كلما تقادم الوقت زادت مكانة السياب شعرياً، سواء في الدراسات العربية أو المكتوبة بلغات أخرى، فهو ما برح يراكم مجدا متجددا في الشعرية العربية يضعه رائد انعطافة مهمة في تاريخ مديد لتراث القصيدة العربية. ونحسب أن الإقرار بأهمية منجز السياب احتاج وقتا طويلا فاق عمر شاعره القصير وزاد عنه، فالسياب بقي يخوض حرب المنافسة دون ان يحظى باعتراف يليق بمكانته الحقيقية حتى وفاته العام 1964. وعلى عكس الكثير من مشاهير الشعراء العرب الذين عاصرهم، مثل الجواهري وأدونيس وحتى البياتي، لم يدرك السياب مكانته كشاعر يتقدم الصفوف، ولم يتمتع إلاّ بالفتات مما تمتع به هؤلاء وغيرهم من الشعراء. هل هي مفارقة سوء الحظ الذي لازمه منذ طفولته حتى مماته، أم ان دروب الألم التي عبرها كانت أقرب إلى قيثارة عزف عليها تلك الألحان التي خلدته؟ هذه السنة ستحل ذكرى وفاة السياب الخمسون، وستحتفي به منابر أدبية عربية مختلفة، فهل بمقدور النقد ان يقرأ قصائده من زوايا جديدة؟ لاشك ان الاحتفالية تحمل دلالات مهمة، فهي لا تعني فقط تكريما لرائد تفرّد في الحداثة الشعرية، بل تعني أيضا وعلى نحو ما، محاولة لاستعادة مكانة الشعر بعد ان انحسرت تلك المكانة في الثقافة العربية خلال العقود الراهنة. فقد شكّل السياب ورواد قصيدة الشعر الحر بمجموعهم، زهو الشعرية العربية التي كانت الحداثة " الثانية " تحمل نُذر انحسارها. إننا أمام بنيان راسخ من الإبداع، نعجب كيف لجسد عليل وعقل مرتبك أن يشيده بحرفية وتوقد ذهن قل نظيره. فالسياب الذي يبدو للناظر ومن خلال حياته، ذلك الفتى القروي الذي لم يغادر مطرحه الصغير إلاّ ليعود إليه في مناماته الشعرية وهدهدات روحه القلقة، كان ابن بيئة العراق في أخصب فتراته الثقافية. وستدلنا رسائل الشاعر الأولى على ما كان يزخر فيه البلد من توقعّات لفتى بصّري يعيش في قرية في أبي الخصيب، فعدا ما توفره الدراسة من فرص ذهبية، كانت أربعينات القرن المنصرم سنوات العلاقات المفتوحة على العالم عبر القراءات والتطلعات التي لم تكن تكبحها معوقات التخلف داخل الأماكن ذاتها. سافر السياب، ولكن لم يكن سفره إلا اضطرارا، اما هروبا من الاضطهاد او للاستشفاء من مرض أطفأ شمعته وهو يكابد الآلام. رقد السياب طويلا في المستشفيات، وكانت ممرضته في البصرة "أسيا" العمة التي كتب فيها قصيدته الرائعة "وأسية الجميلة كحّل الأحداق منها الوجد والسهر". "شناشيل ابنة الجلبي" من بين قصائد السنة الأخيرة في حياته، وهي مجرد استرجاعات او ومضات من ذاكرة الطفولة، ولكن كيف لهذا الجسد الذي كان يتهاوى بإيقاع سريع، ان يكتب هذه القصيدة المرحة، هذه القصيدة التي تفيض بعذوبة المكان والنساء والمرئيات؟ تلك هي أسرار السياب التي ظل النقد يدور حولها دون أن يدركها. كتاب احسان عباس "بدر شاكر السياب / دراسة في حياته وشعره" 1969 ظل شحيحا في الاعتراف بقيمتة وفرادة شعره، حذرا في اصطياد مواطن الجمال في قصيدته، ولم يضعه في موقع الريادة، ولكنه يكاد يكون الاعتراف العربي الأول بأهمية شعره. صدر الكتاب بعد ان تريث الناقد في نشره كما يذكر في مقدمته، وكان كتابا محمود العبطة وعبدالجبار البصري عن السياب قد سبقاه الى القارئ العراقي. ولم تكن مقدمات دواوين السياب التي اعقبت هذه الفترة، سوى تدوين لتواريخه السياسية، وهي تواريخ ما كانت هي الأهم في حياة السياب رغم ان السياسة وجهت مجسّات خيالة. فالسياب هو مزيج من الفطرة والثقافة الرفيعة، بين النثر والشعر تطوّر إيقاع قصيدته، وبين التراث وروح العصر كان ينتقل بطلاقة، مثلما كانت الأهواء السياسية تطيح به يمينا وشمالا، ولكنها لم تقلل من زخم ذلك العنفوان في صوته. كان السياب أسير فكرة الموت الذي لاعبه وسكن على مقربة من وريده، فبدا عجولا في تنقلات مواقفه، تلك الروح الرديكالية التي كابد في سبيلها الكثير ودفع ثمنها سنوات شبابه الأولى مطاردا، أعقبها ذلك التسليم الضعيف لأقداره، أقدار جسده العليل وأقدار توقه إلى الثقة بالعالم. ولكن الخوف لم يعطب موهبته ولم يطفئ وهجها، فقد واجه الموت بالقصيدة التي كتبها وهو يرى كما النائم أطياف أمه. وأن جاز لنا أن نستعين بما كتب النقّاد عن مارسيل بروست وعلاقته بأمه، فأن ما يقوله هؤلاء عن نحيب بروست "النحيب الذي أحصره في صدري كلما التقيت أمي" ينطبق على سيرة السياب الشعرية، حيث شكّل فقدان الأم مادة أساسية في تصعيد الرغبة التعويضة بالفن، بالعاطفة التي يشكّل النحيب مقومها الأول: "صوت تفجّر في قرارة نفسي الثكلى: عراق/ كالمد يصعد، كالسحابة، كالدموع إلى العيون/ الريح تصرخ بي عراق/ والموج يعول بي عراق، عراق ليس سوى عراق" في هذه القصيدة المتصاعدة النبر، تتكثف الرغبة بالهروب إلى الهدوء الذي يفتقده الغريب وهو يواجه عباب البحر الممتد، ولن يكن هذا الهرب سوى العودة الى الرحم الأول "في لحظتين من الأمان، وإن تكن فقدت مكانة/ هي وجه أمي في الظلام/ وصوتها، يتزلقان مع الرؤى حتى أنام". تحتشد صور وأصوات النساء في ذاكرة السياب عبر هذه القصيدة "غريب على الخليج" الأم والجدة وعفراء والمفلّية العجوز وسواها، كي تُعرب تلك الاصوات عن شيفرات الوصل بين ضفتي الخوف والشعور بالعري والغربة، والهرب الى الماضي حيث الحنو والأمان في حضن النساء، النساء اللواتي يشبهنه في تلك العاطفة المكثفة، فهن محتجزات مثله "وراء باب كالقضاء/ قد أوصدته على النساء/ أيد تُطاع بما تشاء، لأنها أيدي الرجال". لم يذكر السياب أباه في شعره، وذكر جده لأمه، ولكن المتخيل الأمومي ينتظم لديه عبر الرموز والالفاظ وأطر الصور التي صاغها في الكثير من قصائده. تلك العاطفة القروية التي جعلت من قصيدته سرديات للحداثة، كانت تبعده عن القاموس الرجولي الذي أشاد تراث الشعرية العربية. أنزل السياب القصيدة الى الأرض، بعد ان تسامى بها الجواهري، وكان هو الند الحقيقي لتلك الديباجات المفعمة بالحماس عند الجواهري، تلك الأصوات الرجولية التي تتصادى في قصيدة الجواهري. وبعيدا عن ما يحفل به الخطاب الفامنستي من مبالغات، نقول أن السياب كان بتواضع عالمه واقترابه من اليومي وسرديات البيت، استطاع ان يخلق معجما جديدا للعاطفة الشعرية، هذا المعجم يقوم على شيفرات الفقد، فقدان الأم التي كان السياب يستحضرها في الكثير من شعره وخاصة ذلك الذي كتبه وهو على فراش المرض: "ولبست ثيابي في الوهم/ وسريت : ستلقاني أمي/ في تلك المقبرة الثكلى/ ستقول : اتقتحم الليلا/ من دون رفيق/ جوعان ؟ أتأكل من زادي / خروب المقبرة الصادي/ والماء ستنهله نهلا/ من صدر الارض / ألا ترمي أثوابك؟ وألبس من كفني" ونحسب ان ليس هناك من شاعر عربي صور رعب الموت بتلذذ مثل السياب، لا لأنه كان يستشعره في جسده فقط، بل لانه من خلاله يستعيد توقه الى امه. لعل النبر الاجتماعي في خطابه حافظ على حوارية التنقّل في المواقع والأصوات، فقد كسر السياب سياق الخطاب المنطقي عند شاعر القريض، فكم من الجمل المقحمة في شعره التي تبحث عن قاريء من طراز جديد، يعرف الفن السينمائي ويفهم التشكيل الجديد الذي كان رواده بناة الحداثة الحقيقية على مستوى النخبة العراقية. وليس الحنين الى الأمّ وحده من حرّك دوافع القصيدة لديه، بل كونه عاش في وقت غادرت المرأة القصيدة إلى الشارع، فرأى في حلمه الريفي بالبيت ونسوته ما يتحرك على رومانسية تفتقدها المدينة التي نفر منها. سيقى السيّاب كتابا مفتوحا للقراءات التي تبحث عن الجديد، فشعره يزخر بممكنات البدايات التأسيسية لحلم شاعر كان يعرف انه لا يستطيع على عجل تخطي تراث القريض بأكمله، ولكنه استطاع تقويض خطاباته التي استوطنت الشعر.