بعد أكثر من عامين من خروجها من اختبار الحصار الاقتصادي، تمكنت ليبيا من التأقلم سريعاً مع التحولات الدولية وإعادة النظر في بعض جوانب استراتيجيتها الاقتصادية. وسمحت الزيادة الملحوظة في عائدات النفط والثروات الأخرى لطرابلس بدفعها الى الإعلان عن نيتها تحرير اقتصادها وفتح أبواب غالبية قطاعاتها الواعدة، بما فيها الطاقة، أمام الاستثمار الأجنبي. وإذا كانت ليبيا قررت بعد أعوام من التردد والانتظار انتهاج سياسة الانفتاح الاقتصادي، إلا أن هذا لا يعني انها مستعدة لمقايضة مقدراتها الهائلة بأبخس الأثمان. ويبدو ان المسؤولين باتوا مقتنعين بعد تعزيز الوضع الاقتصادي والانتقال من حال العجز إلى الفائض الثابت في الموازنة، بضرورة الشروع في فتح القطاعات المنتجة أمام الشراكة الأجنبية. وتهدف القيادة الليبية بتوجيه من خبرائها الماليين من وراء ذلك تنشيط الدورة الاقتصادية والحصول على خبرات الدول الغربية وتحويل التكنولوجيا، إضافة إلى تحديث البنى التحتية وخلق سوق مالية مع الحفاظ على المكتسبات الاجتماعية. ومع ان المعادلة ليست سهلة، الا ان وجود عائدات وصلت فعلياً إلى نحو 24 بليون دولار العام الماضي وارتفاع حجم الاحتياط من العملات الأجنبية، باستثناء الذهب، إلى أكثر من 35 بليون دولار حسب تقديرات مصارف الأعمال الأوروبية، تسهل نسبياً عملية التحرير الاقتصادي التي بدأت ملامحها تظهر في الندوات واللقاءات التي تعقد سواء في طرابلس الغرب أو في عواصم اوروبية كبرى مثل لندن وجنيف وقريباً روما، حول الاستثمار في ليبيا. لا تأل القيادة الليبية جهداً في التأكيد على التوجهات التي اعتمدها "مؤتمر الشعب العام" البرلمان الأخير الذي عقد في مدينة سرت، والتي تستهدف التحرير التدرجي للاقتصاد مع الإقرار ضمناً بهامش من المرونة السياسية المحسوبة بدقة. ويشير مراقبون الى ان الأسلوب الذي يتم من خلاله تنفيذ القرار في هذا الشأن سيختلف حتماً عن كل ما سبق، وان الانعطافة المعلنة لن تواكبها شعارات ثورية أو برامج مستحيلة التحقيق، مستشهدين على ذلك، بأن الحكومة مهدت خلال فترة قصيرة جداً الطريقة والمناخ الملائمين، وأوجدت الرجال القادرين على مماشاة هذه المرحلة بجميع متطلباتها، كما أقرت القوانين والأدوات الملائمة. ويدور الحديث في الشارع الليبي عن القدوم المحتمل للمستثمرين الأجانب وعن تخصيص العشرات من أبرز مؤسسات القطاع العام. ويذهب بعضهم إلى حد التأكيد على انشاء مصارف مختلطة وصولاً إلى تحرير الدينار. وكان لافتاً تأكيد محمد الحويج رئيس مجموعة "لافيكو" الشركة الليبية العربية للاستثمار الخارجي، الذراع الضاربة للمالية الليبية، أمام رجال الأعمال الأوروبيين المشاركين في "ملتقى لندن الاستثماري في ليبيا" الذي عقد مطلع تموز يوليو الماضي، بأن "انفتاحنا لا رجعة عنه" و"بأن هذا الخيار اتخذ من قبل قائد الثورة من دون أدنى تردد". وبناء على ذلك، وضعت "لافيكو" بالاشتراك مع "مصرف ليبيا الخارجي" استراتيجية تقوم على قاعدتين: تتضمن الأولى التركيز على اجتذاب الاستثمارات الخارجية المباشرة أياً تكن جنسياتها حتى ولو كانت أميركية، والثانية تستهدف إعادة بناء شبكات الاستثمار الليبي الموزعة في أنحاء العالم لتتوافق طبيعة نشاطاتها مع التحولات المالية العالمية المرتبطة بتكنولوجيا المعلومات. وما من شك في أن بقاء أسعار النفط في مستوياتها الحالية سيدعم، للسنة الثانية على التوالي، غالبية مؤشرات الاقتصاد الجمعي لليبيا، وهي الدولة العالمثالثية شبه الوحيدة غير المدينة للمؤسسات المالية العالمية أو لنادي باريس وغيره. وفي هذا الإطار، تجدر الإشارة إلى أن العائدات النفطية ليست الوحيدة التي تشكل مصدر ثروات هذا البلد الذي تزيد مساحته عن مساحة مصر والذي لا يتجاوز عدد سكانه ال3.5 مليون نسمة بما فيها اليد العاملة الأجنبية من عربية وافريقية وغيرها. اذ ان العائدات من صناعة البتروكيماويات وحدها تقدر بستة بلايين دولار، كما تبلغ الاستثمارات في الخارج خمسة بلايين دولار، تمثل جميعها عناصر لا يجوز التقليل من أهميتها لدى إعداد الموازنة التقديرية السنوية. هذه الموازنة التي سجلت منذ عام 1998 فائضاً، في حين بقيت مثيلاتها العربية العائدة للدول الأعضاء في منظمة "أوبك" تعاني من عجوزات. * اقتصادي لبناني