أقر مؤتمر الشعب العام، وهو اعلى سلطة تشريعية في ليبيا، في 15 كانون الاول ديسمبر الماضي موازنة تقشف لسنة 1999 حدد حجمها ب 4.9 بليون دينار 10.9 بليون دولار بالسعر الرسمي وهو مستوى يقل عن حجم موازنة العام الماضي التي بلغت 5.311 بليون دينار. وعزا المؤتمر السبب الرئيسي الى انهيار اسعار النفط. من جهة اخرى، اعلن وزير المال محمد بيت المال، ان الحكومة خفضت الانفاق على المشاريع الاستثمارية بنسبة 80 في المئة باستثناء المتعلقة منها بصناعة النفط وبعض برامج توليد الكهرباء خصوصاً بناء محطة "مليتا" لخفض العجز الى نحو 650 مليون دينار. وذكر بيت المال ان اجراءات عدة لزيادة العائدات، منها زيادة الضرائب والرسوم الجمركية وخفض النفقات الخارجية ستتخذ بهدف عدم اللجوء الى زيادة الدين المحلي او الاضرار الى السحب من احتياطات البلاد، والتي لم يعرف حجمها الفعلي منذ قيام ثورة الفاتح من ايلول سبتمبر 1969. في غضون ذلك، اعاد العقيد معمر القذافي التذكير بمضمون الخطاب الذي القاه في 31 آب اغسطس عام 1992 عندما اوضح ان العائدات النفطية اصبحت غير كافية لسد احتياجات القطاع العام والصحة والتربية ودعا الشعب الليبي الى شد الحزام وغضّ النظر عن السفر للخارج، الامر الذي كان يتيح صرف 500 دولار لكل اسرة ليبية. امام هذه المعطيات المستجدة يطرح السؤال التالي: ما هي الاسباب الحقيقية التي دفعت القيادة الليبية الى اتخاذ هذه الاجراءات دفعة واحدة خصوصاً وقت كانت تستعد، ولو نظرياً، للخروج من نفق ازمة لوكربي وامكان رفع الحصار الاقتصادي؟ يجيب عدد من خبراء مؤسسات تقويم المخاطر في اوروبا على السؤال بالقول ان الهدف الرئيسي من وراء خفض قيمة الدينار هو التصدي في شكل مباشر لنفوذ القوى التي تقف وراء السوق التي بدأت منذ فترة، ونتيجة هيمنتها الزائدة في تهديد آلية السوق النقدية في ليبيا. أما خبراء صندوق النقد الدولي فيرون ان الحديث عن التوثيق ووقف صرف الدولارات السياحية في الخارج والتهويل بهبوط عائدات ليبيا النفطية بنسبة 36 في المئة هو بالدرجة الاولى التفاف على المطالب الشعبية التي تزايدت في الاشهر الستة الاخيرة نتيجة التأخير في سداد الرواتب. ورأى هؤلاء الخبراء ان وضعية الاقتصاد الليبي الذي لم يشك من اي عجز في موازنته خلال العامين الماضيين لا تستدعي على الاطلاق اللجوء الى هذا التشدد. حقائق وارقام على رغم التصريحات التشاؤمية الصادرة عن بعض المسؤولين الليبيين بين الحين والآخر، يمكن القول ان السياسة الاقتصادية "الحذرة" المعتمدة خلال الاعوام الثلاث الماضية اعطت ثمارها. ففي عام 1997 ارتفع اجمالي الناتج القومي الى 40.6 بليون دولار، اي نحو 7800 دولار نسبة للقوة الشرائية. ما يضع الجماهيرية الليبية في المرتبة الاوىل بين اقرانها الافريقية لجهة مستوى دخل الفرد، وفي المرتبة الثانية بين دول جنوب البحر الابيض المتوسط بعد اسرائيلي 13600 دولار. من جهة اخرى، لم يعد قطاع النفط الذي كان يمثل 65 في المئة من مكونات اجمالي ناتج الدخل القومي يشكل اكثر من 20 في المئة عام 1997. ويعود ذلك، من جهة الى الجهود التي بذلتها السلطات المختصة لتنويع مصادر الدخل، اذ خصصت اجزاء مهمة من موازنات الاعوام الاخيرة لتنمية قطاعات الزراعة والصناعة، ومن جهة اخرى الى التحول الموضوعي للاقتصاد الليبي في اتجاه قطاع الخدمات. ففيما بلغت العائدات من النفط اكثر من 12 بليون دولار عام 1977 الارقام الرسمية المعلنة لا تتجاوز الثمانية ملايين، لا تشير الحكومة في المقابل الى المداخيل التي يحققها قطاع البتروكيماويات الذي شهد في هذه المرحلة توسعاً ملحوظاً وزيادة ضخمة في الانتاج ونقلة نوعية في التسويق. بالنسبة للقطاع الزراعي الذي تتضاعف صادراته شهرياً منذ عام 1995. ولا تشير التقارير المالية الليبية لا من قريب ولا من بعيد الى ايرادات الاستثمارات الخارجية التي تشرف عليها "مؤسسة الاستثمارات العربية الليبية" المعروفة باسم "لافيكو"، والتي تقدرها مصارف الاعمال الغربية بنحو ثلاثة بلايين دولار، سنوياً، كذلك الارباح التي يجنيها المصرف الليبي الخارجي او مجموعة "اويل انفست"، ذراع الاستثمارات النفطية الخارجية الليبية. ومن المؤشرات الاخرى على ثبات الاقتصاد الليبي، التحسن الملموس للمالية العامة للبلاد. في هذا الاطار، تؤكد مصادر مطلعة في البنك الدولي، ان الفائض في ميزان المدفوعات اصبح شيئاً مألوفاً في الاعوام الاخيرة، في حين ان الاحتياطات بالعملات الاجنبية، ما عدا الذهب والمقدر ب 1.2 بليون دولار، هي في حدود 6.7 بليون دولار، وذلك خلافاً للارقام التي يسربها المصرف المركزي الليبي في اوقات مدروسة والتي تدور في الغالب حول رقم واحد يراوح بين اربعة وخمسة بلايين دولار. وتجدر الاشارة في هذا السياق الى ان نسبة الاستدانة لا تتجاوز 10 في المئة من مجمل ناتج الدخل القومي. وتشهد الديون الخارجية المؤلفة بغالبيتها من ديون عسكرية سابقة، تراجعاً تدريجاً خصوصاً ان الاستحقاقات تتم وفق آلية مقايضة بالنفط. كما تسدد لييا نفقات مراحل انجاز مشروع "النهر الصناعي" بالطريقة نفسها تقريباً. ومن النقاط المهمة ايضاً والمجهولة نسبياً، ان الجماهيرية الليبية هي من الدول القلائل في العالم غير مدينة لصندوق النقد الدولي او البنك الدولي او المؤسسات المالية العالمية الاخرى. كل هذه العناصر تجعل من مخاطر الاستقرار الاقتصادي شبه معدومة في المدى القصير هذا اذا اضفنا الى ان عدد سكان ليبيا لا يتجاوز الخمسة ملايين نسمة. ويحافظ النمو الاقتصادي على وتيرة مقبولة نسبتها الحالية 3.6 في المئة لكن المشكلة الاصعب التي تواجه الحكومة الحالية تكمن في معدلات البطالة المرتفعة التي تشكل نحو 30 في المئة من القوى العاملة، الامر الذي يمكن ان يخلق مع الوقت تراكماً يؤدي الى تهديد فعلي للنظام. فتردد الشباب الليبي بالبحث عن وظائف او الانخراط في سوق العمل مرده المستوى المتدني للاجوار التي بقيت مجمدة منذ اكثر من عشرة اعوام بفعل القانون رقم 15 القائم على اسس واهية لا تمت الى الاقتصاد بصلة. ويزيد في الطن بلة الفشل الذريع لمؤسسات القطاع العام وفي طليعتها المنشآت والتشاركيات. فالتراكم الحاصل في هذا المجال اصبح عبئاً دائماً على سياسة الدولة ومانعاً لتطوير الاقتصاد. وتعود اسباب هذا الفشل الى البيروقراطية الزائدة وعدم كفاءة الاداريين وايضاً الرشوة المتفشية في القطاعات كافة والمؤسسات والاجهزة. وتفيد التقارير التي اعدتها كبريات الشركات الاوروبية التي نفذت مشاريع مهمة في ليبيا، سابقاً ان اعلى نسبة من العمولات في الدول العربية هي التي تدفع في هذا البلد. لذلك، يتوقع ان تقوم السلطات مع مطلع 1999 بحملة مماثلة في محاربة الرشوة لتلك التي شنتها في ايلول 1996، والتي لم تعطِ النتائج المرجوة يومها. ويرى ديبلوماسيون غربيون في طرابلس الغرب ان "الهجوم" المنتظر على الجبهة الاقتصادية سببه الاول والاخير عدم قدرة الحكومة على السيطرة على السوق السوداء المستشرية والتي تمكنت من اختراق بعض الاجهزة الامنية في الفترة الاخيرة ما دفع الى احداث تغييرات على العاصمة. خلفيات الحصار ونتائجه لا يمكن لأحد ان يتجاهل انعكاسات اي حصار مهما كان حجمه على اقتصاد بلد وشعبه. وينطبق الامر هنا على ليبيا التي لم تمسّ عملياً صادراتها من النفط والغاز. ومع ذلك فان العقوبات المفروضة تم حساب نتائجها وابعادها سلفاً وفق اسس استراتيجية وبمعنى آخر، يمكن القول ان المنافسة الحادة بين الشركات النفطية العالمية للفوز "بحقوق الاستثمار المباشر الاجنبي"، الذي لم ينفتح كلياً حتى الآن في ليبيا، هي الرهان بالنسبة للسنوات ال 15 المقبلة. فخلافاً للاوروبيين يعتبر الاميركيون ان بلداناً مثل العراق وليبيا لا يزال في امكانها تحمل تبعات الحصار الذي يضعفهما اكثر فأكثر ويسمح بالتالي لشركاتهم النفطية بالحصول على شروط مالية افضل وتغطية اكثر ملاءمة للمخاطر، خصوصاً ان زيادة الاحتياطات المُستغلة اقتصادياً تسير في الاتجاه نفسه. فالضعف الحالي على صعيد اسعار النفط، اضافة الى تدني كلفة الانتاج، وانخفاض المخاطر السياسية كلها من العناصر المساعدة على عودة الاستثمار الاجنبي، المباشر على حصان ابيض، وهذا الاستثمار سيخضع بغالبيته لاشراف الولاياتالمتحدة، رئيس اوركسترا الحصارات. على اية حال، وان اختلفت التقديرات حول حجم الخسائر التي مُنيت بها ليبيا منذ بدء الحصار 30 بليون دولار بنهاية 1998، حسب وزير الخارجية الليبي عمر المنتصر، و18 بليوناً حسب تقديرات البنك الدولي فان الاقتصاد الليبي دفع في نهاية المطاف ثمناً على حساب مشاريعه التنموية وتحسين مستوى عيش المواطن، واذا كانت هذه الوضعية لم تترك تأثيراً كبيراً على الدين العام، الا ان مستوى دخل الفرد اليوم بقي قريباً من مستوياته في اعوام السبعينات على رغم جميع التحولات، ما سيضاعف مشكلات التأقلم مع المعطيات الجديدة وخطط تصحيح هيكلية الاقتصاد. ومن هنا نشأت الحاجة الى الاستقرار الاقتصادي والسياسي في ليبيا وبالنسبة الى اوروبا وحتى الولاياتالمتحدة. ويعلّق مسؤول ايطالي كبير، انه اذا كان الاميركيون يظهرون على الدوام تشدداً لفظياً من خلال رفع الصوت المهدد لليبيا بين الحين والآخر وبدءاً بالعقود التجارية، لا بد من ملاحظة ان الشركات الاميركية هي التي جهزت مستشفى طرابلس الجديد بالمعدات الحديثة والمتطورة. وفي التوجه نفسه يشير صناعي فرنسي الى ان اصحاب اكبر مصنع للطائرات في اميركا لا يزالون منذ بدء العقوبات يحافظون على اتصالات غير رسمية مع المسؤوليين الليبيين بهدف الاستعداد لتقديم عروضهم لخطة رفع الحصار. وفي احدى الندوات المغلقة التي عقدت اخيراً في مدينة تولوز الفرنسية حيث توجد مصانع ايرباص علق احد المشاركين الفرنسين بالقول: "ان مسؤولين في شركة بوينغ الاميركية التقوا سراً في افاليتا عاصمة مالطا ممثلين عن الخطوط الجوية العربية الليبية. سياسة استثمارية رزينة نجحت ليبيا، منذ منتصف السبعينات، في وضع سياسة استثمارية، بعيدة عن الضجيج الاعلامي. فلم تكشف الحكومات الليبية المتعاقبة حجم الاستثمارات المالية الخارجية ولا عن توزيعاتها الجغرافية وينطبق الامر نفسه بالنسبة الى الاستثمارات النفطية. كما احترمت السلطات الليبية مبدأ الفصل بين "منطق الثورة" و"القواعد الرأسمالية" من خلال انشاء مؤسسات مالية مستقلة، مشابهة لتلك الموجودة لدى القطاع الخاص، وعهدت ادارة هذه المؤسسات الى مجموعة من المحترفين المتخرجين من ابرز الجامعات الانكلو-ساكسونية . ومنع العقيد معمر القذافي اياً كان على مستوى السلطة، بما في ذلك اللجان الثورية، من التدخل في شوؤن هذه المؤسسات، او حتى مجرد الاقتراب منها، فكان ان حافظت هذه الاخيرة على استقلاليتها شبه التامة لجهة اختيار مجالات الاستثمار الخارجي المناسب والتصرف في تحريك الودائع الموظفة لدى عدد من المصارف وبيوتات المال الموزعة على اوروبا ودول شمال افريقيا وصولاً الى آسيا. كما تمكنت هذه المؤسسات، بفضل جديتها ومرونة اساليبها، من الالتفاف على العقوبات المفروضة مثل تجميد الرساميل والموجودات الليبية في الخارج. ويعتبر المثلث المؤلف من مؤسسة "الاستثمارات الخارجية العربية الليبية" لافيكو، رأسمالها 284 مليون دولار، و"المصرف الليبي الخارجي" الذي وضعت الحكومة بتصرفه رساميل وصلت في بعض الاحيان الى نحو من 23 بليون دولار ومجموعة "اويل انفست" رأسمالها 465 مليون دولار، بمثابة رأس الحربة المالية للجماهيرية الليبية. وتركز لافيكو، التي تتخذ من برج "ذات العماد" في طرابلس الغرب مقراً لها، استثماراتها في المغرب، فهي احد شركاء مجموعة "اونا" العملاقة في المملكة. وتعز لافيكو بشكل مستمر وجودها في مصر وايطاليا. وتؤكد مصادر مصرفية فرنسية ان المؤسسة تملك استثمارات في كوريا الجنوبية وتنوي الدخول حالياً الى السوق الفيتامنية ودولة جنوب افريقيا عبر انشاء مصرف استثماري مشترك في جوهانسبورغ. من جهته يدير المصرف الليبي الخارجي مساهمات في 28 مصرفاً تتوزع على اربع قارات، كذلك كل عمليات الشراء والبيع والاستيراد والتصدير الى الخارج. فمن خلاله تمر غالبية الحسابات الخارجية والتحويلات المالية في اتجاه البلدان الصديقة وسابقاً في اتجاه حركات التحرر العالمية. ويعتبر هذا المصرف الممر الاجباري لجميع الشركات الغربية المتعاملة مع ليبيا. وتمكن هذا المصرف خلال العام الماضي من الدخول في شراكة مع "بانكا دي روما" عبر شرائه ما نسبته ثمانية في المئة من اسهم هذا المصرف الايطالي، اما مجموعة "اويل انفست" التي تتخذ من روما مركزاً لانطلاق عملياتها واستثماراتها فتمكنت في اقل من عقدين من بناء امبراطورية صغيرة اذ تشارك هذه المجموعة حالياً في اكثر من عشر مصافي اوروبية لتكرير النفط الليبي: 66 في المئة في مصافي "هولبورن آند شيميدت" الالمانية، و75 في المئة في "يوسار" الاسبانية، و100 في المئة في مصفاة "كولومباي" السويسرية اضافة الى اكثر من 300 محطة لتوزيع الوقود في هذا البلد، و90 في المئة من "تامويل" الايطالية، و75 في المئة من مصافي "نورتولوني" و"نابولي" في ايطالي. وتشير بعض التقارير الى ان "اويل انفست" تملك مصالح غير معلنة في مصفاة "رويال دويتش" كما تتفاوض حالياً مع شركات نفطية فرنسية للحصول على حقوق توزيع الوقود التابعة لسلسلة من المحطات. وتتساءل الاوساط المالية عن سبب العودة المكشوفة وبقوة للاستثمارات الليبية الى اسواقها خلال العام الماضي اي بعد اعوام من التهرب المخطط والناجح الذي جنّبها الوقوع في فخّ العقوبات الذي أُعدَّ لها بإحكام. على هذا التساؤل يجيب مسؤول سياسي فرنسي بالقول انه لو لم يحصل النظام الليبي على ضمانات كافية من الاميركيين عبر الاصدقاء المشتركين الايطاليين، لم يكن ليتجرأ ويغامر بالتحرك الاستثماري العلني على غرار ما حصل مع "بانكا دي روما"... * اقتصادي لبناني.