تحت رعاية ولي العهد.. السعودية تستضيف غداً مؤتمر الاستثمار العالمي لعام 2024م في الرياض    "السجل العقاري" يبدأ تسجيل 227,778 قطعة عقارية بمدينة الدمام والخبر والقطيف    «التعليم» تطلق برنامج «فرص» لتطوير إجراءات نقل المعلمين    "البرلمان العربي" يرحب بإصدار الجنائية الدولية مذكرتي اعتقال بحق رئيس وزراء كيان الاحتلال ووزير دفاعه السابق    جلسة تكشف الوجه الإنساني لعمليات فصل "التوائم الملتصقة"    أمر ملكي بتعيين 125 «مُلازم تحقيق» على سلك أعضاء النيابة العامة القضائي    " هيئة الإحصاء " ارتفاع الصادرات غير البترولية بنسبة 22.8% في سبتمبر من 2024    اقتصادي / الهيئة العامة للأمن الغذائي تسمح لشركات المطاحن المرخصة بتصدير الدقيق    الأرصاد: أمطار غزيرة على عدد من المناطق    15 مليار دولار لشراء Google Chrome    أقوى 10 أجهزة كمبيوتر فائقة في العالم    تنافس شبابي يبرز هوية جازان الثقافية    يلتهم خروفا في 30 دقيقة    مسودة "كوب29" النهائية تقترح 300 مليار دولار سنويا للدول الفقيرة    «اليونيسف» تحذر: مستقبل الأطفال في خطر    "الداخلية" تختتم المعرض التوعوي لتعزيز السلامة المرورية بالمدينة    3 أهلاويين مهددون بالإيقاف    افتتاح الأسبوع السعودي الدولي للحِرف اليدوية بالرياض    وزير الثقافة: القيادة تدعم تنمية القدرات البشرية بالمجالات كافة    المدينة: ضيوف برنامج خادم الحرمين يزورون مجمع طباعة المصحف ومواقع تاريخية    لماذا رفعت «موديز» تصنيف السعودية المستقبلي إلى «مستقر» ؟    «مجمع إرادة»: ارتباط وثيق بين «السكري» والصحة النفسية    محمية الأمير محمد بن سلمان تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش    600 شركة بولندية وسلوفاكية ترغب بالاستثمار في المملكة    "الحياة الفطرية" تطلق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    بحضور سمو وزير الثقافة.. «الأوركسترا السعودية» تتألق في طوكيو    تحفيزًا للإبداع في مختلف المسارات.. فتح التسجيل في الجائزة السنوية للمنتدى السعودي للإعلام    فعاليات متنوعة    111 رياضيًا يتنافسون في بادل بجازان    القِبلة    «واتساب» يتيح التفريغ النصي للرسائل الصوتية    أمراء ومسؤولون يواسون أسرة آل كامل وآل يماني في فقيدتهم    الأكريلاميد.. «بعبع» الأطعمة المقلية والمحمصة    تأثير اللاعب الأجنبي    الخليج يُذيق الهلال الخسارة الأولى في دوري روشن للمحترفين    «النيابة» تدشن غرفة استنطاق الأطفال    فرع وزارة الصحة بجازان يطلق حزمة من البرامج التوعوية بالمنطقة    «صواب» تشارك في البرنامج التوعوي بأضرار المخدرات بجازان    القبض على مقيم لاعتدائه بسلاح أبيض على آخر وسرقة مبلغ مالي بالرياض    "تقني‬ ‫جازان" يعلن مواعيد التسجيل في برامج الكليات والمعاهد للفصل الثاني 1446ه    خسارة إندونيسيا: من هنا يبدأ التحدي    مشكلات المنتخب    المدى السعودي بلا مدى    الأساس الفلسفي للنظم السياسية الحديثة.. !    1.7 مليون ريال متوسط أسعار الفلل بالمملكة والرياض تتجاوز المتوسط    معتمر فيتنامي: برنامج خادم الحرمين حقّق حلمي    سالم والشبان الزرق    الجمعان ل«عكاظ»: فوجئت بعرض النصر    الحريق والفتح يتصدران دوري البلياردو    إبر التنحيف وأثرها على الاقتصاد    «سلمان للإغاثة» ينظم زيارة للتوائم الملتصقة وذويهم لمعرض ترشح المملكة لاستضافة كأس العالم 2034    فيصل بن مشعل يستقبل وفداً شورياً.. ويفتتح مؤتمر القصيم الدولي للجراحة    وزير التعليم يزور جامعة الأمير محمد بن فهد ويشيد بمنجزاتها الأكاديمية والبحثية    قرار التعليم رسم البسمة على محيا المعلمين والمعلمات    "العوسق".. من أكثر أنواع الصقور شيوعًا في المملكة    سعود بن نايف يرعى الأحد ملتقى الممارسات الوقفية 2024    الأمر بالمعروف في عسير تفعِّل المصلى المتنقل بالواجهة البحرية    وزير الدفاع يستعرض علاقات التعاون مع وزير الدولة بمكتب رئيس وزراء السويد    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رسالة الى كاتب عراقي
نشر في الحياة يوم 12 - 01 - 2000

لقد مرّ عشرون عاماً ونيف منذ التقينا آخر مرة. في ذلك العام أضحت بغداد مدينة أشباح بالنسبة الّي، في ما هي مدينة جولات وصولات بالنسبة اليك، جميع أصدقائي أدخلوا السجن، ماتوا، اختفوا أو هربوا. هناك التقيتك صدفة لآخر مرة ربما، حيث حاولت اقناعي بالعدول عن السفر، وحاولت جاهداً تبيان حسنات الالتحاق بركب كتاب السلطة الصاعدين سلم الوظائف والامتيازات. دافعت عن كتّاب التقارير الحزبية والوشاة وقصائد التمجيد، وكنت منهم بطبيعة الحال، مكذباً كل ما أخبرتك به عن أحوال الاصدقاء الذين ماتوا أو اختفوا، الذين ادخلوا السجن أو الذين لا أدري ما حل بهم، هل هربوا؟ فقد كنت تؤكد دائماً على اننا يجب ان نكون في خندق واحد، وهذا الخندق - حسب رأيك - هو خندق الحكومة، خندق الحزب الحاكم والسيد النائب. آه كم كنت تعبد السيد النائب، حتى انك كتبت كتاباً في ما بعد عنه، معتبراً إياه شاعراً... وايضاً بحثت عن أثره في الشعر، وقد أثر فينا حقاً هذا "السيد النائب". لكنك لم تدرس شعرنا ولا أثره فيه، فنحن بحكمك وبحكم حاكميك غير موجودين، لا نذكر ولا نرى وغير معروفين في بلداننا بفضلك وبفضل خدمتك وخدمة غيرك، يتجنبنا اللاقمون في الخارج، ولا نذكر اذا ذكر بلدنا. كل الحقوق أسقطت عنا، لكننا "كنا موتى واستطعنا التنفس".
فكّرت فيك لسنين بعد هذا، خصوصاً في الامتيازات التي كنت تتمتع بها، فقد كان بإمكانك النشر في كل مجلات الدولة وجرائدها. تتقاضى راتباً جيداً، تدعى دائماً للمشاركة في اللقاءات الثقافية، توفد ضمن الوفود الى بلدان أوروبية مثل: بلغاريا، رومانيا، هنغاريا، يوغوسلافيا... دائماً أتابعك من بعيد وأنت تسافر زائراً هذا البلد الشقيق أو ذاك البلد الصديق. وقد حاولت، على رغم هذا، أن أبقي خيوط الصلة قائمة في ما بيننا، فأنت - على رغم هذا - كنت صديق طفولتي، معاً خطونا الخطوات المرتبكة الأولى، في تلك الأيام ونحن نقرأ ونعيد قراءة "كتاب الطواسين"، ونردد في تلك الأماسي ذات النجوم والأقمار البيتين اللذين أصبحا شعاراً لنا:
نظري بدء علتي
ويح قلبي وما جنى
يا معين الظنى عل
ي أعني على الظنى
لهذا كنت أرسل اليك رسائل حذرة، منطلقاً من أنها ربما تؤذيك أو تشوه سمعتك وتعطي لرفاقك الجدد السبب الأنصع لكي يشوا بك. ومع ان هذه الرسائل ما هي الا رسائل موجهة الى تلك الصداقة القديمة، أو هي حنين وخوف من شيء أفقده، كنت أحدثك من خلالها عن مدن أوروبا، عن شعراء كنا نقرأ لهم وها أنا أرى بعضهم الآن ماراً في شارع ما، أو ربما مجرد شخص آخر توهمته هذا الكاتب أو ذاك الشاعر. ثم تحدث المفاجأة، فإذا بك بعد عام أمامي وأنا جالس على تلك الكنبة أمام معهد اللغات في تلك المدينة التي عاش فيها أو بقربها الكاتب الفرنسي بلزاك. كما فرحت بك حين رأيتك تضحك من بعيد وأنت تراني في تلك المدينة. لكني خجلت ايضاً كثيراً. لأني لا بيت لي ولا حتى غرفة... أي من دون مأوى ولا مصدر رزق. اذ كنت أنام حيثما تقودني الصدفة... أكل ايضاً بذات الطريقة. الإفلاس قد صفر منقاري وبت كشبح في تلك المدينة الغريبة. لكنك، وهذا ما آلمني كثيراً، بعد ان التذذت بباريس وأوشكت مصاريفك على النفاد، تذكرتني، وها أنت أمامي هنا، متعجباً مني ومن عيشتي، واكثر من هذا. كان تساؤلك الغريب: لماذا اعيش من دون صديقة؟ ذلك ان فكرتك عنا هي أننا نعيش في بيوت طبيعية تضم الى غرفها صديقة! لقد شعرت بالمرارة لأني اولاً لم استطع استضافتك، لأني لا املك مأوى ولا مورد مال، ثم ان ما يؤويني احياناً او سيستقبلني في ساعات الشدّة لن يقبل بذلك الآن، فأنت كاتب سلطة وحمّال تقارير او كاتب تقارير. ايضاً شعرت بالمرارة اكثر لسخريتك مني ومن احوالي وشعرتُ بالمرارة اكثر لسخريتك من جوعي! ثم لم تكتف بهذا، اذ عدت الى نفس اللعبة القديمة، مستغلاً حالتي المزرية، فشتمت الجميع وأخذت تسرد محاسن الحزب والثورة وال…… السيد النائب.
رسالتك الوحيدة اليّ والتي حدثتني عنها وصلت بعد رحيلك بأسبوع، مجرد تحية واشارة الى انك ستسافر وهي مكتوبة في نفس يوم سفرك.
كنت بعد عودتك تشتم "المتنافين" الذين خانوا الوطن والذين يعيشون على فتات موائد الأجنبي. عن اي وطن تتحدث، عن اي خيانة، من خلال اي منظور؟ نحن لا نعرف ولا القارئ يعرف، ولم يكن بامكاننا ان نسألك، اضافة الى انه لم يكن بامكانك الاجابة كما قدّرت. ثم لم تكتف بهذا، فقد اخذت تنظّر عن "علم الجمال البعثي" مرّة وعن "اعادة كتابة التاريخ" مرة اخرى. والاخيرة لم تكن تعني بالنسبة إليك اكثر من أن اصول الأكديين والسومريين والآشوريين كانت عربية. اما كيف حدث ذلك، فلا انا اعرف، وانت بالتأكيد لا تعرف ذلك.
ثم لم تكفّ عن هذا، فقد قرأنا لك مقالاتك او بالأحرى قرأنا عن مساهمتك الكبرى في "قادسية صدام" او "القادسية الثانية"، كذلك فوزك بجائزتها، ثم وصولك القمة حيث قلدوك وساماً كواحد من "اصدقاء السيد الرئيس".
حينما بدأت الحرب العراقية - الايرانية، كانت الجنازات تعود الى البيوت ومعها مبلغ 10 آلاف دينار عراقي 33 الف دولار اميركي تقريباً حسب قيمة الصرف آنذاك، مع سيارة لا ادري ما علامتها. وبدا كأن العراقيين ليسوا فرحين بالحرب فقط، بل كانوا يتسابقون الى ارسال ابنائهم الى جبهات القتال الأمامية.
هذه الرشوة التي كانت تتلقاها عوائل القتلى في بداية الحرب العراقية - الايرانية لم تثر فيك شيئاً، ولا في اولئك الكتّاب العرب الذين كنت تحتفل بحضورهم سنوياً في مهرجانات باذخة فخمة، وحكومتك الميمونة كانت تجزل لهم عطاءً اثار حسدك، انت ابن البلد، الحزبي، رافع التقارير، الواشي حتى على جاره.
ثم تمرّ السنوات التي ستستعيد معها تلك الرشوات، وتأخذ اضافة الى الأرواح، حلي الأمهات والاخوات والعرائس، كتبرعات اجبارية يُعاد سبكها لكي تُصاغ منها يد "القائد الضرورة" من ذهب، والذي بفضل يده السمحاء هذه حلّ الدمار وشاع البؤس وتشرد الناس شذراً مذراً، حتى انت نفسك، في بلد لم يعد يأمن فيه حتى الخادم على حياته! حسب تعبير واحد من اصدقائك، ذوي المقام الرفيع آنذاك وربما ما زال اليوم كذلك. فلم نعد نعرف متى ينفجر اللغم المؤقت، حسب نظريتك، ذلك ان كل واحد منكم كان ملغوماً ولا يعرف متى يطير به اللغم! فأنتم لم تعودوا تعرفون حتى الخطوط الحمراء، ولم يكن هذا الأمر عبارة عن قانون سري حتى يتم التعامل معه، كما تدعي، انما هو مجرد مزاج وشاة وجبناء.
لقد سارت الأمور سريعاً، واذا بك تجد جيلاً جديداً، كما قلت لي، تجد جيلاً بلا تجربة، جيلاً ممسوحاً يكتسحك انت وجماعتك. جيلاً كما تقول بلا اخلاق، لم يعرف الحلاج، ولا بودلير، ولا "الرفض كأنجيل"، انما هو جيل الرضوخ والعمى والدونية. وكأن هذا الجيل لم يتدرب على يديك، فمنك تعلّم اول حرف من أبجدية الخنوع، منك تلقى ملعقة الكذب والتناور وتسطيح الأشياء، وها انت تشكو من "هذا الجيل الخنوع، من هؤلاء الزعاطيط..."
ثم توقفت الحرب مع ايران، والتي يبدو انها حقاً تركت فيك اثراً كبيراً، فقد اخذت تدفع بناتك الى ارتداء الحجاب، امتنعت عن المحرمات، عدت الى ربك كما يقولون ان بحار العالم لو فاضت بالخير لك فانك لن تصيب منها الا ما كتب الله لك. وان نيران العالم لو اجتمعت لم تحرق منك الا ما كتب الله لك. وما هي الا اشهر حتى وجدت نفسك مجنداً ضمن وفد صحافي لمتابعة تطورات انضمام الكويت كمحافظة باسم محافظة "كاظمة" الى البلد الأم!
اما ما حدث من عمليات تبدو لك خفية قبل هذا، فلك ان تدعي بأنك لم تعرف عنها شيئاً. فقد كانت جرائد الحكومة تنشر البرقيات تلو البرقيات حول عمليات الأنفال التي راح ضحيتها 180 الف مواطن عراقي من الأكراد، اضافة الى مئات القرى التي محيت من الخارطة… مدينة حلبجة قصفت بغاز الخردل ووقع آلاف الضحايا كنت بعد اعوام هناك ومن هناك اشتريت بذور "الرشاد" وحينما عرف البائع هويتي رفض، ليس قبول الثمن فقط، انما حاول امدادي بالكثير من البذور الاخرى وألحّ كثيراً عليّ من اجل قبول عرضه. لكن اقول لك لا انت قمت بشيء من اجل هؤلاء، ذلك ان لسان حالك يقول ذلك ان مجرد الكتابة في جريدة خارج العراق هو بطولة من نوع خاص، ولا ابطال العروبة، الذين عدت ووصفت بعضهم بكونه "كان ينسج وجه البساط غزلاً بالعراق وسرعان ما اتجه الى قفا البساط بعد حرب الخليج، فكانت هذه الحرب المرآة التي كشفت نفاقهم الآلي…"، فلسان حالهم الدفاع المستميت طالما ان الدفاع عن البوابة الشرقية للوطن العربي مستمر والتحويلات كذلك، فهي الأساس هنا.
لكن هذه "اللمّة" الصحافية والتضامن المطلق سينهاران بشكل كامل ما ان عُرف أمر الحصار. وتوزع اصحابك وتركوكم لأنكم ببساطة لم تعودوا تدفعون، وبقيت لكم فقط صرخات شتات الجماهير هنا وهناك… تلك الجماهير التي تؤمن بالعجائب لكي يتسنى لها نسيان البؤس الذي تعيش فيه! لم يفكر احد بنا، لا انت ولا هم، كما لم يفكر احد فينا هناك… في الممنوعين من كل شيء، المعرضين للحصار بكافة انواعه، وحصار السيد القائد بالذات. وما ان سنحت لهم فرصة التمرد حتى اخذ لسان حالك يصفهم بكونهم ليسوا عرباً... لكأنما على الانسان في العراق ان يولد عربياً وإلا فلا وجود له، وانما هم جلبوا من قبل احد القادة العرب كرعاة مع الجاموس من الهند! لم يقشعر بدنك ولم تعد تفكر الى اي مدى يسير بك خنوعك. لكن التاريخ أرحم، ففي سوق الكتب المستعملة وجدت كتاباً من اصدار مجلة Life باسم "مهد الحضارات". ولم يكن مؤلفه الا عالم السومريات الأشهر: صموئيل نوح كرامر. وفيه وجدت مجموعة من الصور والشروح، وهي صور دالة تماماً إذ تعرض صوراً من الحاضر واخرى من الماضي، ومنها صورة الهور اليوم، البيت في الهور والجاموس، وهناك مقابلها صورة من ختم اسطواني تعرض لنا ذات الوجوه، البيوت والجاموس ايضاً. هل تعرف بلدك؟ انت لا تعرف حتى نفسك! سعيد هذا الانسان الذي ينعم بالجهل وينام هانئاً! لكن مشكلتك انك، على رغم هذا، لا تستطيع حتى النوم هانئاً، لا في بيتك ولا في بيوت الضيافة والفنادق الفخمة، فالتصوير والرقابة قائمان ليل نهار…
لكن حين اخذت السفينة تهتز، سرعان ما رأيتك وانت واقف في الطابور امام مقر منظمة الامم المتحدة بعمان، وبعد ان قبلوا الآخرين "الزعاطيط" رفضوك، فعدت تلعن "الامم المتحدة" وتشتم "اميركا". ليس هذا فقط، وانما عدت الى بغداد وكان وقت عودتك هو الوقت الذي يحتفل به "القائد الميمون" بعيد ميلاده... واذا بك كما تقول الصحيفة الحكومية "الذي عاد تواً من عمان وما ان تناهت اليه اخبار المهرجان الذي يقيمه المنتدى احتفالاً بعيد ميلاد القائد العظيم حتى حمل اوراقه وقصائده ليشارك بقصيدة…". ثم نراك تصرح للصحافة على خلفية هذا المهرجان فتقول: "كانت قصائدنا تتنفس عطر الميلاد بخياشيم الشعر، الميلاد الذي حلقت به الكراكي والفواخت وهي تهدل للشطآن البعيدة التي تسوّرها غابات القصب والنخيل، الميلاد الذي انبثق من مرابعه القمح والماء، تلك الحقول التي تلوح بالحلم السري المضيء على جبهة جدنا الذي لا يشيخ… جدنا السومري العراق…".
كل هذا قلته وقمت به بعد رسالتك اليّ من الاردن، بشوقك الى الالتقاء بيّ والتحدث عن الجرائم وعن المقاومة "البطولية" التي قمتم بها ضد الحكومة، ثم عن روايتك الضخمة التي - كما قلت - تفضح الوضع بكامله، وبأنك كنت طيلة الوقت تحاول الحفاظ على نفسك الخ… ومنها تطلب المساعدة وربما دبرت لك دعوة من اتحاد الكتّاب الالمان باعتبارك شاعراً معارضاً ومضطهداً وبأن عدي صدام حسين ارسل اعوانه لملاحقتك في الاردن وبأنه اتهمك بالخيانة! وكنت ايضاً تريد ان اقوم او اشارك في حملة عالمية للتضامن معك!
في البداية فرحت برسالتك، اذ قلت لنفسي انك قد صحوت اخيراً، وأنه يمكنني ان اساعدك، على الاقل مادياً. وبالفعل جمعت ما امكنني وارسلته اليك… لكن المسائل الاخرى! فقد فكرت وفكرت ورحت اتيه في تفكيري… فقد نشرت قبل سفرك مباشرة مقابلة مطولة مع "الاستاذ عدي صدام حسين"، ثم رحت اعيد قراءة آخر كتاباتك التي يبدو لي انك تتصور بانها لم تصلني… لهذا فقد قررت عدم الدخول في اختلاق كذبة كهذه.
لكن الامر الذي زاد الامور سوءاً هو احتجاجك على المبلغ الذي ارسلته اليك. إذ انك لم تشكرني، انما ادعيت بأن المبلغ ضئيل جداً ولا يعادل ثمن عشاء في مطعم عادي بالمانيا! هنا صدمت حقاً! لم اعد اعرف كيف اتصرف معك، واسقط بيدي! ذلك ان المبلغ الذي ارسلته اليك يكفيني لمدة شهر كامل، بما فيه زيارة المطعم مرة او مرتين في الشهر. لقد حاولت جهد الامكان مساعدتك، ومع ان بعض الغرور ركبني في البداية، إلا أنني شعرت بالبؤس فجأة، وتصورت بأن هذه امور تشكلت لديك نتيجة معلومات مغلوطة، وسرعان ما تزول. وهكذا منيت نفسي واعتبرت الامر مسألة وقت فقط! لكنك سرعان ما عدت ثانية الى بغداد وقرأت رسالتك التي نشرتها هناك: "… وكان ناس كثيرون قد سألوني من قبل: لماذا لم اكتب مباشرة الى مقام الرئيس القائد "حفظه الله". كنت وما زلت اتهيب الكتابة ومخاطبته مباشرة، لأنني أرى فيه الرمز المترفع عن خطايا الآخرين واخطائهم وخصوماتهم، وهو المرجعية التي لا يجوز اشغالها بهم اضافي غير الذي تحمله…".
هنا عجزت عن الكلام حقاً وحتى عن التفكير، واعتقدت بأنك قد شُوهت حقاً واختلافك مع الجيل الجديد ليس الا امراً مصطنعاً.
لكن هذه الامور جميعها مرت سريعاً واذا بك تتصل بي تلفونياً، تخبرني بانك قد تخلصت اخيراً من الكابوس. وفرحت بذلك وهنأتك بالامر، ثم ارسلت لك مجموعة من الكتب واتفقنا على اللقاء، وبناء على طلبك ارسلت اليك بطاقة السفر، حيث جئت واستقبلتك في المحطة وجئت بك الى شقتي، وقد تفاجأت بأنها شقة مستأجرة وبأني اسكن في شقة وليس في بيت خاص. ثم تفاجأت لأني لا املك سيارة، واكثر لانك بحثت طيلة الوقت في البيت ولم تجد تلفزيوناً ولا جهاز فيديو، فقط الكتب المنثورة والاحلام الطائرة.
لا أخفيك فرحي الكبير بزيارتك، فأنت كنت كاتباً مشهوراً حينما غادرت انا العراق، ايضاً فقد منيت نفسي في استعادة المشهد من جديد... وأكثر من هذا، انني كنت انتظر منك بعض الأشياء لكي أعرف ماذا حدث فعلا هناك: ماذا فعلتم، ماذا قلتم، ماذا قرأتم، كيف عايشتم الأحداث؟ وهل فكرتم بنا، ثم ماذا فكرتم؟ لم يحدث أثناء لقائنا شيء من هذا البتة، فأنت كنت تزوغ دائماً وتتساءل متى سنخرج الى السوق، وهناك كنت تبحث عن ماركات لملابس معينة، وسألتني الذهاب الى مطعم "مكدونالد" وهو من الأماكن التي لا أحب الذهاب اليها اطلاقاً... وحينما تحدثت كنت تستشهد دائماً بقصائدك، وهذا شيء أرعبني حقاً، فلا يستشهد الشخص بقصائده دائما الا إذا كان هشاً وفارغاً! لقد كانت زيارتك لي بمثابة كابوس! فقد طبخت لك وتعجبت أنت بأني ما زلت اتذكر الطبخ العراقي، وأكثر من هذا انك استغربت الأغاني التي سمعتها عندي، حيث تساءلت: منذ متى وأنت خارج العراق، ومع ذلك ما زلت تتذكرها؟
بعدها تقلبت بك الأحوال، فيوماً أجدك تمجد نضالك الشخصي ضد الديكتاتورية، وتشتم "مناضلي" الفنادق وتطالبهم بالعودة الى الوطن والنضال من هناك، ثم الأغرب من هذا شتمك لكل المقيمين في الخارج، ف"كل عذابات الأدب انه يولد وهو محمل بمحنة المعايشة الداخلية. ترى من أين يتأتى للاديب المغترب أن يجمع صورة اليومي، ويوميته لا تسهم في صياغة مفرداتها، ومن أين يأتي أديب المهجر بالوجع ان هو ألغى لسانه وتجربته ومعارفه، ومن أين يأتي شاعر المنفى بالصورة الشعرية الحقة وهو لم يعش اصوات الناس ونظراتهم اللامستقرة وحركة أقدامهم الماشية بكل اتجاه وصمتهم الممتلئ لغة اسطورية وهواجسهم التي تصنع الأسئلة الأشواك، ترى من أين يملأ أديب المنفى قربه الفارغة من الماء والطين وصوت المارة وحواف الأشياء المنتهية؟"...
وتساءلت مع نفسي: أما كان عليه أن يحدثنا عن هذا الواقع الذي يريدنا أن نتحدث عنه، خصوصاً هو القادم منه تواً! لكنك لم تتحدث، بل انزويت ولم تصف لنا ولا لغيرنا ما حدث، لقد اكتفيت بهذيانات بعد هذيانات وأخذت تردد تلك الأشياء التي تسمنا ب"المتنافين" والمرتزقة وعملاء أميركا الخ... أنت تعرف أننا قرأنا عن هذه الأشياء آنذاك، واستنتجنا في ذلك الوقت ان لا وجود لشيء اسمه الفن للشعب أو الفن للفن، انما كان هناك - كما كنا نقول - ثمة شيء اسمه الأدب الحق، سواء قاله راعي الماعز في أعالي الجبال، كما كان يقول الناقد جورج طومسون، أو شاعر مثل الحلاج أو شارل بودلير أو بلزاك الذي كنا نستشهد به دائماً أو ربما كنا نستشهد بما قاله فلاديمير لينين عن أدبه وكنا نفرح لذلك.
كتاباتك أمامي، النقد المكتوب عنها أيضاً، كتاباتك في الخارج، أصداء اللقاء بك... ماذا تريدني أن أقول؟ حاولت ان أجد شيئاً، بلداً، حدثاً، رائحة اثر لخراب حل أو حرب مرت، حاولت ان استطلع أحوال البيئة التي دمرت تماماً منذ تلك الأيام!
ما زال الماضي القصير هذا لغزاً بالنسبة الّي، لم تسعفني محادثتك بأي شيء، لا شيء لديك لتقوله.
* شاعر عراقي مقيم في ألمانيا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.