بقدرة قادر تحولت ليبيا من دولة مشاكسة يتجنبها الغرب الى بلد مقصود بامتياز، تتدافع على أبوابه كبريات الشركات العالمية المدعومة بزيارات موازية من قبل وزراء البلدان التابعة لها بهدف انتزاع عقود نفطية وتلزيمات لاشغال البنى التحتية أو توقيع صفقات تجارية حتى بات من الصعوبة، حسب قول أحد مندوبي الشركات الفرنسية العاملة، ايجاد حجز في الفنادق الثلاثة الأكبر الموجودة في العاصمة طرابلس الغرب، وهو ما دفع بالحكومة الجديدة الى الدخول في مفاوضات مع مجموعات سياحية أوروبية عدة من بينها "موفنبيك" السويسرية وشركتا "اكور" و"كلوب ميديترانيه" الفرنسيتان ومجموعة "فورسيزنز" التي يمتلك الأمير الوليد بن طلال نسبة من أسهمها، للمشاركة في بناء وادارة سلسلة من فنادق الخمس والأربع نجوم تتوزع على كافة المدن الليبية الرئيسية. وتبدو ليبيا، هذه الأيام، مرتاحة كما لم تكن عليه الحال سابقاً. فالحصار الذي كان مفروضاً لسنوات طوال تلاشى كلية تقريباً. وخير دليل على ذلك البيان الرسمي الصادر أخيراً عن اليابان - المعروفة بانضباطها والتزامها التام سياسات الولاياتالمتحدة خصوصاً لجهة فرض العقوبات وتطبيقها على الدول "المشاغبة" - والذي أكد ان أسباب الحصار انتفت وبالتالي، فإن طوكيو ستتعامل مع ليبيا على هذا الأساس من الآن وصاعداً. من جهة أخرى، تتوافق التقارير التي أعدتها مصارف الأعمال الغربية الخاصة مع "البنك الأوروبي للاستثمار" حول عودة الجماهيرية الليبية الى الساحة الدولية بقوة، الأمر الذي يفرض إعادة النظر، وبسرعة، في تقويم قدرات هذا البلد للوقوف على احتياجاته التنموية من دون أدنى تأخير. ولحظت هذه التقارير اهمية مشاركة العقيد معمر القذافي في القمة اليورو - افريقية التي عقدت في القاهرة، بغض النظر عن انتقاداته اللاذعة للدور الاستعماري "المقيت" لفرنسا وبلجيكا تحديداً في القارة السوداء ونتائجه المأسوية. وركزت بشكل بارز على انخراط ليبيا في المستقبل القريب بالمشروع اليورو - متوسطي وحضورها قمة "برشلونة الرابعة" التي ستعقد في تشرين الثاني نوفمبر المقبل في مرسيليا برئاسة فرنسا. ويرى خبراء هذه المصارف، وكذلك غالبية المسؤولين السياسيين في الاتحاد الأوروبي، ان انضمام ليبيا الى هذه المسيرة من شأنه أن يعزز موقعها كدولة فاعلة في شمال افريقيا وجنوب البحر الأبيض المتوسط. وفي هذا السياق، تتردد في كواليس مقر الاتحاد الأوروبي في بروكسيل، معلومات مفادها ان مفاوضات تجري حالياً بعيداً عن الأنظار من أجل ترتيب زيارة يقوم بها الزعيم الليبي للبرلمان الأوروبي في ستراسبورغ تكون بمثابة تعويض عن تراجع الاتحاد عن استقباله في بروكسيل بدعوة من رئيس اللجنة يومها، الايطالي رومانو برودي. اما في ما يتعلق بالعلاقات مع الولاياتالمتحدة فتؤكد الأوساط الليبية المقربة من دوائر القرار انها تتحسن تدريجا على رغم بعض التصريحات الصادرة بين الحين والآخر عن الناطقين بلسان الادارة الأميركية. فالشركات النفطية الأميركية باتت جاهزة للعودة الى الساحة الليبية ولا تنتظر سوى الضوء الأخضر الأخير من قبل الكونغرس، الذي لا ينظر بعين الرضى الى الاختراق البريطاني السريع للساحة، والذي حسب الأوساط نفسها لن يتأخر كثيراً في حسم الموقف، علماً بأن شركة "كونوكو" استبقت هذا القرار منذ أشهر وتموضعت في ليبيا، وتقوم بالاضافة الى عملها المعروف، بانشاء لوبي اميركي بهدف تشجيع الشخصيات السياسية الأميركية على القدوم والتعرف على ليبيا من جهة، ومن جهة أخرى، دفع البعض الآخر الى صياغة مشاريع قرارات تهدف الى رفع العقوبات نهائياً عن ليبيا. ونجح لوبي "كونوكو" باستقطاب بعض الوجوه البارزة مثل دون نيكلز، رئيس مجموعة الحزب الجمهوري في الكونغرس، وممثل ولاية أوكلاهوما، ورونالد نيومان سفير أميركا السابق في الجزائر، وأحد مسؤولي المغرب العربي في الادارة الأميركية. "الخزائن مليئة" وانسجاماً مع هذا التشخيص، يؤكد خبراء المؤسسات المالية الدولية ان خزائن الدولة الليبية تمتليء شيئاً فشيئاً مع الارتفاع الثابت لأسعار النفط والزيادة الملحوظة في صادرات هذا البلد من المنتجات غير النفطية. فالسياسة الحذرة التي اعتمدتها الحكومات الليبية المتعاقبة خلال الأعوام الأربعة الأخيرة، أعطت على ما يبدو ثمارها فانعكست ايجاباً على مختلف القطاعات المكونة للاقتصاد الوطني، وبات معظم مؤشرات الاقتصاد الجمعي يظهر تحسناً ملموساً في حين تضاعف حجم الاحتياط من النقد الأجنبي. وإذا كانت التقارير الصادرة عن مصرف ليبيا المركزي أشارت الى وجود نحو 4.5 بليون دولار ما عدا الذهب، إلا أن التقييم الفعلي لهذا الاحتياط من قبل المصارف الغربية المتابعة عن كثب لمالية ليبيا، يشير الى 8.2 بليون دولار. أما في ما يتعلق بالعائدات النفطية، فانها تجاوزت ال14.5 بليون دولار عام 1999، وهي مرشحة للوصول الى 16.6 بليون دولار في حال بقي السعر الوسطي لبرميل النفط في حدود 23 دولاراً. أما وأن الأسعار في الأشهر الستة الأولى فاقت الرقم المذكور، فإنه من المتوقع ان تصل هذه العائدات الى ما يقارب ال18 بليون دولار. ومن جهة اخرى، ارتفعت عائدات قطاع البتروكيماويات الذي شهد قفزة نوعية منذ عام 1994 بسبب مضاعفة الاستثمارات في مجال توسعته وتحديثه وتطوير شبكات توزيعه، من 5 بلايين دولار في 1998 الى 6.2 بليون دولار في العام 1999. وكذلك، تكثف "الشركة العربية الليبية للاستثمار الخارجي" لافيكو، الذراع الضاربة للمالية الليبية، نشاطاتها في كافة الاتجاهات، وتركز استثماراتها خصوصاً داخل الجماهيرية إذ وصل مجمل ما خصصته لقطاع الهيدروكربورات ما مقداره 1.4 بليون دولار، كما مولت الطاقة بما يقارب 1.5 بليون دولار. وتلعب اليوم دوراً في دعم استراتيجية كهربة البلاد عبر تعزيز وضعية "الشركة العامة لكهرباء ليبيا" التي كرست ما يقارب ال12 بليون دولار لاستثمارها في هذا القطاع خلال السنوات ال15 المقبلة. وتفيد المعلومات ان الشركة التي يقدر رأسمالها بنحو ثمانية بلايين دولار تملك اليوم محفظة مالية متوسطة وطويلة الأجل تبلغ قيمتها نحو خمسة بلايين دولار في حين حققت خلال العامين الماضيين ارباحاً وصلت الى نحو ال7.1 بليون دولار. وتحظى منطقة المغرب العربي باهتمام استثنائي لدى المشرفين على هذه الشركة وفي طليعتهم رئيسها محمد الحويج التي لم يسمح العقيد القذافي لا للحكومة ولا للجان الثورية الاقتراب منها أو التدخل في أسلوب عملها حفاظاً على استقلاليتها باتخاذ القرارات الاستثمارية بعيداً عن أية تأثيرات داخلية أو خارجية. كما حصلت مصر بدورها على حصة لا يستهان بها من الاستثمارات في الوقت الذي بدأ فيه مسؤولو "لافيكو" التوجه اليوم الى منطقة الشرق الأدنى، إذ زارت في الفترة الأخيرة وفود عدة كلاً من لبنان والأردن وتركيا بهدف إعداد دراسات جدوى لمشاريع سياحية وصناعية وزراعية فيها. ولا تقل نشاطات "المصرف العربي الليبي الخارجي" أهمية عن "لافيكو" كونه يدير، في غياب المصارف التجارية الخاصة المحلية، جميع عمليات الاستيراد والتصدير عبر المنشآت التابعة للدولة، كما يلعب دوراً بارزاً في شراء حصص في المصارف الأجنبية، مثل "بنكو دي روما" الايطالي وغيره. ومن جهتها تلعب شركة "أويل انفست" المشرفة على عمليات الاستثمار الخارجي في مجال الطاقة انطلاقاً من مقرها في روما دوراً في تدعيم بنى الاقتصاد الليبي، فقد حققت هذه الشركة، وفق التقارير التي أعدتها المصارف الايطالية المتعاملة مع ليبيا، أرباحاً تعادل ال4.8 بليون دولار عام 1999. ومن المتوقع أن يرتفع هذا الدخل بنهاية السنة الجارية الى نحو 5.2 بليون دولار. ومن المؤشرات الأخرى على حسن أداء الاقتصاد الليبي، التحسن الملحوظ الذي طرأ على غالبية الموازين المالية. ويرى خبراء البنك الدولي في هذا الصدد، ان الفائض في ميزان المدفوعات أصبح شيئاً عادياً خلال السنوات الأخيرة كما أن معدل الدين انخفض هو الآخر ولم يعد يمثل أكثر من 8.4 في المئة من مجمل ناتج الدخل القومي في عام 1999 مقابل 10.1 في المئة في العام الذي سبقه. أما بالنسبة الى الدين الخارجي الذي يعود الى تنفيذ المرحلة الثالثة من النهر الصناعي، فإن الاستحقاقات تسدد في أوقاتها مع بعض التأخير البسيط أحياناً، وذلك عبر المقايضة بالنفط، حسب الاتفاقات المعقودة. وينبغي التذكير بأن ليبيا لا تزال من الدول القليلة جداً في العالم الثالث غير المدينة للمؤسسات المالية العالمية وللصناديق العربية. كما ان معدل النمو الاقتصادي حقق نقلة ذات دلالة من 2.1 في المئة في 1998 الى اثنين في 1999، في حين تلحظ التوقعات وصول هذا المعدل الى خمسة في المئة السنة الجارية، ما حدا بوزير المال محمد بيت المال الى القول ان هذه المعدلات ستحافظ على وتيرتها بشكل ثابت. الأوضاع الاجتماعية صعبة إذا كانت المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية على أحسن ما يرام فإن الوضع الاجتماعي لم يواكب هذا التحسن، ولا يبدو، حسب المعطيات المتوافرة حتى الآن، بأن الدول عازمة على التدخل من أجل تغيير هذا الوضع، على الأقل في المدى المنظور. وتؤكد الأوساط المطلعة ان لم يخصص أي جهد جدي على الصعيد الاجتماعي للحد من مستويات البطالة المرتفعة التي بدأت تأخذ أشكالاً مقلقة، إذ تناهز نسبة ال30 في المئة الموجودة لدى الدول الأكثر فقراً في العالم الثالث. ولا يجد الخبراء أي تفسير لهذه الظاهرة خصوصاً في بلد غني كليبيا، يملك ثروات هائلة نفطية وغير نفطية وحيث عدد السكان لا يتجاوز الخمسة ملايين نسمة. وفي المقابل، يعتبر الاقتصاديون العرب بأن هذه المسألة ناتجة بالدرجة الأولى عن غياب سياسة اجتماعية واضحة اضافة الى ثقل حركة الادارة والبيروقراطية المتحكمة بسير عملها منذ أكثر من عقدين من الزمن. ويعزو هؤلاء الاقتصاديون الأسباب أيضاً الى إحجام الشباب الليبي عن الانخراط في سوق العمل طالما ان الأجور المتدنية باقية على حالها، ولم تطرأ عليها أية زيادة منذ أكثر من 12 عاماً بفعل الحصار الذي كان مفروضاً والذي اتخذته الحكومة ذريعة ثابتة لعدم إحداث أية زيادة على الرواتب. فالشباب الليبي الذي لم يعرف غير هذا النظام وقائده ليس مضطراً ولا مستعجلاً برغم الضغوط الاجتماعية الى القبول بأقل من الحد الأدنى الذي يوفر له العيش الكريم. وليس مستعداً بالتالي على تقديم تنازلات على حساب معيشته "للحيتان" الذين يبتلعون ثروات البلاد ولقمة عيشه. هذا ما يقوله العديد من أساتذة الجامعات في طرابلس وبنغازي وكذلك الطلاب. على أية حال، أصبح هذا العبء عقبة رئيسية دائمة في وجه كل أشكال النمو المتوازن أو تحديث آليات النظام وبالتالي سداً أمام كل السياسات الاجتماعية التي وضعها مؤتمر الشعب العام البرلمان. كما أنه على رغم جميع النداءات التي وجهها العقيد القذافي للشباب من أجل الدخول بقوة الى سوق العمل، إلا أن هذه التوجهات لم تحظ بالصدى المناسب. وتبدي السلطات المعنية اليوم قلقاً متزايداً حيال هذا الإحجام في الوقت الذي نصح فيه مستشارو الزعيم الليبي بضرورة اتخاذ مبادرات ملموسة لنزع فتيل هذا الملف الذي يعتبر بمثابة قنبلة موقوتة. ولم يتأخر القذافي في التجاوب مع هذه النصائح إذ دعا عدداً من الأساتذة الجامعيين، المعروفين بحيادهم والبعد عن الانتهازية السائدة للاشتراك مع ممثلي الشباب في المؤتمرات الشعبية الأساسية لاعداد تشخيص دقيق وموضوعي للحالة الاجتماعية والوقوف على مطالب المجتمع الليبي. زحف الشركات وتشهد طرابلس الغرب منذ بداية عام 1999، عشية رفع العقوبات، تدفقاً هائلاً لممثلي الشركات العالمية، الأوروبية منها بشكل خاص، الأمر الذي جعل العاصمة الليبية أغلى مدينة عربية. وساهم التوفيق بين سعر الصرف الرسمي للدينار الليبي وأسعار السوق السوداء التي كانت تحدد في "بنك الشجرة" أي تحت الأشجار الواقعة على طرفي الحدود بين ليبيا وتونس من جهة وليبيا ومصر من جهة أخرى وأحياناً في مرفأ مالطا في تعزيز الغلاء الملحوظ. ومن أهم مؤشرات هذا الزحف، قيام بريطانيا بتنظيم معرض تجاري ضخم ضم أكثر من 300 شركة في طليعتها "بريتيش غاز" و"شل"، هذا في الوقت الذي بدأت فيه الشركات الأميركية الاطلال برأسها من خلال توافد ممثليها لليبيا بطرق مختلفة. وكان معرض طرابلس الغرب الدولي بمثابة اختبار أكثر من ناجح لمدى اهتمام الشركات العالمية بالسوق الليبية. اذ ان وزراء الدول والشركات المتواجدة عمدوا الى دعمها من خلال حضورهم المكثف. ولا تتوانى السلطات الليبية المختصة عن لعب دورها المميز في تأجيج حدة التنافس من خلال التلويح المستمر بمشاريع ضخمة موزعة على جميع القطاعات. وفي هذا السياق، تشهد دوائر القرار في الجماهيرية الليبية سباقاً بين كبريات الشركات المعنية بشؤون الكهرباء. مثل: "اي. دي. ان" الفرنسية، و"اش. كي. اي" الكندية و"اينيل" الايطالية و"لاهماير انترناشيونال" الألمانية لتنفيذ مشاريع الربط الكهربائي داخل ليبيا وخارجها، مع مصر والأردن وتونس وتركيا وحتى العراق، والمعروفة باسم "ميدرينغ". كما تعرض هذه الشركات صيغة شراكة مع ليبيا للربط الكهربائي مع دول الساحة والصحراء الافريقية التي يرأس تجمعها العقيد القذافي. وضمن هذا التوجه، تغري ليبيا الشركات النفطية العالمية بين الحين والآخر بفتح قطاعاتها النفطية والبتروكيماوية أمام الاستثمار الخارجي في فترة قريبة، لكن الأوساط المقربة من عبدالله البدري، وزير النفط السابق الذي بقي مسؤولا عن ادارة القطاع، تؤكد ان هذه الطروحات ليست الا بالونات اختبار تقوم بها الحكومة لتحديد مدى وحجم استعداد هذه الشركات لدخول الساحة الليبية. وفي هذا الاطار يلمح بعض المصادر المطلعة، انه إذا قرر العقيد القذافي فتح باب الاستثمار هذا، فإنه لن يعطي الأفضلية سوى للأميركيين، لذلك، يكتفي الليبيون اليوم بجس النبض مفضلين التباطؤ على الاسراع في هذه العملية الانفتاحية. ومن ضمن المشاريع الكبيرة الملوح بها، تنفيذ مشروع الهاتف الخليوي، بدأت عشرات الشركات العالمية مثل "فرانس تيليكوم" و"تيليفونيكا" و"اريكسون" و"بريتيش تيليكوم" وغيرها بفتح مكاتب تمثيلية لها في طرابلس الغرب وتقديم العروض في حين تكتفي الحكومة الليبية بتسلمها وارسال اشارات للشركات الغربية الأخرى التي لم تتقدم حتى الآن بعروضها، بأن الباب لا يزال مفتوحاً أمامها. ويسحب هذا التعاطي نفسه على كل المشاريع الأخرى المرتبطة بالبنى التحتية التي تبلغ كلفتها حسب تقديرات وزارة المال الليبية نحو 25 بليون دولار. بالانتظار، تستمر الحكومة الليبية باتباع هذه السياسة الاغرائية محتفظة لنفسها بحق الانتقاء والاختيار وفقاً لمصالحها السياسية أولاً والاقتصادية ثانياً، وهو درس تعلمه الليبيون على ما يبدو من تجربة الحصار. * اقتصادي لبناني.