لا يملك مقتدى الصدر كماليّات العيش من دون ضجيج. السكينة عنده إنذار بالسكون. لهذا تراه دائم البحث عمّن يشتمه أو يتّهمه أو يعاديه، إذ الحياة بلا أعداء عيش بطيء خامد. والعراق، عراقه، سخيّ بالعداوات: اطلب واحدة تلقَ اثنتين. يثير الغبارَ مقتدى كلّما تحرّك. «فيل في دكّان خزف»، كما يقول التعبير الصحافيّ الذائع. ما إن يفتح فمه حتّى يزوّدنا بدراما تصف لحظة من حياته أو حالة من حالاته. بعضهم يرى أنّها دراما مبالَغ فيها. بعضهم يراها مزعومة وملفّقة. لكنّ السيّد المعمّم يأنف العاديّ وينشدّ إلى الملاحم، غير مدرك أنّ الملاحم ولّى عهدها حتّى في العراق، بلد الأساطير الأولى. الدراما الصاخبة الأخيرة مفادها أنّ محاولة اغتيال تستهدفه. جماهير «التيّار الصدريّ» نزلت إلى الشوارع غاضبة ومبايعة. هذه مهنة الجماهير الصدريّة وهذا احترافها الدائم منذ ولادتها ك «تيّار». الجريمة المؤسّسة ربّما كانت هناك بالفعل محاولة اغتيال. لكنْ إذا صحّ الزعم، فأيّ مقتدى هو المستهدَف؟ ذاك أنّ ثمّة مقتديات كثيرة في مقتدى، كلٌّ منها يقاتل الثاني وينفيه. العداوات قائمة، والحال هذه، داخل الشخص نفسه أيضاً. وهذا ما يحكم كلّ تناول سياسيّ له بأن يكون تناولاً طبّيّاً أو نفسيّاً في الوقت ذاته. الصدمات في حياة مقتدى كثيرة. الأبواب الموصدة في وجهه أكثر. شعوره بأنّه ضحيّة يزيد في تضخّم الأنا، بما يفرّع أناه الفائضة إلى أنوات كثيرة، كلّها جريحة وكلّها جارحة. وفي الغضون هذه، تتّسع في سلوكه رقعة الغريب وغير المألوف. الطفل الذي فيه يلحّ على إسماع الآخرين صراخه أنْ انتبهوا: مقتدى هنا، يقول ما لا يُقال ويفعل ما لا يُفعل. سيرة السيّد الصدريّ تبدأ بحادث السير المرتّب في 1999 الذي نظّمه أمن صدّام حسين. ضحاياه كانوا والده، السيّد محمّد صادق، ونجليه. النجل الآخر، مقتدى، كان في أواسط عشريناته. القتل الفعليّ حرمه أن يكون القاتل الرمزيّ لأبيه. حرّره ربّما من مشاعر الذنب التي تنتاب القتلة الرمزيّين، إلاّ أنّه بالتأكيد ضاعف الإذعان البنويّ الذي يُشتهر به أبناء رجال الدين المتمكّنين. مقتدى باحث عن إذعان يعادل الثورة التي يبحث عنها. باحث عن أب ينتقم له، هو السيّد المغدور، وعن أب ينتقم منه، هو صدّام حسين. لعبة الآباء في سيرته تتغذّى على ألعاب الدم وتغذّيها. إحدى الروايات تقول إنّ مقتدى شاهد الجريمة التي أنزلها أحد الأبوين بالأب الآخر، وأنّه نجا منها. روايات تنفي. لكنْ في الحالات جميعاً، تجمّعت في عيني مقتدى شهوة دم يبحث عن مجرى يشقّه ولو في الصخر، شهوةٌ لا تزال صوره الفوتوغرافيّة تُبديها. الرجل الغاضب بالكاد يضحك. تقاطيع وجهه متشنّجة لا تسترخي. وهو بالكاد يهتمّ بالتواصل مع الآخرين. يتحدّث كما لو أنّه يخاطب أذنه، مهمهماً بكلمات لا يفهمها سواه، وأحياناً لا تصل إلى مسامعهم أصلاً. التحافه باللون الأسود يزيده غموضاً واستغلاقاً على نفسه الكثيرة النفوس. في 2003، حين قُتل عبدالمجيد الخوئي العائد إلى النجف من بريطانيا، وكان صدّام قد أزيح للتوّ، تردّد أنّ مقتدى هو القاتل. الجريمة كان مسرحها مرقد الإمام عليّ الذي يتنافس السيّدان الشابّان عليه مرجعاً وجدّاً أعلى. والد مقتدى، على ما يجزم البعض، كان طامحاً لأن يتبوّأ مرجعيّة النجف التي تبوّأها أبو القاسم الخوئي، والد عبدالمجيد. هكذا نُسبت إلى النجل الكبريتيّ الأعصاب رغبة في فرض النفوذ على المرجعيّة التي حيل بينها وبين أبيه. بهذا، يُخضِع المؤسّسة العريقة التي خضع أبوه لإملاءاتها. هكذا يفتح الداخل الذي أبقي والده خارج أسواره. هذا لم يحصل: علي السيستاني، أستاذ المرجعيّة وتلميذ أبو القاسم الخوئيّ، ليس بحاجة إلى مملوك طموح يحرس النجف ثمّ يملي إرادته عليها وعليه. وبعد كلّ حساب، ليس السيستاني واجهة لقرار يصنعه غيره. فكيف حين يكون هذا الغير مقتدى إيّاه، مقتدى الأصغر سنّاً من ابنه محمّد رضا، والمتّهم بقتل ابن أستاذه الخوئي، وهذا ناهيك بشدّة تقلّبه التي يتعذّر التكيّف معها. الوجه الآخر للمشكلة أنّ مقتدى عربيّ، وكثيرون من آل الصدر يصرّون على أنّهم «عرب أقحاح»، وربّما «العرب الأقحاح». السيستاني والخوئي إيرانيّان. أحزاب وعاميّون ومقاومات الباب الثاني الموصد «حزب الدعوة». الحزب نشأ في بيت الصدر، أسّسه حموه محمّد باقر الذي سبق أن أعدمه صدّام في 1980 كما أعدم أخته بنت الهدى. لكنّ الحزب «سرقه» زمنيّوه: رجال كابراهيم الجعفري وعلي الأديب وحيدر العبادي، وكنوري المالكي خصوصاً. فوق هذا، قضت الأقدار أن يصير المالكي ممثّل الشعبويّة النضاليّة عند الشيعة، والتي لا يطمح الصدر إلاّ إلى تمثيلها. «عاميّون» من كلّ بيت ورثوا البيت. صدر الحزب بات لغير الصدريّين. إذاً الحياة البخيلة لم تكتف بحرمان مقتدى ما يستحقّ. لقد حرمته أيضاً ما يملك. إلى مقاومة أميركا إذاً. في منطقتنا، المقاومة صالحة أن تكون مهنة من لا مهنة له. في العراق بعد 2003 اختلف الأمر: البلد محتلّ، وهذا مع العلم أنّ أسرة الصدر وبقية الأسر الدينيّة الشيعيّة كانت أوّل المستفيدين من احتلال أميركيّ رفع شفرة صدّام عن أعناقهم عنقاً عنقاً وسلّمهم قيادة البلد. على رأس ميليشياته، «جيش المهديّ»، خاض حربين مع الأميركيّين في 2004 و2007 ختُمتا على فجيعتين. قتلى بالمئات ودمار واسع. اعتداءات على الحرّيّات الفرديّة والدينيّة، وتنكيل برغبة السكّان المدنيّين في الأمن الشرعيّ. لقد أظهرته الحربان عاصياً لا هدف له ولا قضيّة إلاّ العصيان. مع هذا، أحبّه كثيرون مثله لا يعرفون ماذا يريدون، لكنّهم يعرفون فحسب أنّهم لا يريدون هذا الواقع. هزيمة الحرب الثانية حصلت في كربلاء، وفي يوم مقتل الإمام المهديّ ذاته. أيضاً وأيضاً طغت رمزيّة الاستحواذ على المقدّس الشيعيّ. لكنّ كربلاء غدت كربلاءً لمقتدى ذاته، والمهديّ الذي قُتل في غابر الزمن هو الذي بات يتهاوى جيشه اليوم. وبالفعل باشر السيّد الصدريّ تفكيك «جيش المهديّ» الذي غدا من الصعب الدفاع عن ارتكاباته. في النجف إذاً دمٌ وفي كربلاء دم أكثر. ما هكذا تُزار الأماكن المقدّسة، وما هكذا تُفعل أمور كثيرة فعلها مقتدى: تمهيداً لمعاركه مع الأميركيّين، أصدر الفتوى الشهيرة التي عُرفت ب «الحواسم»، وأجازت أعمال النهب والسرقة شرط أن يُقدّم خُمس الأسلاب له ولمؤسّساته. هذه الفتوى التي عزاها البعض إلى تأثيرات آية الله حائري عليه، جعلت قدامى الصدريّين وأهل الورع والتقوى ينكفئون عن مقتدى يصحبهم شعور يترجّح بين الحرج والخجل. السبب المباشر للقتال لم يكن أقلّ غرابة. لقد كان خطبة لمقتدى قال فيها إنّ هجوم 11 أيلول (سبتمبر) في نيويورك كان معجزة وبركة من الله. الخطبة نشرتها صحيفة «الحوزة» الصدريّة التي تأدّى عن إغلاقها انفجار العراق. على امتداد معاركه مع الأميركيّين، حفلت آراء مقتدى بكلّ عجيب غريب. قصفٌ كلاميّ عشوائيّ لم ينقطع: دعاهم، مثلاً، إلى اعتناق الإسلام بوصفه حلاًّ لمشكلته معهم، ولم يبخل بآراء «ثقافيّة» كموقفه الشهير من «مؤامرة» كرة القدم التي تُحاك للشباب المسلم. الأميركيّون لم يحتكروا العجيب الغريب في مقتدى. حيال السنّة كانت له دروسه البليغة في النقائض. في 2004، شاركت ميليشياته في معارك الفلّوجة، إلى جانبهم، ضدّ الأميركيّين. في 2006، ميليشياته إيّاها اندفعت في الحرب الأهليّة السنّيّة – الشيعيّة التي نشبت بُعيد تفجير المرقدين الشيعيّين في سامرّاء. «فِرَق الموت» كانت تخرج من مدينة الصدر، حيث قاعدته وسلطته ومُحبَطَوه ومُفقَروه، لتعيث قتلاً وخطفاً. ثمّ في 2013، تضامن مع المحتجّين السنّة في الأنبار ضدّ الحكومة الشيعيّة في بغداد، وبعد عام وقفت كتلته البرلمانيّة إلى جانب النوّاب السنّة في محاولتهم إطاحة مكروهه الأوّل نوري المالكي. لكنّ اتّجاهه إلى مصالحة السنّة دفعه بعيداً جدّاً: لقد اعترف بولاية الخلفاء الراشدين، بل نفى قتل يزيد الحسين. هذا ما بدا لأيّ شيعيّ معتدل الشيعيّة هرطقة ناجزة. علاقته بالتنظيمات والميليشيات كادت بدورها تكون عملاً مياوماً. حزب الليل يمحوه النهار، والعكس بالعكس. إثر تجميده نشاط «جيش المهديّ»، بعد معارك كربلاء، قال إنّه سيعيد تنظيمه من جديد لأنّه بات مأوى لمجرمين وقتلة. لكنّه ما لبث أن أسّس «لواء اليوم الموعود» كي «يقاوم الاحتلال الأميركيّ». وكما لم يحضر المهديّ، لم يحضر اليوم الموعود. في هذه الغضون، انسحب الأميركيّون وظهرت «داعش»، ثمّ سقطت الموصل في يدها خلال أربعة أيّام هزّت العالم. عدوّه المالكي كان رئيس الحكومة يومذاك. إنّه صانع الهزيمة، فليكن مقتدى، إذاً، صانع التحرير. هكذا شكّل «سرايا السلام» في 2014 «للدفاع عن المقدّسات». وبالفعل استعرض الآلاف من متطوّعي سراياه بأسلحتهم الثقيلة والخفيفة تتقدّمهم الصواريخ والراجمات. بيد أنّ السلاح وحده لا يصنع حرباً: ما إن بدأت مشاركة السرايا في قتال «داعش»، حتّى تبيّنت لها استحالة هذا القتال: على مقتدى أن يقف إلى جانب الأميركيّين وما بات يُعرف ب»الحشد الشعبيّ» الذي يُعدّ المالكي زعيمه الفعليّ. عليه أن يقاتل بموجب البرنامج الذي يضعه خصومه وأعداؤه. هكذا بات واضحاً أنّ صانع الهزيمة، أي المالكي، يراد له أن يصير، هو ذاته، صانع التحرير. المعركة، بالتالي، مؤمّمة سلفاً، والعنف، هذه المرّة، باب موصد آخر. مقتدى لا مكان له. كلّ الأمكنة للمالكي. صدّام وإيران... دائماً على امتداد هذه التجارب، لا بدّ أنّ السيّد فكّر كثيراً بصدّام. العلاقة به معقّدة ومتناقضة هي الأخرى. قاتل أبيه يخاطبه في مناطق عدّة من ذاته، حتّى ليكاد يكون الأب المضادّ. لقد شبّ مقتدى وترعرع إبّان دفء العلاقة بين السلطة البعثيّة ووالده. لم يكن صدّام «العراقيّ» و «العربيّ» أبعد من محمّد صادق الصدر ممّا كان «فُرس» منافسون كالخوئي والسيستاني. أولا تغري هذه المساحة المشتركة بافتراض التعلّق بعراقيّة وعروبة يمثّلهما مقتدى، مثلما مثّلهما صدّام سابقاً، لكنْ بمعزل عنه وبالضدّ منه؟ لقد كان لآل الصدر، على عكس بقية الأُسَر الشيعيّة الدينيّة، سهم في حكم العراق الموحّد: إبّان العهد الملكيّ كان محمّد الصدر واحداً من شيعة ثلاثة حلّوا في رئاسة الحكومة. الآخران كانا صالح جبر وفاضل الجمالي اللذين لم يصدرا عن عائلات دينيّة. ألا يكون ثأراً للأب، قتيل صدّام، أن يُعهد بالعراقيّة والعروبة إلى الشيعة، وإلى بيت الصدر، بل إلى مقتدى تحديداً؟ أولم تكن تصفية عبد المجيد الخوئي مهمّة تدلّ على كفاءة من صنف بعثيّ في ذبح أبناء العائلات الدينيّة لمصلحة سلطة ما؟ الرموز والتسميات لم تخطىء. فالمدينة التي كوّنها في جنوببغداد تراكم الهجرات العمّاليّة والفلاّحيّة القادمة من الجنوب، كان مؤسّسها عبدالكريم قاسم أسماها «مدينة الثورة». لكنّ صدّام جعلها «مدينة صدّام»، قبل أن يجعلها مقتدى، هي ذاتها، «مدينة الصدر». ولربّما كان اسم مقتدى آخر اسم يسمعه صدّام قبل تنفيذ حكم الموت به. جماهيره كانت تهتف «مقتدى... مقتدى» كأنّها تعلنه وريث صدّام في مشروع «الثورة» التي لم تهدأ منذ 1958. فوق هذا، طباع صدّام وقسوته قد تغري السيّد الذي تربّى في كنف الثقافة الصدّاميّة، والذي ربّما عُلّقت صورة صدّام طويلاً فوق رأسه في بيت أبيه. لقد تحدّث كثيرون ممّن راقبوا العراق بعد إطاحة الديكتاتور عن صدّامات عدّة تناهشت ميراث الطوطم وأخلاقه. فلمَ لا يكون مقتدى، العراقيّ والعربيّ ومقاوم أميركا والمشارك في شطر من الحياة الصدّاميّة، الأجدر بأن يكون صدّام الثاني؟ بعض الذين تناولوا مقتدى وجدوا أنّ ثنائيّة الدين والقوميّة فيه هي خصوصيّته بين سائر القادة العراقيّين. هي التي عوّضت افتقاره إلى الكاريزما وإلى الخطابة، كما عوّضت نقص موارده الماليّة وعدم وجود داعم خارجيّ له. والده، رجل الدين، كان عراقيّاً وعروبيّاً متشدّداً وفّر الغطاء الشيعيّ لصدّام إبّان حربه مع إيران. هذا الميراث الثوريّ، الإسلاميّ والعراقيّ، العروبيّ والمحبّ للفقراء على نحو ما علّم الوالد، قابلٌ لأن يكون المنصّة التي تنهض عليها زعامة مقتدى. لكنْ لا. فالهدف ليس ممكن التحقيق في ظلّ الهوّة الضخمة بين سنّة العراقيّين العرب وشيعتهم: الذين يريدون أن يبقى العراق عراقيّاً وعربيّاً، يصعب أن تجدهم اليوم بين الشيعة. ذاك أنّ التمدّد الإيرانيّ لم يترك لهم من المرتكزات ما يُبنى عليه خيار كهذا. أمّا بين السنّة، فالخيار العراقيّ العربيّ صار أشدّ فأشدّ اختلاطاً بالخيار السنّيّ الراديكاليّ الذي لا مكان لسيّد شيعيّ فيه. الجمع بين «الأصالة» في العراقيّة والعروبة و»الأصالة» في الشيعيّة صار أشبه بصيد الطيور تحت سطح الماء. أيكون الخروج من هذه المآزق الكبرى بوضع الشيعيّة العراقيّة في مواجهة معلنة وصريحة مع الشيعيّة الإيرانيّة؟ هذه رغبة لا بدّ أنّها راودت مقتدى. فهو لا يقبل أن يكون تابعاً لطهران التي باتت تطلب الكثير. التبعيّة قد تكون حال المالكي الذي لم يأت من بيت «سادة» متجذّرين، وقد تكون حال أنداد لآل الصدر من بيت الحكيم الذين صُنعوا سياسيّاً في إيران. إنّها ليست حال مقتدى الذي يحول النفوذ الإيرانيّ وتوجّهاته من دون تتويجه زعيماً على عرب العراق. لكنّ مقتدى لا يجرؤ حتّى على النطق برغبة كهذه. إنّه، مع كلّ التهوّر الذي يوصف به، عاقل جدّاً حين يصل الأمر إلى إيران لأنّه، هنا، لا يملك إلاّ أن يكون عاقلاً. أحياناً ينوي التصعيد ضدّ الإيرانيّين فيبالغ في التصعيد ضدّ الأميركيّين، لعلّ الإيرانيّين يفهمون مغازيه الملتوية. والقناعة التي تُملي السلوك، والحالُ هذه، تصدر عن شعور مجرّب: إنّ استعداد الإيرانيّين للقتل أرفع كثيراً من استعداد الأميركيّين. الأخيرون لا يقتلون على الكلام. الأوّلون يقتلون على الإشاعة. فوق هذا، انكسرت الشيعيّة العربيّة التي قد يُعوّل عليها في مواجهة إيران. ولولا وجود ضريح الإمام عليّ في العراق، وهذا ما لا يد للإيرانيّين فيه، لكانت انكسرت النجف أكثر. ما بقي منها أقرب إلى آراء أخلاقيّة عامّة تجافي التورّط في التفاصيل السياسيّة، إلاّ حين ينشأ إجماع شيعيّ عريض كذاك الذي استنهضه «داعش». لقد كسر صدّام الشيعيّة العراقيّة مثلما كسر أشياء كثيرة أخرى في العراق، واليوم مقابل كلّ طالب دين في النجف هناك ستّة في قم. السيستاني، سيّد النجف، يصلح للتقليد الدينيّ الواسع لكنْ عليه في السياسة أن يكون حذراً. وفي الأحوال جميعاً، فالاصطفاف وراء السيستاني مؤلم ومُمضّ لمقتدى كالوقوف وراء طهران. لقد اخترق الإيرانيّون التنظيمات التي أنشأها مقتدى، وشقّوا بعضها عنه. «عصائب أهل الحقّ» ربّما كانت أهمّ تلك الانشقاقات من دون أن تكون الانشقاق الوحيد. بهذا كانوا كما لو أنّهم يقولون له إنّ في وسعهم الوصول إلى عقر داره، إن لم يكن إلى غرفة نومه. مع الحرب على «داعش» ثمّ نشأة «الحشد الشعبيّ»، صار في وسع التنظيمات الراديكاليّة المصنّعة إيرانيّاً أن تجرف ما تبقّى من عواطف شيعيّة غاضبة من تحت مقتدى. السيّد لم يعد وحده من يخاطب الغضب الشيعيّ، ولا هو أكثر من يخاطبه. والسيّد الغاضب حين لا يخاطب الغضب فماذا يخاطب؟ الحرب مع «داعش» حرب «الحشد الشعبيّ» لا حربه هو. عارضها من أطرافها وحواشيها، عارض انتهاكاتها واستعدادات بعض رموزها للتدخّل في سوريّة. انتقد حليفها بشّار الأسد ودعاه، بكلّ احترام، إلى التنحّي. قبل ذاك، دافع عن ذوبان الميليشيات الشيعيّة في الجيش العراقيّ: ميليشياته هو ومعها الجماعات المسلّحة التي يتشكّل منها «الحشد». لكنّ «عصائب أهل الحقّ» مزّقوا صوره بعد دعوته هذه. لقد أظهروه كأنّه يحرم الشيعة قدرتهم على الدفاع عن ذاتهم. وهم إذا انتصروا على «داعش»، قد يتوغّلون أكثر في عمق مقتدى الشعبيّ... كتلته النيابيّة، «الأحرار»، تسيطر اليوم على 34 مقعداً، لكنّ الذين انشقّوا عنه عسكرياً وتنظيميّاً قد يقضمون قدرته وقدرة كتلته على التمثيل الشعبيّ لفقراء الشيعة وضواحيهم. وصية! أمام هذا الحائط الذي راح يعلو بإيقاع يوميّ، غالباً ما تلوّى مقتدى وتراقص: أعلن عزوفه عن السياسة وتفرّغه لإكمال دراسته الدينيّة. لكنّه لم يلبث أن عزف عن إكمال دراسته الدينيّة وجدّد تفرّغه للسياسة. ذهب إلى إيران كما لو أنّه يودّع العراق، ثمّ عاد إلى العراق موحياً، بالتواء وخفر، أنّه ودّع إيران. قال إنّه سينخرط عميقاً في المؤسّسات ويعمل من داخلها قبل أن يعلن إغلاق جميع المؤسّسات التي تمتّ بصلة إليه. قاربٌ آخر ركبه مقتدى، بيد أنّه لم يقرّبه بتاتاً من اليابسة. إنّه محاربة الفساد وقيام حكومة تكنوقراط. ولأنّ الفساد، في عرفه، شخصٌ اسمه نوري المالكي، فقد تحالف مع حيدر العبادي معوّلاً على استنهاض «المجتمع المدنيّ». فمحاربة الفساد، فضلاً عن المشاركة في الحياة السياسيّة، قد تمنحه صورة تتجاوز جمهوره التقليديّ الأفقر والأصغر سنّاً والأقلّ تعلّماً. قد تضفي عليه شرعيّة لا يملكها جمهوره المعطى، وقد تساهم في ترفيعه زعيماً وطنيّاً مقبولاً. بهذا التحوّل يستكمل ما فعله حين تعاطف مع الحركات السنّيّة وحين مدّ اليد إلى الأحزاب الكرديّة المستاءة من المالكي. لكنّ طبع مقتدى العاصف لا ينضوي بسهولة في هذا التطبّع. الجماهير الصدريّة ما لبثت، بأمر من سيّدها، أن اقتحمت المنطقة الخضراء واحتلّت البرلمان، وهدّدت النظام الذي لا مكان لمقتدى خارجه. وبدل أن يحمل مقتدى الاطمئنان لقطاعات اجتماعيّة لا تصله صلة بها، أخافها وأخاف ممثّليها السياسيّين والماليّين بلا استثناء. لكنّه أيضاً أقلق الدول التي تقيم سفاراتها وممثليّاتها في المنطقة الخضراء إيّاها. لقد تبدّى أنّ السيّد لا يستطيع أن يضبط تيّاره للسلام، بأكثر ممّا يستطيع أن يضبطه للحرب. هذا جزء لا يتجزّأ من تعريف التيّار الفضفاض ومن تعريف مقتدى كذلك. أمّا «المجتمع المدنيّ»، في حدود ما يعنيه هذا التعبير في العراق، فلماذا يكون قائده السيّد ابن السيّد ابن السيّد، الذي هو صاحب بعض أكثر الأفكار رجعيّة وعائليّة، وبعض أشدّ الخلفيّات دمويّة؟ بين فينة وأخرى، يحاول التذكير بماضي حروبه مع أميركا. موقف إدارة ترامب من هجرة أبناء البلدان الإسلاميّة ولجوئهم دفعه إلى المطالبة بمنع الأميركيّين من دخول العراق، وبإغلاق سفارتهم في بغداد. أميركا خصم هيّن. مع هذا، لم يعد في العراق من هو مستعدّ لسماع هذا الكلام «القديم» عن الشركاء «الجدد» في الحرب على «داعش». لقد أعلن وصيّته «الإداريّة» و «العامّة» إثر الكشف عن محاولة الاغتيال. الوصيّة جاءت هادئة تطالب المريدين بحبّ البلد والدولة والاستقامة والحقّ وآل الصدر. وأن «يوصي» مقتدى، فهذا بذاته إشارة إلى أنّ الضجيج بدأ يدركه التعب. قد يمضي في شغبه على الترتيبات الإيرانيّة للعراق، من دون أن يسمّي أصحابها، وقد يلبس الكفن، على ما فعل أبوه، وينزل إلى الشارع على رأس كتلة شعبيّة ضخمة لا تزال تطيعه، فيما تعجز آلة الرشوة والفساد عن استيعابها. لكنّ الإيرانيّين ليسوا معروفين بالصبر والتحمّل في العراق، خصوصاً إذا قرّرت الإدارة الأميركيّة الجديدة أن تعصرهم في سوريّة. الأبواب، فعلاً، موصدة أمام مقتدى، والأفق، والحال هذه، موصد أمام العراق.