كنت لسنوات خلت أريد أن أعرف مِنْ أمي يوم ميلادي الصحيح، ذلك أن ميلادي المذكور في وثيقة السفر هو الأول من تموز يوليو، وهذا هو ذاته تاريخ ميلاد ملايين العراقيين الذين لا يُعرف متى ولدوا أو لم يهتم أحد ما أصلاً بتدوين تاريخ ميلادهم، لكن الأعوام مرّت ولم يكن بإمكاني تلبية رغبة أصدقائي هنا أو تلبية رغبتي الشخصية: متى ولدت حقاً؟ تركتُ العراق عام 1978، بعدما نشرت مجموعتي الشعرية الأولى والتي سرعان ما أُغلقت الدار التي كانت تقوم بتوزيعها! لقد تركت البلاد بعدما أغلقت جميع الأبواب في وجهي، فمن أجل أن تدرس في الجامعة أو أن تحصل على وظيفة أو أن تحصل على وثيقة جواز السفر، عليك أن تكون عضواً في حزب البعث، وليس بإمكانك أن تنشر إلا ما يريدون ان تكتبه. كنت شاباً يافعاً أحلم بمعرفة العالم، وصلتني من طريق القراءة البسيطة أطراف من أخبار الآداب والفنون بالعالم، كنتُ مبهوراً بإيطاليا، بيونان كافافيس، وأكثر بفرنسا، التي كانت تعني لي الشيء الكثير. فما أن قرأت "بودلير بقلمه"، حتى داهمني حلم الشاعر الرائي، أنا الشخص الذي يقيم في قرية في حضن الصحراء، لم يكن لدي كرسي ولا كهرباء، بل كنتُ أقرأ منسدحاً كتاب سيمون دو بوفوار: "مذكرات فتاة رصينة" على ضوء الفانوس، فيما الحشرات الطيارة قد عسكرت حولي وأخذت تتصادم برأسي حتى تعبت وهربت من القراءة الى الظلام والأحلام. كنت أريد أن أكون شخصاً مثل هؤلاء، لهذا تدبرت مبلغاً من المال وزينت نفسي بغليون مع تبغه، وهو التبغ ذاته الذي أدخنه اليوم، لأنه الوحيد الذي كان موجوداً آنذاك! ثم تدبرت لنفسي علبة قهوة جاهزة، والتي كنتُ أفضلها على القهوة العربية جداً، أيضاً لأنها تتلائم مع عوالم بلزاك، وهكذا كنت أمضي نهاراتي، أدخن، أقرأ، أكتب وأحتسي القهوة، حالماً بصحن مملوء بالقواقع أو بالمقانق أو بشرائح اللحمة المدخنة... كنت أكاد أذوب في الأحلام. كنت أكتب قصائد لا ينشرها أحد في العراق: لا تلائم المرحلة الراهنة! هكذا كانوا يقولون! كنت أريد أن أُعرف، لكن لا فائدة ترجى من هذا الوضع الثقافي المؤدلج! وكنت أبرّر نفسي: رؤيوي مجهول في قريته! وكنت أوغل أكثر في الغرائبية، وكلما أفلحت في النشر هنا أو هناك في البلدان العربية، حتى وجدت نفسي أخترع لنفسي أسماء عدة ولكم فرحت حينما عرفت فيما ما بعد حكاية بسِّوا وأشقائه... اخترت لنفسي أولاً لقب الدكتور الذي سرعان ما أدخلني الى عالم النشر بقوة. وفي الكثير من المجلات الثقافية، وحينما ضجرت من هذا الدكتور اخترت اسم فتاة ونشرت باسمها قصائد وحشية عن البراري! لكن حينما استطعت الاتصال بأمي بعد سنوات طويلة قالت لي إني ولدت في منتصف شهر نيسان ابريل بالضبط، وكنت أبكي صارخاً من العطش أثناء موسم حصاد القمح، ذلك لأنها مشغولة كالجميع بالحصاد، وحينما رأيتها بعد أكثر من عشرين عاماً على الفراق برفقة ابني الكبير وجدتها تجدني في حركات ابني، في وقاحته، خصوصاً وفي ضحكته الشيطانية اللعوب! في باريس، في تور، في بواتييه كنت تائهاً حقاً لا مأوى تقريباً لدي، وكان الجوع يكظني دائماً... حياتي تروح وتأتي ولا خيط أمسكه لكي أجدد أحوالي، كنت مسكوناً بالشعر وبصور الشعراء الآخرين الملتحين على أغلفة الكتب خلف زجاج المكتبات... وأنا برفقة الجوع وبضعة قواميس أفك حروف هذا الشعر... وأحلم بالشعر... وأحلم بالرفقة... بالغرام الحقيقي... من دون أن أعرف بأنه معي... ذلك لأني كنت أحلم بالهيام... بالوقوع في الحب وفي طلب المعاناة. في صيف 1983، بعد إقامة ثلاثة أعوام في الملجأ في مدينة كولونيا، اعترفت وزارة الداخلية الألمانية بطلبي للجوء السياسي، وهذا يعني ان لي الحق في السكن حيثما أريد، بعيداً من الملجأ، الحق في الدراسة، في العمل وفي السفر! لقد مرّ أكثر من خمسة أعوام منذ تركتُ بلادي العراق مخلّفاً ورائي أوضاعاً متفاقمة وأجواء قد خيّم عليها الكابوس البعثي! لعل هذه الكوابيس المخيمة كانت لوحدها هي الدافع الأساسي لهروبي! وربما أيضاً كان هناك، جموح الشباب، الخطوة الحمقاء التي يمكن أن نخطوها وتصحّ! هكذا كان طريقي عام 1978 الى باريس، تور، بواتييه، عبر لبنان ثم بعد أقل من عامين حافلين بتشرد حقيقي وجوع وضياع وصلت الى مدينة كولونيا بالقطار صبيحة اليوم الثاني من آب أغسطس عام 1980 يا للمفارقة السوداء، فهو اليوم ذاته والتوقيت ذاته الذي غزا فيه صدام حسين الكويت. هنا، أمضيت السنوات التالية في الملجأ، ومنذ ذلك التاريخ مرت أحداث جسام، مثل: عودة الخميني الى ايران وتأسيس الجمهورية الإسلامية، وعلى إثرها بداية الحرب العراقية الإيرانية، اغتيال أنور السادات على يد اسلاميين، هو نفسه من أفسح المجال لهم لكي يواجه بهم القوى العلمانية، خطيبتي تركتني في العراق وتزوجت من ابن عم لي، الغزو الاسرائيلي للبنان، احتلال بيروت وخروج المقاومة الفلسطينية... كل هذه الأمور شكلت دروساً مهمة بالنسبة لي... فقد تهدمت أحلامي وضربت عرض الحائط كل تلك الأوهام في الحياة، الحرية... وعليّ أن أعيش هذا وأن أتحسسه يومياً بنفسي، ليس من خلال تقلبات الأحوال فقط، وإنما من خلال تقلبات الأفراد البسطاء الذين يتجنبونك مثلاً بسبب جوعك أو بسبب رأيك! أحلامي بالنشر قُبرت مع احتلال اسرائيل لبيروت، هنا في نهاية ذلك الصيف من عام 1983. صدر الكتاب الأول الذي حمل اسم "منشورات الجمل" وقد طُبع بشكل بسيط ونضّد بواسطة الآلة الكاتبة، هذه الآلة التي ستكون لسنوات طويلة هي الأساس في هذه الدار الغريبة والتي كان رأسمالها أوهام شخص واحد يعيش بمفرده بفضل "المساعدة الاجتماعية" التي تمنحها البلدية للعاطلين عن العمل. لكنه كان مثلما كان دائماً: يأمل. فحينما تدور رحى الحرب، يتهدّم الشخص الذي مثلي، المقيم هنا، يحاول أن يمسك بالذكريات، أن يتشبث بها، فهو يريدها، لأنها الوحيدة التي بقيت له، ضاعت تلك الأوهام واندثرت، وكل الحنين المتوهم يتلاشى بغتة، وهو ما أن يهرب من كابوس النهار والدقائق البطيئة حتى تأخذه أحلامه الى حيث الطائرات تقصف! فيفزع مرعوباً ويكون "ليله بطيء الكواكب"! يحدث هذا. حدث هذا عام 1980، حينما بدأت الحرب العراقية الإيرانية، وحدث هذا عامي 1990 و1991، فشقيقاي جنديان في الجيش الكويتي، وأختي متزوجة من جندي آخر... والآخرون جنود في الجيش العراقي... "كنا موتى واستطعنا التنفس"... يقول باول تسيلان. هنا كان عليّ أن أكوّن نفسي لوحدي، أن أفرضها مثل أي عراقي هارب آخر... في أجواء ثقافية عربية مسمومة، ذلك أن صدام حسين لم يخرّب الأجواء الثقافية العراقية داخل العراق فقط، انما باع واشترى في الثقافة العربية كتّاباً وجرائد ومجلات ومؤسسات، في داخل البلدان العربية وفي المنفى الأوروبي، وهكذا وجدنا مثقفين في المنفى الأوروبي وهم يسبحون لصدام حسين وقيادته الحكيمة، فهم يعتاشون على عطياته، وفي هذا الجو وجد الكاتب العراقي المنفي حقاً وكأنه كلب أجرب، لا أحد يريده! فيما النفاق الأوروبي مستمر، فالجميع تعاون مع صدام حسين، فرنسا بالبرنامج النووي، روسيا، المانيا زودته بالغازات السامة التي راح ضحيتها الألوف والولايات المتحدة الأميركية... كان علي الانتظار حتى غزو الكويت حينما ضعفت امكانية النظام العراقي في الدفع... لكي يتحول عنه جزء من المثقفين العرب الى جهة أخرى تدفع لكي تستمر الرطانة الثقافية العربية... في حربٍ سابقة كتبت: "القلب معميّ، لي أن أتذكر باول تسيلان الآن، الليل يتساقط كنجوم عصر ضائع بين خلايا هذا الظلام، أو ذاك ... تقف الآن، دموع التماسيح هذه ليست من أجلك، وحدك تنام في الخراب". الأشباح هي القصيدة التي تصل الينا ثم ترتد عائدة الى نفسها. أبي... قبل سفري أبي الذي عرفته على وجبة السباغتي، واستطعمها جيداً، الذي كان بالكاد يكتب اسمه، أبي الذي كان يستمع الى اذاعة البي بي سي باللغة العربية دائماً ولا يصدق خرافات الاذاعات العربية، أبي الذي توفي العام 1998 وكان يحلم بأن يموت ذلك "القائد الضرورة" قبله، ولم يتحقق حلمه، أبي الذي كان يدعى كل شهر الى دائرة الأمن لكي يُسأل عني، أبي الذي قال لي في رسالة صوتية بأنه لا ينام الليل إلا وقلبه معلق عليّ! وكان علي أن أفهم كيف كان قلبه معلقاً عليّ! أبي الذي توفيت زوجته الأولى، حبه الأول مبكراً، والذي توفيت زوجته الرابعة بعد وفاته بوقت قصير، فيما زوجته الثانية عمياء منذ عام 1963، وكنت عرفتها مبصرة، أبي هذا قال لي قبل سفري عام 1978: "ابني، لا تترك رسنها يضيع من يديك!". كان يعني الحياة.