} جمع الشاعر أدونيس قصائده "المدينية" التي كتبها خلال مراحل زمنية متباعدة في ديوان سماه "كتاب المدن"، وبدا الكتاب جديداً في جوه وعناصره إذ التأمت قصائده الطويلة حول قضية المدينة المتجلية في اللغة والشعر. ليست المدينة في ما تتمثل من معان وأبعاد، قضية طارئة على شعر أدونيس. فهي تحضر في معظم دواوينه الأولى حضوراً رمزياً يدل على عمق العلاقة التي تجمع بين الشاعر الريفي الجذور والتجربة المدينية التي بدأت كحلم وما لبثت أن تنامت لتمسي تجربة ثورية وحداثية بامتياز. وكان أدونيس منذ "قصائد أولى" سبّاقاً في "نعي" الريف ورثاء زمنه المندثر ورفض واقعه البائس على رغم حضور الطبيعة في قصائده تلك وطغيان البعد الجمالي على لغته الشعرية. فالقرية التي "تبكي بلا جفن" كما يقول، لم تبق قرية الرومانطيقيين الذين برّحهم الحنين الى ماضيها البريء وفردوسها المفقود، بل هي قرية مأسوية "أغلقت في وجهها الأرض" وباتت تنتظر حلول العاصفة التي تنقذها من بؤسها. تخطى أدونيس إذاً منذ بداياته مفهوم الصراع الذي شهده شعر النهضة الأولى والثانية وبعض الشعر الحرّ، بين الريف والمدينة وكان ربّما أول شاعر "كلاسيكي محدث" يجرؤ على إعلان "فجيعة" الريف وعلى كسر هالته الرومانطيقية و"براءته" الفردوسية ولكن لا لينحاز الى المدينة انحيازاً أعمى على غرار الرمزيين الفرنسيين وفي طليعتهم بودلير بل انحيازاً ثورياً يوفّق بين الانتماءين، بين الجذور الأولى والحداثة الجديدة. فالمدينة لم تعنِ له ما عنت للشعراء السابقين ولبعض الشعراء المعاصرين من أمثال بدر شاكر السياب وعبدالوهاب البياتي وأحمد عبدالمعطي حجازي... في كونها بؤرة الشر وموئل الإثم، بل كانت بوتقة الثورة والبعث وحيّزاً حضارياً قادراً على استيعاب "العاصفة" التي أعلن جهاراً أنه "رسمها". و"العاصفة" التي شغلت مخيّلة أدونيس الأولى ليست إلا "الثورة" الشاملة التي تصالح الكائن مع ماضيه مقدار ما تصالحه مع عصره. ولن يتوانى الشاعر عن "هجاء" المدينة "الواقعية" أو "المدينة الخراب" ولكن على طريقته وليس على طريقة الشعراء الرومانطيقيين من أمثال جبران والياس أبي شبكة وسواهما. لن يقول أدونيس ما قاله جبران: "المدينة باطلة وكلّ ما فيها باطل"، بل هو سيصالح بين المدينة والريف خير مصالحة جاعلاً منهما حالتين وجدانيتين ووجوديتين في الحين عينه. وإن هجا أدونيس "الواقع" الريفيّ المزري فهو سيخبّئ "ريفه" الخاص في طويّته تماماً مثلما خبّأ في عمق سريرته "مدينته" الفاضلة التي راح يبحث عنها بين المدن وكان يجدها حيناً ويفتقدها في أحيان. لا يتواجه الريف والمدينة إذاً في شعر أدونيس ولا يتناقضان ولا يؤججان الصراع التقليدي أو الصراع الثنائي في المعنى الفلسفي. فالاختبار هنا أعمق من أن يقتصر على هذا التناقض العَرَضيّ والتجربة الوجودية تصهر الثنائيات في نارها. ولعل المعاناة "الحضارية" التي قاساها الشاعر جعلته يواجه حال التقهقر والانحطاط لا في الواقع الراهن فحسب، وإنما في أفق التاريخ والماضي. ترى ألن يعلن شاعر "العاصفة" لاحقاً أن اسمه "لغم الحضارة"؟ تتعدد المدن وتختلف معالمها الجغرافية والتاريخية لكن جوهرها يظل واحداً وهو أولاً وآخراً جوهر التجربة الشعرية التي تحرر تلك المدن مما يهددها. تمسي المدن داخل التاريخ وخارجه في آن، مدناً جغرافية ووهمية أو ميتافيزيقية يبنيها الشاعر وفق المدينة - المثال كما يعبّر أفلاطون أو وفق "المدينة الفاضلة" التي تقطن مخيّلته ووجدانه ولاوعيه. ولئن نعمت كلّ مدينة بخصائصها كمدينة قائمة في التاريخ والواقع فهي تلتقي جميعاً حول مواصفات شعرية تجعلها مدناً في المطلق أو مدناً ذاتية وروحية. دمشق تختلف عن بيروت وبيروت عن القاهرة والقاهرة عن صنعاءوعدن أو عن مراكشوفاس... لكن هذه المدن لا تلبث أن تسلك معراجها الرمزيّ صعوداً الى مرتبة الكينونة حيثما يختلط الزمان والمكان، المادة والجوهر، الظاهر والروح. وليس من قبيل المصادفة أن يقول الشاعر: "وحين أذكر بيروت، أعني دمشق والرياض وبغدادوالقاهرة...". أو أن يردد أسماء بعض المدن كما لو أنه يسمي مدينة واحدة: مراكش، دمشق، القاهرة، بغداد، القدس، فاس... ولعل هذا الاستتباع هو استتباع شعري أو ميتافيزيقي وليس استتباعاً سياسياً. فالشاعر يكتب في منأى عن الحلم "العروبي" والهاجس "الوحدوي" وبعيداً من وطأة "الشعار" الذي أنهك جزءاً من الشعر العربي الحديث. وان وجد الشاعر نفسه داخل باريس في حال من الحنين الى دمشق أو مضطراً، كما يقول، أن "يتخيل نجوم قصابين" وأن "يهتدي بها" فهو يجاهر أن "أناه" هي "الذات والآخر" آخذاً بمقولة رامبو الشهيرة ولكن محرراً إياها من "الانفصام" النفسي أو الصوفي ومضفياً عليها بعداً حضارياً يتمثل في انصهار الشرق والغرب انصهاراً كونياً أو تكوينياً بالأحرى. "الحجاب" يصبح هو نفسه "الضوء" كما يقول أدونيس ويضحي الغرب "إسماً آخر للشرق". وهكذا يسمح الشاعر لنفسه أن يتخيل "شجرة ياسمين شامي" مزروعة محل برج إيفل. فهو صالح أخيراً بين "رماد باريس" و"الشمس التي تقطر دماً" ولاءم كذلك بين شاطئي "البحر المتوسط". على أنه يسمّي الشمس "شمسنا" والبحر المتوسط "بحرنا" مسبغاً عليهما صفة الجمع. وإن كان الشرق جرحاً بحسب الشاعر فإن "الغرب" بدوره سينزل عليه "مطر موحل وأسود"، هو مطر الحضارة الحديثة، حضارة "الأورانيوم" و"الديزل" كما يقول. ولا ينعي الشاعر واقع الشرق ومستقبل الغرب إلا ليرسم شرقاً وغرباً آخرين، هما شرق وغرب روحيان أو شعريان، الشرق القديم والغرب النائي، شرق المتصوّفة والشعراء وغرب رامبو ونيرفال وبودلير... أما باريس أدونيس فهي ليست باريس بودلير المتناقضة: مدينة الأحلام حيناً ومدينة السأم والأسر حيناً آخر. إنها ربما أقرب الى باريس فيكتور هوغو التي وصفها ب"الكوزموس" قائلاً عنها إنها أثينا وروما والقدس... وإن كانت باريس حافزاً على الحلم ومصهراً شعرياً "رمادياً" فإن مدينة نيويورك التي احتلت احدى القصائد وعنوانها "قبر من أجل نيويورك" هي "حيلة هندسية" بل "حضارة بأربع أرجل. كل جهة قتل وطريق الى القتل". ويستهلّ الشاعر "هجاءه" مدينة "الوحل والجريمة" عبر دفنه إيّاها. فالقبر هنا ليس قبراً شعرياً على غرار القبر الذي نحته مالارميه مثلاً لادغار ألن بو بل هو قبر مجازيّ "دفن" فيه الشاعر "رموز" المدينة السلبية. والقصيدة هذه هي أولى قصائد المدن وكان كتبها الشاعر عقب زيارة قام بها الى نيويورك في العام 1971 وكانت تتخبّط حينذاك في "وحول" فييتنام والتمييز العنصري والإبادة الإثنية... لكن "نيويورك" أدونيس لن تكون نيويورك الحركات الأدبية والفنية الحديثة جداً ولا نيويورك جيل "البِيْت" كرواك وغينسبرغ... ولا نيويورك ملفيل أو دوس باسوس العزلة والعفن والخزي بل هي أقرب الى نيويورك هنري ميلر التي شاءها "كناية عن خراب العالم المعاصر". ولن يتذكّر أدونيس من شعراء نيويورك إلا والت ويتمان، شاعر القرن التاسع عشر، شاعر "أوراق العشب" عرّبه يوسف الخال. فالشاعر هذا وحده يفتح "وجه" نيويورك ذاك "الشباك المغلق". وعوض أن يتحدث الشاعر عن "الحلم الاميركي" يستوحي العصر الأميركي: عصر الإبادة والجنون والقتل... وكان لا بد له هناك من أن يتذكّر بيروت لا ليقارن بين المدينتين وإنما ليصف بيروت ب"وردة الظلام والرمل" ملقياً عليها السلام. وبيروت في نظر الشاعر كانت حينذاك وردة مضيئة في وسط الظلام العربي وفي غمرة الجفاف "الرملي" الذي يضرب الخارطة العربية. لكن أدونيس لن يكتب عن بيروت إلا مرثية ملؤها الألم والفجيعة. إنها بيروت الحرب الأهلية في المعنى اللبناني والعربي، بيروت الدماء والأفول، بيروت التي أصبح فيها الصديق جلاداً، بيروت التي أضحت "معدناً يصرخ". ويتمثل الشاعر نفسه أشبه ب"أرميا" راثياً المدينة و"الخارطة": "مزق التاريخ في حنجرتي، وعلى وجهي إمارات الضحية، ما أمرّ اللغة الآن وما أضيق باب الأبجدية". قصائد مدينية لعل جمع أدونيس قصائده "المدينية" في ديوان واحد هو "كتاب المدن" يفسح في المجال أمام قراءة واحدة ومتعددة، بل أمام قراءة شعرية وأخرى تأويلية. قصيدة المدينة الواحدة تتواصل مع قصائد المدن الأخرى من غير أن تتخلى عن مرجعيتها الزمنية - المكانية ولا عن مادتها الشعرية. إلا أن التقاء القصائد جميعاً في كتاب يؤلّف ما يشبه المناخ العام الذي يرسخه - أوّل ما يرسخه وأكثر ما يرسخه - الشعر نفسه ثمّ المقاربة التخييلية والأسطورية والتاريخية والتكوينية لصورة المدينة أو صور المدن المتعاقبة. والمدن إذ تلتقي في لقاء القصائد تغدو كأنها مصنوعة من أحلام ورغبات، من هواجس وأفكار ومن أحوال ومكابدات ومشاهدات. تصبح المدينة ذاتاً فيما هي موضوع مترسّخ في التاريخ والجغرافيا. تولد المدينة ولادة شعرية داخل سريرة الشاعر وفي لغته على السواء، تولد وتنمو وتموت لتولد مرّة تلو مرّة. مدينة أدونيس الفاضلة تشبه كثيراً مدينة إيتالو كالفينو التي وصفها في كتابه البديع "المدن اللامرئية" قائلاً: "كلّ امرئ يملك في رأسه مدينة ليست مصنوعة إلاّ من تناقضات، مدينة بلا شكل ولا صور وتملأها المدن الخاصة". هكذا تغدو "مدن" أدونيس كأنها مدينة في مدن وفق عبارة بيت في منازل كثيرة أو مدن في مدينة. ولا تختلف الواحدة عن الأخرى إلا لتتشابها في الجوهر. ولا تشبه الواحدة الأخرى إلا لتختلف عنها. فالمدينة لا توجد إلا انطلاقاً من فقدها. وهي تظل مدينة مفقودة حتى وإن تجلّت في التاريخ والواقع. ولا ينتقل الشاعر من مدينة الى مدينة، من مدينة - أم الى مدينة - حبيبة فإلى مدينة - منفى إلا بحثاً عن مدينة يلتمع سرابها في عينيه. إنها المدينة الأخرى بل المدينة - المثال التي تحتذيها المدن ولا يقوم لها مقام خارج اللغة. إنها المدينة - اللغة، المدينة - القصيدة بل مدينة "الأبجدية الثانية" كما يعبّر الشاعر حيثما "الدم هو الذي يفكّر والجسد هو الذي يكتب". وفي أشد أحواله نفياً وعزلة يسمّي الشاعر "اللغة امرأة" و"الكتابة حباً". فهو المنفي دوماً أو المقيم في حال من المنفى الأبديّ يعترف أنّ ليس له من وطن "إلا في هذه الغيوم التي تتبخر من بحيرات الشعر". وفي احتدام المنفى الباريسي يخاطب الشاعر لغته العربية قائلاً: "آويني، احرسيني ايتها الضاد. الضادّ يا لغتي يا بيتي". ولعل الشاعر "الغريب" الذي يتقن "هندسة المنفى" كما يقول يدرك كل الادراك أن "النار" عاصمته التي لا يكتشفها إلا ليكتشف الشعر. والنار، بحسب غاستون باشلار هي "الحيّ الأكثر حياة" وهي "وحدها قادرة على استيعاب الثنائيات". أما الشعر فهو مملكة النفي: الإقامة المنفية والمنفى المقيم. الشعر هو "اللغة الثانية" والشاعر هو الذي "يعرّي الزمن" ويجري عليه "ماء تكوين آخر" ليصبح هو نفسه "لغة يلوذ بها الحيّ في حواره مع الموت". وفي هذه "اللغة" تستقيم "المدينة" داخل التاريخ وخارجه، داخل الذات وخارجها، داخل الواقع وخارجه. لا تختلف المدن واحدتها عن الأخرى: البتراء التي استعادها الشاعر في ما يشبه "الرقيم" هي الوجه الآخر لدمشق، ودمشق هي الوجه الآخر للقاهرة، والقاهرة هي الوجه الآخر لصنعاء أو عدن. ووسط هذه المدن تحضر غرناطة أيضاً. لكن الشاعر لن يرثي غرناطة الأندلس الضائع ولن يقف على أطلال التاريخ العربي بل يعترف أنه لم يعشق "مساءَ ما مضى" إلا لأنه "مأخوذ بصباح ما يأتي". فالمساء في غرناطة إنما يهيئ الفجر كما يقول. ويُغرب الشاعر في مديح الحمراء لا كرمز للحضارة العربية التليدة وإنما كعلامة من علائم التكوين الحضاري: "الحمراء حواء العمارة" يقول أو: "إنّها الحمراء تفتح أبوابها للسماء، لكي تخرج وتزور أطفالها". تلتئم إذاً في المدينة "الأدونيسية" الصورتان المتناقضتان اللتان صنعتا تاريخ المدن: المدينة - القدر والمدينة - المثال، مدينة ال"هنا" ومدينة ال"هناك"، مدينة الماضي ومدينة المستقبل، المدينة - الهاوية والمدينة - الفردوس. إنها في الحين عينه سدوم أو عامورة المهددة ب"نار السماء" وبابل ذات "الجنائن المعلّقة" و"أورشليم الجديدة" بحسب رؤيا يوحنا وربما إرم ذات العماد في بعض معالمها الباهرة. وليس الشاعر إلا أشبه بالمسافر أو "الحاجّ" والعابر بين تلك المدن التي تحيا في ذاته وفي تاريخه الشخصي وواقعه الشخصي أو هو يحيا في ذواتها الفردية وذاتها الجماعية كما في تاريخها وواقعها على السواء. هوذا الشاعر يخاطب دمشق بما يشبه المديح والهجاء معاً قائلاً: "دمشق أنت حياتنا، لكن، ما هذه الحياة التي لا تعطينا إلا الموت؟". ويستدرك أن دمشق كلمة مركّبة من كلمتين: "دم وشق". لكن الضوء في هذه المدينة هو نفسه "مرآة يكتشف الناس فيها وجوههم فيما يدخلون ويخرجون". وعندما يسترجع الشاعر مراكش أو فاس أو صنعاءوعدنوالقاهرة يبدو كما لو أنه يعيش تجارب تلك المدائن في تجربة واحدة صوفية وتاريخية، عرفانية وواقعية كيلا أقول سياسية، حضارية وطوباوية. وكمثل المتنبئين الذين ينذرون بما سوف يأتي من خراب ينعي الشاعر "العصر العربي الثالث" والزحف الآلي الذي سيقتل إنسانية الإنسان وروحانية الجماعة: "سحقاً للاذاعات والصحف، للتلفزيون والسينما وسحقاً للفيزياء والذرّة...". لكن الشاعر المتبرّم بما وصل اليه القرن الثالث من موات وجفاف يصرّ على رفض "الرضى" كما يعبّر وعلى تفضيل "عكر ما يجيء" مسقطاً من ذاكرته "صفاء ما جاء". ويخاطب "القلم" و"الأبجدية" سائلاً إياهما الى أين يقودانه وماذا فعلا به، مدركاً أنه "بلي" كي يقول "المحو" باللغة. إنها اللغة التي تمحو إذاً بل إنه "النسيان الذي هو وحده الذاكرة". ولعل الشاعر الذي خرج من "سلالته" ك"عطر وردة"، الشاعر الغريب الذي "يتقن هندسة المنفى" يسعى الى أن يكون قوساً "تصل بين إبرة الدم وخيوط المجرّات". ويطيب له كما يعبّر أن "يخترق نواة التاريخ ويبدّل عطر الأشياء". والشاعر إذ يكتب "القاهرة" فإنما يكتبها مكتوباً بها. فالتاريخ يترك له في كل مدينة "أحب دفاتره اليه". أما طوباوية المدينة الأدونيسية فهي كما يقول ليفيناس "طوباوية المدينة التي تحيل الى الذاكرة الجمعية للمدن". وفي هذه المدينة الطوباوية والفاضلة، مدينة الأرض والسماء تصبح الحياة نوماً والموت يقظة كما يعبّر الشاعر. ويستحيل "المكان" أنثوياً بامتياز انطلاقاً من مقولة ابن العربي التي يوردها الشاعر: "كل مكان لا يؤنّث، لا يُعوّل عليه". أما "أدونيس فلم يؤنسن المدينة أو المدن فحسب بل أنّثها أيضاً مانحاً إياها جسداً أنثوياً. فإذا المدينة امرأة، حبيبة كانت أم أختاً أم أماً. لا فرق. وإذا الشهوة "تتقدم في خرائط المادة" والزمن يتعرّى والحجر "ماء ثان". يكتب أدونيس مدنه أكثر مما يكتب عنها. يكتبها كما لو أنه يمحوها. رهبة المحو أشد اضطراماً من رهبة الكتابة. وهوذا الشاعر يعلن أنه "جاء كمن يبدأ تاريخه" وأنه لا يغترب إلا ليعرف نفسه عبر تهجين الأصالة. ويقرن الشاعر بين الابداع والتهجين: "أن تبدع هو أن تهجّن" يقول. وليس التهجين الا انتماء الى اللاتاريخ أو الى وهم التاريخ ووهم السلالة ووهم الحياة. حبر المدن أما الرسوم التي استوحاها الرسام السوري زياد دلّول من قصائد أدونيس المدينية استطاعت أن تؤلف مناخاً خاصاً داخل مناخ الكتاب. إنها قصائد أخرى مكتوبة بالحبر الأسود وبذلك البياض اللامتناهي، بياض الورقة البيضاء. الرسوم هنا لا تزيّن القصائد مقدار ما ترافقها وتواجهها، تشبهها في أحيان وتختلف عنها في أحيان. وإن بدا الرسام يرجع الى القصيدة التي يكتب رسمه على هامشها فهو بدوره لا يتخلّى عن ذاكرته أو مخيّلته وعن المرجعية الأولى تاريخياً وجغرافياً. وفي هذا المعنى هو يكتب بالحبر لا لأن أدونيس يرسم بالكلمات بل لأنّه يكتب باللغة. ولعله "التطابق" الذي تحدّث عنه رولان بارت، بين الرسم والكتابة يجعل كليهما صنيعاً واحداً قائماً على الانفصال والالتقاء. لم ينتظر الرسام قصائد أدونيس ليرسمها، بل هو رافقها حتى وإن كان قرأها قبلاً. الرسام يسبق الشاعر ويتأخّر عنه في الحين عينه مثلما الشاعر يسبق الرسام ويتأخر عنه. وكما يحيا الشاعر منتهى حريته في التعبير محرراً المدينة من تاريخيتها ولازمنيتها ومرسخاً إياها في آن كبقعة في التاريخ والزمن هكذا يحيا الرسام حريته مطلقة في تجريد المدينة أو تجسيدها عبر ثنائية الأسود والأبيض وجدلية البقعة والخطوط. وإن بدت مدن أدونيس مختلفة عن مدن زياد دلّول فهي ليست غريبة عنها أبداً: إنها الوجوه الأخرى لتلك المدن، بل هي النواحي السرية والغامضة الكامنة وراء ظاهرها. لم يفسّر زياد دلّول في رسومه قصائد أدونيس ولم يوضحها ولم يفشِ أسرارها بل هو زادها غموضاً لا إبهاماً وشعرية لا نثرية. وأضفى عليها بريقاً يلتمع من لقاء الأبيض والأسود أو من اصطدامهما الجميل. لم يرسم زياد دلول القاهرة أو دمشق أو بيروت أو البتراء... بل رسم أطيافها وأرواحها. رسمها في حال الالتماع و"المحو". جرّدها من ظواهرها الخارجية لينفذ الى عمق أسرارها. هكذا غدت مدنه شعرية بامتياز لأنها اكتفت بالجوهر ونفضت عنها المعالم الزائلة. رسوم زياد دلول أو مدنه هي أقرب الى التكوينات المنبثقة من مخيلة رسام تبحر في التاريخ ولكن لا لتقع في شباكه بل هي سرعان ما تحمله الى مصاف الإشراق والتجريد والضوء الذي يملأ الناحية الأخرى من الظلام. * أدونيس: كتاب المدن، رسم وحفر زياد دلول، منشورات الأونيسكو وغاليري لاتنتوروري - باريس، باللغتين: العربية والفرنسية. نقلت القصائد الى الفرنسية آن واد مينكوفسكي باستثناء قصيدة "المهد" التي نقلها المستشرق جاك بيرك، وصدرت طبعتان من الكتاب، طبعة عادية من القطع الكبير مع رسوم وأخرى فنية ضمت لوحات الرسام زياد دلّول.