يحتفل العقيد معمر القذافي في الأول من أيلول سبتمبر ومنذ 1969، بذكرى قيام الثورة. كما يُلقي كعادته في مثل هذه المناسبة خطاباً يتعمد من خلاله توجيه رسائل متعددة الاتجاهات نحو الخارج، متضمناً في الوقت نفسه ايحاءات بالخطوط العريضة للسياسات الداخلية التي يتوجب فيها على "المؤتمرات الشعبية الأساسية" القاعدية مناقشتها، ومن ثم، رفعها بتوصيات الى مؤتمر الشعب العام البرلمان لاعتمادها في بداية السنة اللاحقة. يُشار الى انه منذ بداية عقد الثمانينات وحتى اليوم، لم يشذ أي مؤتمر من هذه المؤتمرات، ولا أية لجنة من اللجان، شعبية كانت أم ثورية، عن المضمون الوارد في هذه الايحاءات. كما لم يجرؤ أي من مسؤوليها أو مقرريها، طلب استفسارات أو ايضاحات اضافية، خصوصاً ما يتعلق بالشأن الاقتصادي والمالي، أو ما يمس من قريب أو من بعيد بقطاعي النفط والاستثمارات، اللذين لا يزالان يعتبران من الخطوط الحمر حتى الساعة. ويعطي أحد المسؤولين الليبيين تبريراً لهذا الواقع بالتالي: في جماهيريتنا، لا تزال "السلطة والمال والسلاح" بيد الشعب "الشريك لا الأجير"، حسب مقولات الكتاب الأخضر. فطالما لم يطرأ أي تغيير على هذه المفاهيم وهذه الثوابت، فالذي من حقه أن يحاسب هو الشعب وحده. انطلاقاً من هذه النظرية، لم تشر الموازنات الصادرة عن الحكومات المتعاقبة، التي تم تغييب بعضها خلال سنوات بحجة ضغوطات الحصار الاقتصادي المفروض من قبل مجلس الامن للحجم الفعلي لعائدات الجماهيرية من الهيدروكربورات، ولا لمردود الاستثمارات الخارجية، التي نجحت فيها الأذرع المالية المتعددة، في طليعتها مجموعة "لافيكو" الشركة العربية الليبية للاستثمار الخارجي أو شركة "أويل انفست" الشركة الأم للاستثمارات النفطية، التي تتخذ من ميلانو الصناعية الايطالية مركزاً لأنشطتها الدولية. وكل ما رُشح حتى الآن، كان بمثابة أرقام، من الصعب بل من المستحيل التثبت من دقتها، الشيء الذي كان على ما يبدو مقصوداً من قبل السلطات الليبية المختصة الأمر الذي دفع بخبراء المؤسسات المالية العالمية مثل البنك وصندوق النقل الدوليين، لصرف النظر عن متابعة تطور اقتصاد هذا البلد. وندرة المعلومات وانتفاء الخطط الخمسية أو العشرية المتعارف عليها من جهة ومن جهة أخرى، التضليل المتعمد في كشف القيمة الفعلية للعائدات النفطية والاستثمارية، عزز القناعة لدى أصحاب القرار في المؤسسات المذكورة بتجميد كل الدراسات المتعلقة بهذا البلد حتى إشعار آخر. كما لم تؤد الزيارة التي قام بها وفد من صندوق النقد الدولي، للمرة الاولى منذ تطبيق الحصار، في آذار مارس الماضي الى تحقيق أية نتائج تُذكر على صعيد الحصول على معلومات اقتصادية ومالية موضوعية. وساهمت قوة الاقتصاد الليبي، كون هذا البلد غير مدين، لأي من المؤسسات المالية العالمية، ولا للصناديق الاقليمية ولا حتى لمصارف الأعمال المتخصصة، بالتحكم في مصادر المعلومات وكيفية نشرها وتعطيل فاعلية جميع الذين حاولوا تتبع مسار هذا الاقتصاد عن كثب وكشف أرقامه الفعلية. وقائع وتبريرات في بداية شباط فبراير 2002، أعلن رئيس الوزراء الليبي، مبارك عبدالله الشامخ، ان ليبيا التي تستعد لتحرير اقتصادها بعد اعوام من العقوبات الدولية، ضاعفت حجم الانفاق العام للدولة، المدرج في الموازنة لسنة 2002 الى 4.357 بليون دينار 3.35 بليون دولار في حينه، أي قبل خفض هذه العملة بنسبة 51 في المئة. وأضاف الشامخ ان بلاده تستعد للسماح للمرة الأولى بتجارة الترانزيت في مناطق تجارية حرة جديدة للاستفادة من موقعها الجغرافي كجسر بين أوروبا والقارة الافريقية التي باتت الدائرة الرئيسية لاستهداف العقيد القذافي. وقال إن جملة من الخطوات، لم يعلن مع ذلك عنها، اتخذت، طبقاً لتوجيهات "القائد" بهدف جعل مستويات معيشة المواطنين في البلاد ونصيب الفرد الواحد من الدخل القومي قريباً مما هو سائد في الدول الصناعية عبر توزيع نسبة من المداخيل النفطية على العائلات الليبية. لكن، في المقابل، لم يعط المسؤول الليبي أية فكرة عن هذا الدخل، في حين لم تتمكن المؤسسات المالية المتخصصة: مثل "ساتشي" الايطالية أو "كوفاس" الفرنسية من اعطاء أية تقديرات بهذا الشأن. وبشكل مواز، كشفت مصادر مسؤولة في "المصرف العربي الليبي الخارجي"، كذلك بعض المقربين من سيف الاسلام معمر القذافي، الذي صعد نجمه في الآونة الأخيرة، وبات الى جانب أخيه الساعدي من الاشخاص الأساسيين في تركيبة النظام على رغم النفي الرسمي والشخصي الأول في مجال النفط والغاز، والثاني في ميدان الاستثمارات، خصوصاً من والى ايطاليا، حيث أدخله "جياني أنييلي" مجدداً الى مجموعة "فيات" و"بنكا دي روما" وحتى نادي "جوفنتوس" لكرة القدم، عن وجود خطة استثمارية بقيمة 24 بليون دولار للعقد المقبل. وتركز هذه الخطة على تطوير قطاع النفط والغاز والبتروكيماويات والاتصالات والبنى التحتية والسياحة. كما ألمحت الى أن تحرير التجارة في السوق المحلية بات أمراً محسوماً على رغم معارضة بعض أطراف النظام المتضررين من التحول الاقتصادي. الآن، وبعد مرور ستة شهور على اعلان قرارات خفض العملة بنسبة 51 في المئة، والرسوم الجمركية ب50 في المئة، لم يلمس المتعامل مع السوق الليبية أي تحول مهم يؤكد التحرير التدرجي للاقتصاد الليبي على النحو الذي التزمت به الحكومة ولو بشروط. كما ليس هنالك ما يُدل عملياً على تبدل اسلوب المصارف لناحية تقديم التسهيلات التي تساعد بفتح أبواب الاستيراد أمام القطاع الخاص الذي لا يزال يشكو من احتكار "المنشآت الشعبية" و"التشاركيات" لغالبية المنتجات المدعومة وغيرها. ولم تظهر كذلك اية مؤشرات على انتهاج الحكم طريق الشفافية التي يتطلبها اقتصاد السوق سواء لناحية نشر القيمة الفعلية للعائدات من النفط والغاز وحتى البتروكيماويات التي باتت تشكل مصدر الدخل الثالث في البلاد أو لناحية حجم الاحتياطات بالعملات الأجنبية والذهب الذي يتجنب المصرف المركزي الليبي الاعلان عنها كاملة. في هذا الاطار، شككت المؤسسات المالية العالمية بالتسريبات المتعلقة بهذه الجوانب، معتبرة اياها أقل بكثير من الواقع، خصوصاً أنه لم تعد لدى ليبيا ذرائع تستخدمها بعد رفع الحصار عنها وارتفاع أسعار النفط في الاعوام الثلاثة الأخيرة. يضاف الى ذلك أن طرابلس الغرب لا تعاني من عجز بنيوي في موازنتها على غرار دول "اوبك" العربية الأخرى، اذ انها عادت ابتداء من عام 1997 من تحقيق فائض منتظم. من ناحية أخرى، لم يسمع أي ليبي حتى الآن بقيام الدولة بتوزيع نسب من عائدات النفط على العائلات لرفع مستواها المعيشي أو تحسين قوتها الشرائية، بل بقي مستوى دخل الفرد مراوحاً مكانه بحيث لا يتوهم أحد بأن يصل في المدى القصير وحتى المتوسط الى مستوى الدول الصناعية المتواجدة في أسفل الهرم. ذلك في الوقت الذي لم يتضاعف حجم الانفاق الاستثماري في مشاريع تخلق فرص عمل جديدة، وتخفف من حجم البطالة الزاحفة في أوساط الشبان التي يتجاوز معدلها 26 في المئة. ولم تعد شريحة كبيرة من المجتمع الليبي تقتنع بالتبريرات التي يقدمها المسؤولون، كما كان الحال خلال الحصار الاقتصادي، لجهة ضرورة "الاحتفاظ بالقرش الأبيض لليوم الأسود وشد الأحزمة"، أو السكوت والاكتفاء بالحفاظ على المكاسب الاجتماعية التي حققتها الثورة مثل مجانية التعليم والطبابة والبيت لسكانه، بل أصبحت تطالب بنشر قيمة العائدات من النفط كما تفعل الجزائر التي ذكرت احصاءات وزارة المال بأن عائداتها لهذه السنة ستصل الى حدود 20 بليون دولار. وذهب الليبيون الى أبعد من ذلك في المطالبة باصلاح الاقتصاد من أساسه والقضاء على الرشوة وابعاد مراكز القوى المستفيدة منذ زمن بعيد من الامتيازات على حساب مستويات معيشتها. في سياق هذه التبريرات، يطلب المسؤولون الليبيون، التكنوقراط الجدد منهم خصوصاً، مزيداً من الوقت لادخال التعديلات اللازمة عليها وانجاز ما يمكن على صعيد تحرير الاقتصاد بأقل خضات ممكنة. ويرى هؤلاء بأن فترة ستة شهور هي قصيرة بالمقارنة مع خطورة النقلة النوعية المطلوبة وأهمية القرارات المتخذة سواء لناحية خفض قيمة الدينار أو الرسوم الجمركية، أو بناء مناطق حرة. على أية حال، فإن التأخير الحاصل، وعدم الحديث عن هذه المواضيع من قبل القيادة الليبية، تحديداً العقيد القذافي، والاهتمام المكثف مجدداً بشؤون وشجون القارة الافريقية، بدأت بالتحول الى خيبة أمل لدى المواطنين والقطاع الخاص غير المرتبط بالنظام. لسنا بحاجة لمال من أحد وعلى رغم هذا التشخيص يجمع الاقتصاديون والمحللون الماليون في مصارف الأعمال الأوروبية على القول بأن متانة الاقتصاد الليبي مسألة لا يختلف عليها اثنان. فهذا الأخير غير خاضع البتة كغيره من الاقتصادات الريعية العربية لضغوطات نظراً لعدم وجود ديون عالقة لديه، ولا يتعرض لزيادة ديموغرافية ملحوظة، وتمكنه من خفض موازنات القطاعات غير المنتجة مثل الدفاع التي وصلت عام 2001 الى أقل من 5 في المئة بعدما كانت في وقت من الأوقات تتجاوز ال20 في المئة. وإذا كانت تبعيته للنفط وهمية الى حد كبير، إلا أنه تمكن في الاعوام الأخيرة من تقليصها عبر زيادة عائداته غير النفطية من خلال تطوير زراعته ومحاولة ايجاد بنيات جديدة تُدر مداخيل أخرى، كمجال الصيد البحري والسياحة. ويبقى ميدان الهيدروكربورات مميزاً، بحيث أظهرت الأبحاث بأن احتياطات ليبيا من النفط في نهاية 2001 تصل الى 29.5 بليون برميل، يمكن أن تزيد لتلامس عتبة ال35 بليون برميل نهاية 2005. كما وصل انتاجها الى 1.425 مليون برميل يومياً. ووصل انتاجها من الغاز الطبيعي الى 11.15 بليون متر مكعب في الفترة نفسها، في حين بلغت صادراتها منه 6.7 بليون متر مكعب. من ناحية ثانية، أعادت مجموعاتها الاستثمارية صياغة توزيعها الجغرافي بمساعدة الشركاء الاستراتيجيين الايطاليين بحيث سجلت اختراقات في أسواق جديدة منها ماليزيا واستراليا وكوريا الجنوبية. هذا، في حين تؤكد بعض المصادر المقربة من مجموعة "لافيكو" من أن ايرادات ليبيا من استثماراتها الخارجية بلغت 6 بلايين دولار العام الماضي، ما يصر على نفيه المسؤولون بشكل قاطع. ويتوقع بعض الأوساط الليبية المطلعة ان تصل جملة العائدات الى 24 بليون دولار نهاية السنة، في حين تؤكد مصادر وزارة المال بأنها لا تتجاوز ال16 بليون دولار. على أية حال، يتوقع المراقبون أن يعود العقيد القذافي وفريق عمله الاقتصادي والمالي الى التذكير بالنهج الانفتاحي الذي اعلن العام الماضي لناحية تحرير الاقتصاد والدخول تدريجاً "من دون هرولة"، حسب قوله في احدى الجلسات أخيراً، في اقتصاد السوق. هذا، مع الاشارة على الدوام بأن "الجماهيرية العظمى" وشعبها ليسا بحاجة لمال من أحد، بل ان الآخرين هم بحاجة لمالها وثرواتها الطبيعية. هذا ما ندركه جيداً ونعمل على أساسه، يضيف الزعيم الليبي. ومهما كانت أهمية الاقتصاد الليبي ومتانته، وأياً تكن أبعاد الوعود وعدم الحاجة للمال من أحد، يبقى اصلاح الاقتصاد الليبي وتحريره وتنقيته من الشوائب العالقة فيه بفعل مرور الزمن والممارسات الخاطئة للبعض ضرورة لا غنى عنها. لكن يبدو ان القرار السياسي لم يُتخذ نهائياً بعد في هذا الشأن، كما ان الانتقال بسرعة من الاقتصاد الموجه الى اقتصاد السوق، ولو بحدود، يتطلب الحصول على ضمانات كافية. هذا ما لم تحصل عليه طرابلس الغرب حتى الآن، فالأنظار ما زالت تتجه للولايات المتحدة الأميركية. * اقتصادي لبناني.