1 لا لم أحضر دروساً أو محاضرات لطه حسين ولم أتتلمذ له على النحو المعروف. لكنني تعلمت منه الكثير الكثير وأنا بعد في مطلع شبابي، وتابعت مقالاته وكتبه بعد ذلك. كنت بعد طالباً في دار المعلمين بالقدس في أواسط العقد الثاني من عمري لما عرفت هذا الكاتب - في الهلال، إذ كان يكتب عن قادة الفكر. وجدتني، إذ أقرأ مقالاته، أشعر بأنني أسير مع كاتب من نوع جديد، يربطك به لأنه يكتب كأنه يحدثك: لغة ممتازة، أسلوب طلي، لا تشعر بالتعقيد ولا بالصعوبات التي كنت تتعرض لها إذ تقرأ كتّاباً آخرين ظهروا في مصر أيامها. أحسب أن أول كتاب قرأته لطه حسين هو ذكرى أبي العلاء، وقد كانت رسالته للدكتوراه من الجامعة الأهلية في القاهرة. وأنا معجب بأبي العلاء، فكان هذا الكتاب يحمل صورة للشاعر الكبير، حملتني على ازدياد الحب والاحترام له. 2 وتوالت بعد ذلك، أثناء عملي التعليمي في عكا، قراءاتي لطه حسين. أظن انه في تلك الأثناء كان ينشر في الهلال مقالاً شهرياً يحلل فيه واحدة من التمثيليات العالمية. لكن أهم من ذلك الكتب التي صدرت له. ولست أشك في أن "الأيام" الأول، الذي كان القسط الأول من سيرته، كان كتاباً له في نفس كل من قرأه وقع خاص. قد تكون حياة طه حسين هي المدعاة للاعتبار، وقد يكون أسلوبه سبباً للاهتمام وقد يكون صدقه في تصوير الحياة دافعاً للعناية بالكتاب. وقد عثرت في "الأيام" الأول على هذه الأمور جمعاء. وإذا كنت بحاجة الى من يحملني على التعلق باحتمال حصولي على دراسة جامعية وقد كان الطموح قوياً عندي فإن "الأيام" كان له أثر في نفسي - أثر شخصي لعله لم يساور الكثيرين. كنت حريصاً، وأنا في عكا أن أقرأ كل ما يمكن الحصول عليه من كتب طه حسين. وإذا بي، سنة 1926، أقع على "في الشعر الجاهلي". هذا الكتاب، فضلاً عما زودني به من معلومات أو آراء، ادخل في صميم تفكيري ان ثمة أملاً كبيراً في أن نسير فكرياً الى الأمام، متابعين النهضة العربية التي كانت بدأت في القرن التاسع عشر، لأن الرجل أعرب عن آرائه بحرية ووضوح. وأود ان أشير هنا الى أنني أظن قد قرأت كل ما كتب في نقد الشعر الجاهلي: من مقالات محمد لطفي جمعة المحامي التي نشرها في "المقطم" ثم جمعها في كتاب الى ما وضعه محمد أحمد الغمراوي، مدرس الكيمياء في المدرسة السعيدية بالقاهرة من نقد علمي دقيق الى سوى هذين، حتى الى نقد ابراهيم عبدالقادر المازني التهكمي. ولعل من أطرف ما قرأت يومها رسالة قصيرة ارسل بها شخص الى "المقطم" ووقعها بعد اسمه، "أزهري سابق"، وخلاصتها هي: انني قرأت كتاباً في الشعر الجاهلي ولم أعثر فيه على ما يدين المؤلف بالكفر أو ما يشبه ذلك - أرجو من الذين يعرفون ان يدلوني على ذلك. لا أدري اذا كان الكاتب جاداً في سؤاله أو ناقداً عادياً، عبر عن وجهة نظره بهذه العبارة. الكتاب أثار ضجة كبيرة كانت الأولى التي عرفتها وعشتها شخصياً لعلها لم تقل عن الضجة التي أثارها الشيخ محمد عبده - في منار السيد رشيد رضا - ضد انطون في فترة سابقة. كانت قراءة هذه الانتقادات، بقطع النظر عن درجات الكتّاب وأسلوبهم، درساً لي: اننا نحن بعد بعيدون عن التفكير الحر وأقرب الى التكفير العنيف. وكانت نتيجة الحملة على "في الشعر الجاهلي"، "في الأدب الجاهلي" لطه حسين الذي نشر سنة 1927، وقال عنه في مقدمته انه هذا هو كتاب العام الماضي وقد حذف منه فصل وأضيفت اليه أمور أخرى. 3 المهم، بالنسبة إلي، انني ظللت معجباً بالرجل - لا بتعدد هواياته الكتابية فحسب، ولا بتعدد الموضوعات الفكرية التي كان يثيرها، بل بهذه المقدرة العجيبة، التي كنت أحس بها عندما أنتهي من واحد من كتبه، التي تمكنه من أن يصل الى أعماق فكرك أو شغاف قلبك أو محط آمالك أو آلامك، لأنه عميق في تفكيره بالحياة، مخلص في ما يقول، طبيعي في اتصاله بك، لا يختفي وراء إصبعه ليقول شيئاً لا يؤمن به. ثمة من يأخذ على الرجل تبديله موقفه السياسي بانتقاله من حزب الى حزب. هذا كان آخر ما يهمني في ما يتعلق بطه حسين. فأنا حصتي المفكر الأديب المنعش النفسي والفكري في كتابته وأسلوبه. في سنة 1933 كنت في زيارة الى القاهرة كانت الأولى عرفت ان طه حسين سيكون رئيس لجنة لمناقشة طالب ماجستير في الأدب العربي. ذهبت لحضور المناقشة التي كانت في مدرج كلية الآداب في جامعة فؤاد الأول كما كانت تسمى يومها، وهي جامعة القاهرة اليوم. جاء دور طه حسين. بدأ بالصوت الواضح البيّن، يأخذ الطالب باللين حيناً وبالشدة حيناً آخر. أشار الى مواقع الاصابة في الرسالة ونبه الى أماكن الخطأ أو الزلل، وكان له لوم خفيف للطالب لأنه وهو يكتب في موضوع أدبي سمح لنفسه أن يكون أسلوبه دون المستوى الذي يستحقه الموضوع. تكلم الآخرون. ثم أعطي الطالب مجالاً الرد. لاحظت على بعض أعضاء اللجنة تبرمهم كلما رد الطالب لكن طه حسين لم يتبرم. تبسم وهز رأسه. وذهبت اللجنة لمناقشة الرأي واعطاء النتيجة. وإذا بالطالب ينال الماجستير ويؤمل له أن ينتقل الى الدكتوراه، على أن يفيد من بعض ما وجه اليه من نقد. 4 في سنة 1935 أثار طه حسين عاصفة أخرى، كانت من نوع آخر، وكانت الردود، في بعض الأحوال، أقسى من الردود على الشعر الجاهلي. كان الكتاب "مستقبل الثقافة في مصر". ورد طه حسين على بعض ما وجه له من نقد، لكنه تجنب الرد على اتهامه بأنه تنكر لأصل الثقافة المصرية وهي عربية اسلامية أصلاً، وأراد لمصر أن تتجه نحو الثقافة الغربية لأن مصر جزء من ثقافة البحر المتوسط المنفتحة، لا من ثقافة بدا له انها كانت تحيط نفسها بجدار يجعلها منغلقة. رحم الله طه حسين فكم تعلمت منه وعليه.