كتبت قبل شهرين، وأنا أقوّم حصاد سنة من الأعمال الأدبية العربية، انني تمنيت لو كانت أحلام مستغانمي كتبت الرواية التي انتظرناها ثلاث سنوات أو أربعاً، لتكمل بها ثلاثية مع "ذاكرة الجسد" و"فوضى الحواس". ولم تخيب أحلام ظنّي، فقد طلعت علينا هذا الشهر برواية "عابر سرير"، وتلقيت منها ما قالت انه أول نسخة من الطبعة الأولى، مع اهداء سيبقى بيننا. وسأقدّم الرواية الجديدة هنا، معترفاً بأنني لا أتعامل مع هذه الروائية الجزائرية الحسناء كناقد، لأنني أفتقر للموضوعية معها، فأنا من حزبها. "عابر سرير" أعادت اليّ بسرعة شعوراً لازمني وأنا انتهي من قراءة "فوضى الحواس"، هو ان نزار قباني معنا. في الرواية الجديدة خالد بن طوبال يشتري فستاناً لامرأة لا يتوقّع عودتها ولا يعرف ماذا فعل الزمان بمقاساتها في غيابه، "الفستان أسود والأسود يصلح ذريعة لكل شيء". تذكرت فوراً "أمس انتهى فستاني التفتا / أرأيت فستاني / حققت فيه جميع ما شئنا / اخترته لوناً حشيشياً / لوناً يشابه لون عينيا..." وهكذا فستان أحلام أسود، وفستان صاحبة نزار أخضر، و"التفتا" في دمشق يصبح "موسلين" في باريس، وبطل رواية أحلام يقول للبائعة "هي ليست قضية ذوق بل قضية ضوء. المهم ليس الشيء بل اسقاطات الضوء عليه". ونزار يتحدث عن "غرغرة الضوء بفسقية"، ويقول: "المطر الأسود في عيني / يتساقط زخّات زخّات". رحل نزار وبقي معنا، من دون ان يرى ما حلّ بأمته بعده، وموضوعي اليوم أحلام مستغانمي، وأسأل القارئ ان يقول لي بمن تذكّره هذه الصياغة "كانت تملك تلك القدرة النادرة على تدبير جريمة قتل بين حبر جملتين، وعلى دفن قارئ أوجده فضوله في جنازة غيره. كل ذلك يحدث اثناء انشغالها بتنظيف سلاح الكلمات...". "عابر سرير" رواية حب مع خلفية الثورة الجزائرية التي أكلت أبناءها، والموت يلازم الحب في كل صفحة، وأحلام مستغانمي حائرة بين هذا وذاك وتطوع الكلمات لتنحت عبارات في العشق من تجربة الحرب، فنقرأ "فك الاشتباك مع عينيها" و"أطلب اللجوء العاطفي في جسدك" و"يشن عليك غارة عشقية" و"انثى منزوعة الفتيل". الروائية الخارجة من الجزائر الى لبنان عبر السوربون تطلع في الفصل الخامس بفلسفة سوداوية، لا تبعد عما قرأنا للألماني آرثر شوبنهاور، والمعنى المتكرر عند أحلام هو ان الثورة تخطّط لها الأقدار وينفذها الأغبياء ويجني ثمارها السرّاق. لست غبياً لأسرق من القارئ متعة قراءة "عابر سرير"، ولكن أقول ان هناك الفستان الأسود يذكرني مرّة أخرى بنزار قباني. فإحدى أولى قصائده هي "مذعورة الفستان لا تهربي"، أما خلط العشق بالموت على خلفية ثقافة فرنسية رفيعة فتعيدني الى قول الشاعر الدمشقي: "اعشق يا حبيبتي / اذن أنا موجود / أكتب يا حبيبتي / فأسترد الزمن المفقود. وأخيراً، فهناك كلمات جزائرية وعبارات متناثرة في النص و"تشتيه" تعني "تحبه"، أما "اشطحي لي" فقد اعتقدت انها طلب لخلع الثياب، الا انني فهمت ان المعنى "ارقصي لي". وضاق المجال، وعندي كتاب آخر وعدت أمس بأن أعرضه على القارئ هو "خلوة الغلبان" للصديق والزميل ابراهيم أصلان. وكنت أعرف ان أخانا ابراهيم أديب كبير قبل ان أقرأ كتابه الأخير، بل قبل ان أقرأ روايته "مالك الحزين"، فشَعره المنكوش وشاربه الضخم لا يمكن ان يكونا الا لأديب. وفي "خلوة الغلبان" يتنقّل ابراهيم أصلان بين قمم من نوع العقاد ونجيب محفوظ والبياتي، وقيعان من نوع زعيط ومعيط ونطاط الحيط، ويبقى السرد متعة في الحالين، مع ظرف هو خصوصية مصرية، ومثله جرأة على اللغة ليست عند "الشوام" مثلي. هناك موضوع عنوانه "عن الاغفاء وفضائله" عن رئيس حكومة متهم بالفساد، لا تصوّره الكاميرا، الا وهو نائم، وابراهيم يعجب ان يحكم رجل بلداً كبيراً وهو نائم. لو سجلت هنا ما فهمت انه قصد ابراهيم أصلان لأنكر بشدّة، وهو يستطيع ان يخرج من بين السطور بمعنى "عدلت فنمت..."، أو بالمعنى المضاد "نوم الظالمين عبادة". ثم هناك أم عبده التي سمعت ان نجيب محفوظ فاز بجائزة نوبل في الآداب، واعتقدت ان الموضوع مثل المقالات الصغيرة، وانه بصفته "الأسطى" بتوع الأدباء سيوزّع الجائزة على "عمّاله" وينال ابراهيم أصلان نصيبه منها. الصبّ تفضحه عيونه، والكاتب يفضحه قلمه، وابراهيم أصلان يروي قصته مع "بنت مغربية صغيرة" في سان اتيان يقول انها "في العشرين تقريباً، خمرية اللون وشعرها أسود، وممتلئة قليلاً، وجسدها جميل وعيناها عربيتان جداً، جلست الى جواري على درجة السلّم بساقيها المصقولتين الدافئتين...". كيف عرف ابراهيم ان ساقيها دافئتان؟ اعتقد انه لو بقي في سان اتيان يوماً آخر لكان "وقع وما حدش سمّى عليه" فالبنت اسمها دليلة، وربما كان انتهى ورأسه على طبق. وهو يختتم بالقول: "اسمك حلو قوي يا دليلة... ودليلة تعلّقت برقبتي رقبة ابراهيم لا رقبتي أنا وعانقتني وارتاحت برأسها قليلاً على صدري، وتراجعت بوجهها الخمري الجميل... كانت تبتسم وتغالب البكاء". هذا الفصل من كتاب ابراهيم أصلان كان سيجد مكانه الطبيعي في رواية أحلام مستغانمي. جهاد الخازن