعلي. ومن هذا القبيل أسمى صواريخ "سكود" التي أطلقها "العباس" و"الحسين". لكن انتفاضة 3 آذار مارس 1991 أعلنت أن المشكلة أعمق من أن تُعالَج بالتسميات. وجاء ذاك الانفجار الذي ابتدأه جنود وضباط صغار عائدون من هزيمتهم في الكويت، عفوياً وبلا قيادة، إنما شاملاً لاتجاهات سياسية وعقائدية شتى. وسرت الانتفاضة، في غضون أيام، سريان النار في هشيم الجنوب، الا أن الفوضى دبّت معها، في النجف وفي غيرها، مصحوبة بالحرق والنهب والعبث بالجثث. وبالفعل أعدم المنتفضون عشرات المسؤولين البعثيين والمشتبه بهم إما بمحاكمات شكلية سريعة أو من دون محاكمة، حتى اضطر أبو القاسم الخوئي الى إصدار فتويين تزجران عن انتهاكات كهذه. وسمى النظام المنتفضين "غوغاء"، لكنه رد عليهم باستخدام الدبابات والمدفعية وطائرات الهليكوبتر، قاصفا المدن والمعابد الدينية، فضلا عن احراق مكتبات تحوي أعداداً لا تُقدّر من المخطوطات. ويروى ان حسين كامل، بعدما حطّت به دباباته، اقترب من ضريح الحسين في كربلاء وقال مخاطبا إياه: "أنا حسين وأنت حسين، فلنرَ من منا الأقوى"، مذكّراً الكثيرين، وببذاءة أكبر بما لا يقاس، بعبارة نُسبت الى الجنرال البريطاني ألنبي الذي خاطب صلاح الدين في ضريحه وذكّره بالصليبيين: "لقد عدنا يا صلاح الدين". لكن الأسوأ كان ما أورده البعض، من دون توكيد قاطع، عن استخدام النابالم ضد انتفاضة الشيعة. وبحسب "المجلس الأعلى للثورة الاسلامية"، فإن الذين قضوا، حتى 13 آذار، تجاوزوا الثلاثين ألفاً، علماً بأن علي حسن المجيد الذي قاد الحملة على مدى ثلاثة أسابيع، رفع الرقم تباهياً الى 300 ألف. ما لا يرقى اليه الشك، على أي حال، أن شهود عيان تحدثوا عن أكوام متراصفة من الجثث في طرق المدن وشوارعها الأعرض. وفي الغضون هذه أدت هزيمة الانتفاضة، بعد التخلي الأميركي، الى فرار قرابة 33 الف شيعي الى حيث تقيم قوات التحالف الغربية في المملكة العربية السعودية، كما هرب مثلهم عدداً الى ايران. وبذا انفجرت موجة هجرة أخرى الى الخارج. وحصل مزيد من الاعدامات والاختفاءات، كان في عداد ضحاياها 96 شخصا من عائلة الحكيم و28 شخصا من عائلة بحر العلوم اعتقلوا كلهم و"اختفوا". ففي ليلة واحدة من عام 1991، مثلاً، "اختفى" 106 من رجال الدين لم يظهروا بعد ذاك. وفي العام التالي شُنت حملة عسكرية على الأهوار لافراغها من السكان عبر تجفيفها من مائها واعدام شروط الحياة فيها. وانتهى سكان تلك المنطقة، وهم نصف مليون، في إيران مُخلّفين وراءهم كارثة بيئية. أما الكارثة الأخرى فحلّت في نطاق سياسي بعيد الأمد. ذاك أن تخلي جورج بوش الأب عن المنتفضين أصاب الشيعة برضّة جماعية وعميقة. فهو، المعني طبعاً بمصالح الدول الحليفة له والمجاورة للعراق، ربما قصد انقلاب قصر، فيما فهم العراقيون أن الأمر أكثر من ذلك وأبعد. وبالنتيجة ترافق ذبحهم، هذه المرة، مع إحساس أسود بانغلاق المستقبل، فلم يخفف من مرارتهم، الا جزئياً، فرض منطقة حظر جوي في الجنوب صيف 1992. وتكررت لعبة النظام لكسب الشيعة بالكلام المعسول والإشارات الرمزية. فبعد ذاك العام صارت إحدى الصور العديدة التي يعمّمها صدام صورته في زي شيخ عشائري من الجنوب. ولئن بدىء باعادة تعمير كربلاء، غُيّرت معالمها تماما لتفادي ما يبدو أثراً ايرانياً في عمارتها، كما حُرثت مساحات واسعة في مقبرة وادي السلام المقدسة وشُقت طريق خارجية فوق المقابر. واعتُمدت سياسة تجمع بين فرض الأمن بالاستعانة بشيوخ قبائل تشتريهم السلطة وتسلّحهم، وبين اصلاح المراكز والمعابد الدينية التي تضررت او قُصفت، وفتحها للحجاج من الاجانب. ولئن أتيح للايرانيين منهم أن يدخلوها مبدئياً غير أن قيوداً بيروقراطية كثيرة فُرضت عليهم. قبل ذاك، في 23 آذار 1991، كان قد كُلّف البعثي الشيعي سعدون حمادي تشكيل الحكومة الجديدة، من دون ان يتوقف اضطهاد رجال الدين واغتيالهم. فالقمع لم يتهيّب مرجعاً كالخوئي الذي لم يحل بلوغه التسعين دون استجوابه وسجنه لفترة، ثم قسره على الظهور مع صدام على الشاشة الصغيرة. وفي النهاية أحيل على الاقامة الجبرية حتى وفاته في 1992، ليخلفه السيد علي السيستاني، الموضوع هو نفسه في الاقامة نفسها منذ 1988. وبعد عامين على رحيل الخوئي اغتيل نجله محمد تقي، وفي 1998 اغتيل كذلك مرجعان بارزان هما السيدان الغراوي والبروجردي، ثم أضيف الى القائمة، في شباط فبراير 1999، رجل دين ذو تأثير شعبي واسع في النجف، هو محمد صادق الصدر ومعه نجلاه. وهذا فضلا عن المضي في تطبيق اجراءات قصوى كانت تحمل العائلات، وفي صورة متواصلة، على مغادرة بلادها. وأضحى البكاء الشيعي على الحسين يتغذى على البكاء من صدام. لكن لما كان ممنوعاً إعلان الثاني، ومتاحاً إعلان الأول، فاض الموت في جنوبالعراق وعمّ. * الحلقة التاسعة الثلثاء المقبل.