1 أيامي في عكا امتدت من 1925 - 1926، حيث كنت أدرّس في المدرسة الثانوية فيها. وعكا لمن لا يعرفها، أو نسيها، مدينة صغيرة تقبع على شاطئ البحر على نحو 18 كيلومتراً الى الشمال من حيفا. كانت يومها هادئة ثقافياً، صاخبة اجتماعياً على أساس زيارات خاصة أو تجمعات في أيام المواسم. في تلك السنوات كانت الكتب والمجلات والصحف تردنا من مصر باستمرار، لكن يجب أن نطلب من بائع الصحف المتجول أن يضمن وصولها من الوكيل في حيفا. وكنت أنا قد نشأت طُلَعَة فكنت - فضلاً عما أقوم به من قراءة كتب تتعلق بالموضوع الذي أدرسه في المدرسة - أحفل كثيراً بهذا النوع من الأدب الذي كان جديداً ومفيداً لي. ولنترك الآن الكتب جانباً، ولنتحدث عن المجلات والصحف الأسبوعية وبعض الصحف اليومية. كنت قد اعتدت قراءة المقتطف والهلال في دار المعلمين، ومن الغريب ان ادارة المعارف كانت قد اشتركت بالمقتطف الذي كان يرسل للمدارس الثانوية. لكن الباقي كنت أبتاعه بانتظام من البائع المتجول. كانت المقتطف المصدر الرئيسي في اللغة العربية للنواحي العلمية. ولست أنوي أن أعدد هنا المواضيع التي كنت أعنى بها خاصة في هذه المجلة، فلذلك مناسبة أخرى. وكانت مجلة الهلال مصدراً للتاريخ والتطورات الفكرية. في هاتين المجلتين تعرفت الى اسماعيل مظهر وسلامة موسى وسواهما. وكان البلاغ الأسبوعي سبيلي الى التعرف على النتاج الأدبي الحديث في مصر. ففيه قرأت لمصطفى صادق الرافعي والسباعي الذي كان يترجم الى العربية قصصاً روسية قصيرة منقولة عن ترجمة انكليزية من دون أن يشير الى ذلك. وقرأت بشيء من السرور المقالات التي كتبها مصطفى صادق الرافعي في عباس محمود العقاد منتقداً له بعنوان "العقاد على السفّود" والسفّود هو القضيب الذي كان يغرس في الدجاجة بعد تنظيفها لشيها. وقد نال منه الكثير. وكنت أنا أستمتع بهذه المقالات لأنني كنت قد أدركت ان العقاد، فضلاً عن انه كان متعجرفاً، لا يعجبه الكتاب المحدثون، فإنه، كما اكتشفت، لم يكن كاتباً مبتكراً بل كان يقرأ الكتاب باللغة الانكليزية فيهضمه ويعيد كتابته مقالاً أو أكثر، من دون أن يشير الى مصدره ولو اشارة عابرة. فهو كالصهريج الذي يمتلئ فيفتح الحنفية أو الصنبورة كما يقولون في مصر ويصب الماء المخزون فيه. أنا أعرف ان الكثيرين ممن يقرأون هذا المقال لن يعجبهم هذا القول، ولكنني كونت هذا الرأي عن عباس محمود العقاد في تلك الأيام وزاد اقتناعي بذلك في ما بعد لأنني كنت قرأت الكثير من مقالاته بالعربية، فوجدت أكثر من مرة ان الآراء مأخوذة من كتاب معين كنت أنا قد قرأته. وكان ممن تعرفت اليه قراءة في تلك الأيام وقرأته في ما بعد ابرهيم عبدالقادر المازني. الذي لم يكن باستطاعتك ان تقرأ مقالاً له من دون أن تضحك، وقد تغرق في الضحك، لكن المقال كان يتناول موضوعاً في غاية الجد - احاطة وعمقاً في الرأي وسلاسة في التعبير. وكنا نقرأ مجلات أخرى كثيرة. 2 ولما ظهرت السياسة الأسبوعية فإنني شعرت أنني أمام مدرسة فيها كبار العلماء لا في مجلة يكتب فيها أدباء فحسب. كان رئيس تحريرها محمد حسين هيكل أرجو أن لا يخطئ صفيف الحروف فيظن أنني أخطأت فيذكر اسمه محمد حسنين هيكل - لا اسمه محمد حسين هيكل الذي كان في مقدمة الكتاب الليبراليين في تلك الفترة. ولست أحس أنه واحد ممن يستحق أن يضع مقالاً في ناحية من نواحي الأدب أو السياسة أو العلم أو الطب أو الفلسفة، لم يكتب فيها خلال السنوات الست التي انتشرت هذه المجلة. كانت مدرسة. لم تكن هي الوحيدة التي كانت مدرسة من مجلات تلك الأيام وصحفها، إلا أنها كانت مدرسة جامعة، وكانت أسبوعية. وأهم من هذا انها كانت رخيصة السعر نسبياً، حتى بعد نقلها من القاهرة الى عكا. وقد اتحدث عنها لقراء "الحياة" يوماً ما. وكنت إذا مللت من القراءة الجدية، أو تعبت على الأصح، ألجأ الى ابرهيم عبدالقادر المازني، لأروح عن نفسي وفكري فأُفيد وأفكر، لكنني كنت أضحك ملء أشداقي لا شدقي فحسب. 3 ان الذي أثار فيّ هذه الذكريات الممتعة لي على الأقل هو ظهور كتاب المازني "صندوق الدنيا" في سلسلة كتاب للجميع. قرأت الكتاب كله. وضحكت كما لم أضحك منذ مدة وحدي. تذكرت الكثير من مقالات المازني، بأسلوبه الفكه الناقد المؤلم أحياناً لكنه كإبرة الطبيب التي تحتاجها في هجمة مرضية تفيدك. ولست أعتزم الحديث عن الكتاب هنا، بل أكتفي بالقول ان المازني يختار شخصية - قد تكون قائمة أو مختلقة - فيبني حولها مقالاً فيه الكثير الكثير من نقد المجتمع والناس، لكن ما قلت، لم يكن الغرض الهزء من المجتمع والناس، بل نقد تصرفات في المجتمعات الصغيرة أو الكبيرة، فتراه في جوهره في غاية الجد والعمق والتفهم لمجتمعه وحاجاته. وأذكر على وجه الخصوص مقالاً كتبه المازني في نقد كتاب طه حسين "في الشعر الجاهلي" الذي صدر سنة 1926. أثار الكتاب ضجة كبيرة بين الأدباء ومؤرخي الأدب والمؤمنين إذ عثروا فيه على ما أساء الى الإسلام، بحيث ان الرجل اتهم بالكفر. أنا قرأت يومها كل ما كتب في نقد "في الشعر الجاهلي" سواء أكان ذلك كتباً - صغيرة أو كبيرة - أو مقالات. كنت أحب طه حسين، وكنت أحب أن أتفهم الدوافع التي أدت بالناس الى هذا النقد الحاد أحياناً، والهادئ المنتظم أحياناً أخرى. كتب ابرهيم عبدالقادر المازني مقالاً ينقد فيه "في الشعر الجاهلي" كان لاذعاً جداً، لكنه لم يُسِفَّ أبداً. كان طه حسين مما أخذه على بعض شعراء الجاهلية تعدد الأسماء وتعدد الأماكن التي عاشوا فيها وتناقض الروايات كي ينهي الى القول بأن الشعر الجاهلي كان متحولاً، وأنه كتب في العصور الإسلامية المبكرة. لجأ المازني الى الأسلوب نفسه فقال ما خلاصته: نقرأ في الصحف أن ثمة طالباً أزهرياً اسمه الشيخ طه حسين يعتمر العمة ويلبس ثياب الأزهريين. ولكنه أساء الأدب يوماً في أحد الدروس، فأخرج من الأزهر. انضم بعد ذلك الى الجامعة الأهلية، فأصبح يلبس بذلة عادية وسمي طه حسين افندي. وفي هذه الجامعة حصل على دكتوراه فأصبح يشار اليه باسم الدكتور طه حسين. وأتيح له أن يذهب الى باريس في بعثة علمية فكان يشار اليه باسم مسيو "طه حسين"، وزاد على هذه الناحية الفرنسية أنه تزوج بسيدة فرنسية فأصبح العائلة "مسيو ومدام". وينتهي المازني الى القول - بعد أن يكون قد زخرف كل مرحلة من المراحل التي ذكرها بتوضيح كبير للعمل والحياة التي عاشها طه حسين - نعم ينتهي الى القول بأننا إذا طبقنا قاعدته في الشعر الجاهلي على سيرته، فإننا ننتهي الى القول بأن هذا يدل على ان طه حسين لم يكن موجوداً قط وان الكتاب اخترعوه ليجعلوا منه تُكأة للحديث في موضوع الشعر الجاهلي - كل على ما يهتم به. وكان مقال المازني في طه حسين الفكاهي من اقذع ما كتب في الرجل وكتابه - لكنه كان اقذاعاً مؤدباً. رحم الله تلك الأيام.