ما كاد بعض الشعراء العرب يبدأون في هجاء "الآلة" الأميركية ورثاء العراق حتى انتهت الحرب قاطعة خيط استلهامهم. فالسقوط السريع لنظام صدام حسين لم يكن يتوقّعه أحد لا من الأعداء ولا من الأخوة ولا من العراقيين أنفسهم. وقد أربك هذا السقوط المفاجئ الكثير من المثقفين العرب، كتّاباً وشعراء، عروبيين ومعتدلين، أكثر مما أربك المثقفين العراقيين مقيمين كانوا أم منفيين. بعض المثقفين العرب، وخصوصاً الكتّاب والشعراء منهم، وجدوا نفسهم في حال من الحيرة إزاء النهاية السريعة التي آلت الحرب اليها. فهم لا يستطيعون أن يواصلوا حملتهم المستعرة ضدّ الاحتلال الأميركي منتصرين للشعب العراقي أو الجيش العراقي أو النظام فيما معظم الشعب العراقي يهلّل لانهيار النظام الديكتاتوري ويحتفل بسقوط تماثيل صدام حسين. يشعر هؤلاء انهم ما عادوا قادرين على أن "يزايدوا" على العراقيين ولا أن يكونوا "عراقيين" أكثر منهم. حاول الكثير من الشعراء العرب أن يعبّروا، منذ اللحظة الأولى للحرب الظالمة، عن ألمهم وسخطهم وغضبهم إزاءها. وكان لا بدّ من أن تتوالى القصائد على اختلاف أنواعها، عموديّة أو تفعيلية أو نثريّة، سياسية أم رمزية أم واقعية! فاللحظة المأسوية العراقية هي لحظة عربية عامة تشبه بعض الشبه اللحظة الفلسطينية التي أراقت الكثير من الدم والدمع والحبر. اختلطت القصائد بعضها ببعض واختلط الشعراء أيضاً وراح المشهد الشعري العربيّ يذكّر بالمشهد الشعري الذي نشأ عشية انتفاضة الحجارة في فلسطين. فالحماسة الوطنية سرعان ما ألهبت المخيلات وراحت النزعة القومية تثير القرائح، ولم يكن على الشعراء إلاّ أن يشاركوا ولو عبر القصائد في معركة لا تُعرف بدايتها من نهايتها! وان كان من حقّ الشعراء أن يتحمّسوا وأن يكونوا في طليعة المتحمسين فأن من حقّ الشعر عليهم أن يكون أقل حماسة وخطابية. وقد تعلّم قراء الشعر الحقيقيون الكثير من العبر التي ندّت عنها "النكسات" المتوالية في التاريخ العربي الحديث، وهم ربما تعلّموا أكثر من الشعراء أنفسهم أنّ الحماسة شيء والشعر شيء آخر. كان من الطبيعي إذاً أن تحرّض الحرب على العراق الشعراء العراقيين والعرب على الكتابة وخصوصاً في أيامها الأولى، عندما أظهر الجيش العراقي بسالة في مقاومته الغزو الأميركي. واستطاعت هذه البسالة أن تجعل البعض ينحازون ولو بعفوية، الى حزب البعث وإلى صدام حسين نفسه. ولكن لم تمضِ أيام حتى خاب هؤلاء وربما ندموا على كتابة القصائد الحماسيّة بعدما شعروا أنّ صدام خانهم ولم يصمد في وجه الغزاة. وكان سقوط بغداد بمثابة الصدمة القومية الكبيرة التي ما برحت تجلجل في نفوسهم. شعراء آخرون أسفوا لهذه النهاية المريعة لأنهم كانوا يحتاجون الى المزيد من الدم ليكتبوا به المزيد من القصائد. فالشعر البطوليّ لا بدّ له من مداد ولو كان دم الأبرياء من أطفال ونسوة. وليس من المستهجن الآن أن تتصاعد قصائد الرثاء والمراثي البكائية والفجائعية بعد أن حلّت الهزيمة بصدام حسين ونظامه وحزبه! إلا أنّ الكثير من الشعراء توقفوا أو هم سيتوقفون عن الكتابة تبعاً لحال الحيرة التي تخالجهم! فهم لا يستطيعون أن يتفجّعوا ويبكوا واخوانهم العراقيون يحيون حالاً من الفرح وإن ممزوجاً بالخوف والريبة! فتحت الصحف والمجلات العربية صفحاتها أمام الأقلام العربية قبيل نشوب الحرب وخلالها وبعدها. إحدى الصحف العريقة في عروبتها دعت القراء الى المساهمة في تأليف "ديوان الحرب" وتحوّلت بعض الصفحات الثقافية منابر شعريّة وأدبية مفتوحة أمام شهادات المثقفين. هذا تقليد باتت تفرضه الظروف الكبيرة على الصحافة العربية كلها. فالصفحات الثقافية لا تستطيع ان تبقى على هامش لحدث السياسي ولا أن تقف على الحياد، فيما الجميع مستنفرون ومنهمكون في المواجهة. وكان على القصائد والنصوص والشهادات أن تتفاوت وتختلف بحسب أصحابها أولاً ووفق اللحظات التي تتمّ فيها الكتابة نفسها. أسماء كبيرة لم تشأ أن تخفي صوتها في ظلّ حرب كهذه. أسماء متوسّطة وأخرى عادية كانت لها اطلالاتها أيضاً. شعراء حداثيون وغير حداثيين كتبوا وشهدوا على اللحظة التاريخية الرهيبة. بعض الشعراء الحديثين آثروا كتابة القصيدة العموديّة اعتقاداً منهم أنّها تلبّي رغبتهم في ظروف مماثلة. وبعض الشعراء التفعيليين كتبوا ما يشبه قصائد النثر، متحرّرين من عبء النظام التفعيليّ. وكتب الكثير من الشعراء شهادات نثرية صرفة وكأنّهم أرادوا أن يدعوا الشعر بعيداً من ساحة الوغى. كتب محمود درويش قصيدة جميلة عن المأساة عنوانها "ليس سوى العراق". قصيدة ذات طابع حميم ونَفَس دافئ ولكنها حتماً ليست في مرتبة التجربة التي أسسها ولا في حجم شعريته الكبيرة. كأن محمود دوريش كتبها رغبة منه لا في الكتابة وإنما في الشهادة على تلك اللحظة المأسويّة. بل كأنّه كتبها رفعاً للعتب كما يقال، لئلا يؤخذ عليه صمته إزاء هذه الحرب الظالمة. فالشعراء الكبار يفتقدون دوماً في مثل هذه الظروف العصيبة وقد لا يستوعب قراؤهم معنى صمتهم إن هم لم يكتبوا. يتذكّر محمود درويش الشاعر العراقي بدر شاكر السيّاب مستعيراً صرخته التي راحت سدى: "عراق، عراق، ليس سوى العراق". فعراق محمود درويش ليس إلا عراق السياب الذي هو العراق الحقيقي، العراق الذي "يولد الشعر فيه"، الشعر ك"تجربة ومنفى". أدونيس كتب أيضاً قصيدة هي "تحية الى بغداد" وحملت كالعادة ملامح الشعرية الأدونيسية واللغة الأدونيسية والموقف الأدونيسي. لكنها طبعاً بنت لحظتها أو سليلة الصنيع الذي يعرف به أدونيس للفور. قصيدة تجمع بين الغنائية والموضوعية وفيها يهجو الشاعر رمز "الغزاة" الذين يديرون حرباً وقائية "بتوفيق من السماء". قد لا تقاس هذه القصيدة بما كتب أدونيس من "قصائد المدن" ولا بقصيدته الشهيرة التي يعرّي فيها خداع الحضارة الأميركية قبر من أجل نيويورك. إنه المأزق نفسه: يكتب أدونيس عن العراق ليقال أنّه عاش اللحظة ولم يصمت إزاءها. وإن كانت هذه حال شاعرين رائدين يبسطان ظلالهما على الحركة الشعرية العربية ويتمتعان بشهرة عالمية كبيرة، فما تراها تكون حال الشعراء الآخرين الذين ينتمون الى أجيال لاحقة وبعضهم لا يقلّون عن الروّاد حضوراً وتوهّجاً ولو عربياً فقط؟ كتب محمد علي شمس الدين قصيدة نثر سمّاها "قصيدة موت - ولا مرثية الدماء الأخيرة" وكأنه شاء أن يكتب قصيدة مضادة، لا تبكي ولا تتباكى ولا ترثي ولا تتفجع: "لا شهية لنا في البكاء ولا رغبة في المراثي ولا يتنازعنا الى القول سوى فائض الألم". الشاعر مريد البرغوثي كتب قصيدة حملت اسم جورج بوش بالانكليزية عنواناً وحاول فيها الالتفاف على الشعر ليهجو الرئيس الأميركي مشبّهاً إياه ب"العقرب". الشاعر أحمد دحبور كتب في رام الله قصيدة حماسية داعياً فيها الجندي العراقي. الشاعر أمجد ناصر كتب ثلاث قصائد ذات رؤية تهكمية سوداء ونبرة احتجاجية تدمج بين الموقف العبثي والألم الصامت. وفي إحدى القصائد يلاحق طيف الكاتب البريطاني الكبير هارولد بنتر في الهايدبارك. الشاعر المصري عبدالمنعم رمضان بدا الأكثر هدوءاً في تفاعله مع اللحظة العراقية إذ استعاد صورة توراتية ليجعل منها عنواناً لقصيدة "على أنهار بابل". وتذكّر رمضان عدداً من الأسماء العراقية القديمة والمعاصرة، شعراء وملوكاً وأساطير... فبغداد هي "عاصمة الأرض" و"سعدي يوسف ما زال يطلّ على ساحة البرج/ في أوّل الليل...". الشاعر السعودي سعد الحميدين كتب قصيدة طويلة عنوانها "الساعة الثامنة والأربعون" وحاول فيها أن يرثي بغداد من غير أن يتخلّى عن سعير الرفض مضيفاً جملة "لهب/ لهب/ لهب" الى جملة "مطرْ/ مطرْ/ مطر" في قصيدة بدر شاكر السياب "أنشودة المطر". أما الشاعر اللبناني عقل العويط فسمى بغداد في قصيدة غنائية هادئة في غنائيتها، "زوجة النهر" و"وجع الصحراء الأخضر" وشبّهها ب"لبوءة تربض على أسوار بابل". ابراهيم نصرالله كتب قصيدة تجمع بين الرثاء والاحتجاج وعنوانها "غزاة معدنيون يتجمعون تحت الشبابيك" وعبدالقادر الجنابي كتب قصائد قصيرة ومختزلة لغة وصوراً. وإذ يستحيل حصر القصائد العربية التي استوحت اللحظة العراقية المأسوية يحلو للبعض أن يسميها بالنكبة أو النكسة نظراً الى غزارتها وتشتتها في الصحف والمجلات العربية وبعض المواقع الألكترونية فإن شعراء كثراً آثروا كتابة المقالات السياسية أو المقطوعات النثرية ذات الطابع الوجداني والاحتجاجي. سعدي يوسف مثلاً كتب مقالات سياسية قاسية هاجم فيها مواطنين عراقيين "عملاء" كما نعتهم، وبعض "المافيات" العراقية كما عبّر أيضاً. الشاعران اللبنانيان بول شاوول وعباس بيضون فتحا صفحتيهما في "المستقبل" و"السفير" أمام الشعراء العرب لكنهما لم ينشرا أي قصيدة لهما مؤثرين أيضاً كتابة المقالات والنصوص النثرية. وطبعاً هناك الكثير من الشعراء الذين كتبوا ولم ينشروا ربما، وقد فاتهم "الحدث" بعدما انتهت الحرب نهايتها غير المتوقعة! إلا أن السؤال الذي تطرحه القصائد الكثيرة التي كتبت خلال الأيام العشرين للحرب هو: هل استطاع الشعر العربي أن يواكب اللحظة المأسوية العراقية وأن يكون في عمقها وفي حجمها الوجودي أم كان مجرد رد فعل عفوي وغنائي حيالها؟ هذا السؤال طُرح كثيراً في السابق، عالمياً وعربياً ولم يلق جواباً واضحاً ولن يلقاه أبداً. فالشعر الذي يكتبه الشعراء تحت وطأة الحرب يختلف أولاً عبر اختلاف الشعراء أنفسهم، ثم عبر اختلاف علاقتهم بالحرب وأثرها عليهم، ناهيك باختلاف التجارب والمقاربات والرؤى... يسأل الشاعر اليمني عبدالعزيز المقالح في مقالة له عن الحرب: "أين الشعر؟" ويجيب: "تحت القصف المادي والمعنوي لا تستطيع القصيدة الخروج الى الساحة، لا لأنها تخاف على نفسها من القنابل العنقودية وإنما لأنها تكون مشغولة بتقصّي أحوال اللغة في مثل هذه المناسبات المنذورة للقتل...". غداة احتلال النازيين فرنسا خلال الحرب العالمية الثانية نشأت في باريس حركة سميت "شعراء المقاومة" وضمّت الكثير من الشعراء، كباراً وعاديين. حينذاك شهد الشعر الفرنسي ازدهاراً لم يشهده سابقاً ولا لاحقاً ما جعل فرنسوا مورياك يقول عشية انتهاء الحرب وتحرير فرنسا: "لم يكن هناك شعراء أكثر مما كان في تلك السنوات السود". إلا أن مَن يعود الآن الى القصائد التي كتبت حينذاك يكتشف أن الكثير منها كان ظرفياً وخاضعاً لردّ الفعل إزاء الحرب. ولم يتوان بعض الشعراء الكبار أراغون، بول إيلوار، رينه شار، هنري ميشو... عن اعتبار الكثير مما كتبوه في الحرب نتاج مرحلة تاريخية. وقد يكون الأمر نفسه في نظر شعراء جيل 1936 في إسبانيا، جيل الحرب الأهلية ومن ضمنه أسماء كبيرة من أمثال: ألبرتي، ماتشادو، لوركا ونيسنتي ألكسندري وسواهم. وهؤلاء أدركوا لاحقاً أن ليس كل ما كتبوه في الحرب كان مهماً. ترى هل كل ما كتب الشعراء من قصائد خلال الأيام العشرين للحرب يستحق أن يدخل تاريخهم الشعري الخاص؟ أم أن قصائدهم لم تكن إلا تحيّات وجهوها الى العراق والشعب العراقي قبل أن تفاجئهم "النكسة" السريعة وغير المرتقبة؟