ما زلتَ - وفي كلّ المناسبات - تردّد: - لا شأن لي بما يحدث في السماء. وتكتب عن أمّك الأرض، وتُربتها الطيّبة... أما "الآخرون"، فقد كانوا على خطأ جسيم، باستسلامهم للوداعة والهدوء... لأنك منشغل عنهم بحبيبتك... وهذا يعني لهم شيئاً واحداً: انّك - بانشغالك هذا -، ستتخلّص من هموم الأرض، وتسمو عن أدرانها، وذلك بالمضيّ في رصد الأرواح العاشقة، الهائمة في السماوات البعيدة... وتلك مهنة العشاق القدامى... والحقيقة أنّهم - من هذه الزاوية - قد أصابوا... فأنت مشدود طوال حياتك القصيرة، الى أولئك العشاق، لأنهم كانوا - في حبّهم - كِباراً... وكان "الآخرون"، على غاية من اللطف، بحيث يصعب عليهم، ألا يستسلموا للنعاس... لكنهم بعدما استيقظوا، تحسسوا جرح الخيانة الدامي، خيانتكَ...! فقد كانوا على يقين مميت، من أنك ستنشغل بالكتابة عن حبيبتك... لكنك تخلّيت عن عادة العشّاق الكبار، وكتبتَ عن الأرض... لهذا يقولون أنّك خدعتهمْ... أما ما أصابهم بالجنون، هو: كيف يتولَّه الإنسان بالحمام، ويتغنّى بزغردة الرصاص.؟! أما أنت، الكائن الأرضي جداً، فإنك بقيت وفيّاً لهمّك الوحيد: الكتابة... كتبتَ عن الأوطان المسلوبة، و نسورها المقلوعة المخالب، وحمامها المحجوز وراء الحدود... وكتبت عن طفل يتسوّل وفي ذهنه مدرسة، وشيخ يبكي من الجوع والإهمال والنسيان... وكتبتَ عن محارب قديم، يرشّ المدائن بالصراخ... وكتبت عن الامهات، ينتظرن في أخريات الليالي، ومن وراء السنين، عودة الذين لن يعودوا أبداً... وكتبت عن الغيوم التي لا تُمطر الاّ "عليهم"... وكتبت عن شجرة، لم يتركوا مُتعباً واحداً يجلس تحتها، فعاشتّ - حتى ماتت - يتيمة... وكتبت عن "نورس". لم ترَ البحر أبداً، لكنها تحسّ بمِلحه في الحياة... وتشدّ من أزركَ بابتسامة ذابلة: لا أريد يا أبي شيئاً، فقط: عُدْ لي من بلادك سالماً. وكتبت عن حرّية تهتف أن: تعالْ... فكانت الطريق إليها وهْماً مضيئاً، لكن موتها الملْحاح، ما زال يقرع أذنيك كأجراس الكنائس... وكتبت عن كاتب يشرّد معناه، لئلاّ يزجّوا به في متاهتهم، بدعوى أنه يعنيهم... وكتبت عن حلم ضاقت به الأرض والسماوات جميعاً، فعاد إليك بلا أجنحة... وكتبت عن أرملة تهدّد أطفالها بالطعام اذا لم يناموا... وكتبت عن امرأة كسّرت نظرتها الهموم، وأطفأت المذلّة ضوء جبينها... وكتبت عن ضيف عزيز، هدَّتْه المدائن والسنوات، فقدّمت له الريح وليمة على مائدة الطعام... وكتبت عن بلاد كانت قديماً بلاداً، - على ضيقها - كانت بلاداً... وكتبت عن رجال لم يعودوا كذلك، لأنهم أحبوا التي كانت بلاداً... وكتبت عن المعارضة الرّاضية، وكذبة البلد الأمين... وكتبت عن حليم يحمله التلاميذ والعمّال والطلبة، في الحناجر والسواعد والعيون، ويخبئون ألوانه، عن المخبرين والخونة... وكتبت عن الرجال الخُضْر. الذين ماتوا من شدّة الطيران... وكتبت عنك تحديداً... منذ سنين تعلم بالخروج من البلاد، أو بدخولها... وكتبت عن الطرقات التي لا تؤدي الاّ الى الشكّ في كلّ شيء، عدا الهلاك... وكتبت عن الأبواب والنوافذ التي طرقت، فكانت الإجابة شرطاً قاسياً ومُهيناً: - تعاون معنا، واغْنَمْ ما تريد... وكتبت عن الروح الحافية، السجينة في معاطبها القديمة والجديدة... وكتبت عن المقابر الحديثة، التي أخفَقتَ دائماً، في عَدِّ زوّارها الصامتين... وكتبت عن رفاق، إنقسموا - حينما توحّدوا - الى ثلاثة فصائل: الفصيل الأول يسألك عن إسمك الجديد...! والفصيل الثاني، ما زلت تنتظر عودته... أما الفصيل الثالث، فإنّه... تاه... وكتبت عن أم عتّقتها الأمراض، وحياة الكلاب التي تعيشها، فلم تعد تتمنّى لك شيئاً، سوى ان تبدأ من سرطان الكتابة... وكتبت عن زوجة صبورة، كصبر الجمال على الجنوب، وتهدّد بكلّ أنواع الويل، إذا تخلّيت عنكَ... عن الكتابة... * كاتب تونسي.