لم تكد تصدر رواية الكاتبة الجزائرية أحلام مستغانمي "عابر سرير" حتى نفدت الطبعة الأولى منها. واللافت ان الكاتبة أسست داراً للنشر تحمل اسمها بعد الرواج الشعبي الكبير لروايتيها السابقتين "ذاكرة الجسد" و"فوضى الحواس". وكالعادة انقسمت الآراء حول الرواية الجديدة التي تعتبر ثالثة الثلاثية التي تدور حول الجزائر مأساة وعلاقات. هنا قراءتان مختلفتان في الرواية تحمل كل منهما مقاربة نقدية لعالم أحلام مستغانمي ولغتها وتقنيتها السردية: لم يدر في خلد الكاتبة الجزائرية أحلام مستغانمي حين دفعت بروايتها الأولى "ذاكرة الجسد" قبل عشر سنوات الى المطبعة أنها ستتحول خلال فترة وجيزة الى ظاهرة شبه استثنائية في الكتابة العربية المعاصرة. فمستغانمي القادمة من الشعر والتي بقيت في الظل طوال عقدين من الزمن استطاعت أن تحقق من الشهرة والانتشار و"النجومية"، وعبر رواية واحدة، ما لم يتحقق قبلها لغير قلة نادرة من أمثال نزار قباني وغادة السمان. ولم يسبق لأحد سواها أن طبع من كتاب واحد ثماني عشرة طبعة وأن تهافت على قراءته مئات آلاف القراء في عالم عربي لا ينفر سكانه الكثر من شيء نفورهم من القراءة. ولم يكن ذلك الرواج الذي حققته "ذاكرة الجسد" بفعل صدفة محض أو بفعل نشاط إعلامي صرف أو نتيجة تعاطف شعبي مع معاناة الجزائر فحسب، بل هو إضافة الى كل تلك الأسباب متصل بمستوى الرواية المتميز وبصدقها البالغ ولغتها الشاعرية المتوترة. كان لا بد لذلك النجاح السريع واللافت الذي حققت أحلام مستغانمي في روايتها الأولى أن يحدث بلبلة واسعة في الأوساط الثقافية والإعلامية العربية وأن يثير في وجهها الكثير من الزوابع والأعاصير وصولاً الى التهم والشائعات المختلفة حول الكاتبة من جهة وحول الكتاب نفسه الذي تنازع على "نسبه" أكثر من أب وأم من جهة أخرى. وتزامنت ردود الفعل المتباينة تلك مع صدور رواية مستغانمي الثانية "فوضى الحواس"، التي رأى الكثير من النقاد والمتابعين، وأنا من بينهم، أنها لم ترق في أسلوبها وبنيتها الروائية الى المستوى الذي بلغته الرواية الأولى. الأمر الذي دفع الكثيرين الى ترقب عملها اللاحق بفارغ الصبر وانتظار ما إذا كانت الكاتبة ستستعيد ألقها الروائي من جديد أم ستقتات من ألق روايتها الأولى كما هي الحال لدى الكثير من الكتاب. مدركةً حراجة وضعها ودقته عملت مستغانمي بقلق المبدع وتوجسه على كتابة روايتها الثالثة "عابر سرير" بالكثير من الصبر والتأني الى الحد الذي جعل البعض يعتقدون أن الرواية الجديدة لن تصدر مطلقاً، أو أنها ستكون إذا صدرت عرضة للافتعال والتركيب، التعسف التأليفي. غير أن الأمر جاء بخلاف ذلك تماماً، حيث ان الحكمة العربية الشائعة "رب ضارة نافعة" تنطبق أشد الانطباق على حال مستغانمي التى قلبت المعادلة لمصلحتها وحولت المعاناة التي عاشتها الى فرصة للتأمل والاستبطان واستعادة الثقة بالنفس والكتابة. المعنى والسرد تستعيد "عابر سرير" في الكثير من وجوهها تلك المزاوجة الناجحة بين قوة المعنى وبلاغة السرد، التي شكلت السبب الحقيقي لنجاح "ذاكرة الجسد" ولافتتان آلاف القراء بتلك المفاجأة الروائية البكر. فالفراغات السردية والسيلان البلاغي التي أثقلت "فوضى الحواس" بالكثير من الإطالات النافلة تخلي المكان هنا للبناء الروائي المحكم وللنسيج التعبيري الذي يتوالد بعضه من بعض من دون تعسف أو افتعال. ومع ان الكاتبة تحرص على تقديم الرواية الجديدة بصفتها الجزء الأخير من ثلاثية روائية مترابطة، فإن "عابر سرير" على رغم اتصالها الوثيق بالجزءين السابقين تعمل على قلب المعادلة الروائية برمتها وتنجح في إلباس الشخصيات لبوساً مختلفاً ومباغتاً بما يزلزل مجريات الأحداث ويدفع الوقائع الى بلبلة جديدة موازية للبلبلة الموازية التي يشهدها واقع الجزائر السوريالي. صحيح أن مسرح الرواية لا يزال موزعاً، شأن الكثير من الروايات الجزائرية المشابهة، بين الوطن والمنفى، إلا أن مستغانمي في عملها الجديد تعيد خلط الأوراق في شكل كامل ملبسة الواقع الروائي لبوس الحياة الفعلية ومحولة هذه الأخيرة الى ما يشبه المجاز. نتعرف في الرواية الى مصور جزائري حائز جائزة الصورة العالمية عن صورة يلتقطها لكلب نافق في إحدى المجازر. ذلك المصور المجهول الإسم، شأنه شأن كل الجزائريين المقهورين، يطلق على نفسه اسم خالد بن طوبال بطل "ذاكرة الجسد" وينتقل الى باريس ليتعقب هناك أثر البطل الحقيقي الذي أعطته الرواية اسمه و"مهنته" ودوره. وفي باريس يتعرف خالد بن طوبال المصور الى زيان، الرسام الكهل المصاب بالسرطان والراقد في أحد المستشفيات، ليكتشف عبر رحلة من التقصي المضني أن زيان بدوره ليس سوى الإسم المستعار الآخر لبطل "ذاكرة الجسد". لا يقف التعقب عند ذلك الحد، بل ان التشابك المراوغ بين الكتابة والحياة يسحب نفسه على المرأة الفرنسية فرانسواز التي يصادفها خالد المصور في معرض لرسوم زيان ويقيم معها علاقة عاطفية شهوانية ليكتشف أنها لم تكن سوى كاثرين، عشيقة خالد بن طوبال الفرنسية في "ذاكرة الجسد". أما "حياة" التي تأتي من الجزائر لمقابلة أخيها ناصر المقيم في ألمانيا هرباً من الجحيم الجزائري فقد تكشفت هي الأخرى عن "حياة" الأولى حبيبة زيان خالد بن طوبال الرواية وحبيبة خالد المصور في الوقت ذاته. تتحول "عابر سرير" برمتها الى نوع من رقاص الساعة الذي يتأرجح بين أبطال الرواية وأبطال الحياة وتتبادل الشخصيات أماكنها في حال من الفانتازيا الغريبة والمحيرة. العالم نفسه تتشكل "عابر سرير" من الأثاث نفسه الذي تشكلت منه "ذاكرة الجسد" و"فوضى الحواس" سواء عبر الوقائع والأحداث أو عبر ذاكرة زيان المشرف على الموت والذي يعيدنا بدوره الى صورة زياد الشاعر الفلسطيني الذي يتقاسم معه ثلثي الإسم وكامل النزف بين جرحي الجزائر وفلسطين. لم تكن حياة وفرانسواز أو كاثرين القاسم الوحيد المشترك بين خالد الأول وخالد الثاني بل كان بينهما ما يجعلهما معاً مرآتي الحياة في الفن أو الفن في الحياة، من دون فارق يذكر. فخالد المصور يعكس عبر التصوير الفوتوغرافي جثة الجزائر المنقسمة بين صورة الكلب النافق وصورة الطفل المذعور الذي نجا بأعجوبة من المجزرة المروعة التي أودت بأهله ذبحاً على يد الإرهابيين. وخالد الرسام يعكس عبر رسومه جسور قسنطينة المعلقة بين موتين وأبوابها المواربة التي تنفتح على الحب المستحيل كما على الأمل المستحيل. أما لوحته المميزة "الجسر المعلق" فكانت الثمن الذي لا بد من دفعه لما لا يزيد ثمنه عن كلفة القبر. عبر "عابر سرير" تصفي أحلام مستغانمي حساباتها مع الوطن الذبيح كما مع الثلاثية التي أنهكتها. فحياة، بطلة الثلاثية، بعودتها الى زوجها العسكري تعود الى بيت الطاعة الكابوسي وتتوحد مع "نجمة" بطلة كاتب ياسين المتناهبة من كل جانب والمواراة كذهب الروح البعيد خلف نفايات الأحلام وأكداس المذابح والجثث. أما خالد بن طوبال فيتوزع بين جثة زيان المحملة "متاعاً" على طائرة العودة الى قسنطينة وبين خالد الآخر الذي تحول بدوره الى جثة من الصور. هكذا يتحول الفصل الأخير من الرواية الى زفة لغوية مترعة بالحزن لحلم الجزائر المجهض. وفي بعد رمزي بالغ الدلالة تتحول الطائرة نفسها الى جزائر مصغرة حيث يجلس "خالد" المصور مثقلاً بالوساوس بين عجوز مطلة على الخرف والموت وبين صبية غامضة وشبيهة بالأبواب المواربة في رسوم زيان، فيما يرقد زيان نفسه جثة في أسفل الطائرة. هكذا يتنازع الحب والموت عالم أحلام مستغانمي الروائي. كل منهما يخرج من أحشاء الآخر أو يصب فيه، وكلاهما معاً وجه الجزائر المضرج بوعوده الخاسرة. ثمة من جهة ضجيج للجسد وما ينضح به من رغبات صارخة ونزوع شهواني وثمة من جهة أخرى إعلاء للألم الذي يتعقب الشهوة عند ذراها الأخيرة ويتصيدها في لحظة انكشافها على الوحشة وخواء المصائر. والرواية في جوهرها العميق تقوم على سلسلة من المفارقات التي لا تكف عن التمظهر في غير وجه أو سياق. مفارقة العلاقة بين الحياة والكتابة حيث "تظن أن الحياة تلفقك كتاباً فإذا بكتاب يلفق لك حياة"، وحيث الروايات لا تخلق إلا "لحاجتنا الى مقبرة تنام فيها أحلامنا الموؤودة". ومفارقة العلاقة بين الوفاء والخيانة حيث "أثناء هدر عمرك في الوفاء عليك أن تتوقع أن يغدر بك الجسد، وأن تتنكر لك أعضاؤه. فوفاؤك لجسد آخر ما هو إلا خيانة فاضحة لجسدك". ومفارقة العلاقة بين الخفة والثقل حيث يتحول التاريخ العربي الى مرآب للخردة والأشياء المهملة التي تحول التاريخ الى سلاسل ثقيلة نجرُّها وراءنا فيما يهرع الآخرون الى المستقبل بخفة الطائر ورشاقته. تستعيد أحلام مستغانمي في روايتها الجديدة ذلك التوازن الحاذق بين رشاقة السرد وجمالية التأليف. فاللغة مكثفة ونابضة وغنية بالكنايات والاستعارات ووجوه المجاز. لغة تقطف زهرة الحياة وتحولها الى حكم موجزة وغنية بالدلالات. واذا كان الاحتفاء باللغة مبالغاً فيه بحيث يعوق السرد أو يأتي على حسابه في بعض الأحيان، فإنه في أغلب الأحيان يتساوق مع السرد ويندغم في أحشائه. يبقى القول، أخيراً، ان الأبواب المواربة التي تستعيدها أحلام مستغانمي في غير مكان من الرواية لا تنطبق على متن الرواية فحسب، بل على عنوانها أيضاً. فتسمية "عابر سرير" التي تشي للوهلة الأولى بدلالة جسدية شهوانية سرعان ما تنفتح على دلالات وجودية متصلة بسرير الولادة كما بسريري الحب والموت حيث الناس جميعاً "عابرون في أسرَّة عابرة".