منذ الحادي عشر من ايلول سبتمبر تزايدت الدعوات في العالم العربي الى بذل جهود اعلامية وسياسية في الغرب للرد على الحملات المغرضة والمتمادية في التحريض ضد العرب والاسلام والمسلمين وشرح وجهة النظر العربية وبالتالي فتح ثغرة في الجدار وتطويق حصار الصهيونية لاجهزة الاعلام الاجنبية وسيطرتها على العقول والقلوب في آن. وحتى هذه اللحظة لم يهتد العرب، قيادات ومؤسسات ورجالات فكر واعلام، الى بوصلة تتيح لهم تحقيق ولو الحدود الدنيا من "الانصاف" والتفهم، ولم يفلحوا في التخلص من عقليات واساليب اثبتت عدم جدواها منذ اكثر من نصف قرن. ومن الصعب توجيه اصابع الاتهام لهذه الجهة او تلك او لوم هذا الطرف او ذاك فالمسألة معقدة ولا يمكن معالجتها باستخفاف وتسرّع. وعلى رغم كل ما دار من جدل وما عقد من اجتماعات ومؤتمرات وما اتخذ من قرارات فإن من يدخل الى ارض الواقع يدرك ان تفجيرات 11 ايلول لم تكن سوى "القشة التي قصمت ظهر البعير"، فمعها تفجرت كل التناقضات والعقد التاريخية والحضارية والدينية والعنصرية وكان للاعلام دور مهم في ابرازها وتحريك المشاعر والاحساسيس والحساسيات وحملات العداء والبغضاء بعدما دخلت اسرائيل على الخط لتضرب عصافير عدة بحجر واحد: شحن الحملات ضد العرب وايجاد حالة قطيعة بينهم وبين الرأي العام والسلطات في الولاياتالمتحدة واوروبا، الزعم بالمشاركة في الحرب ضد الارهاب لضرب الشعب الفلسطيني وسلطته الوطنية وبنيته التحتية، والتملص من كل التزامات السلام مع الفلسطينيين والعرب من قرارات الشرعية الدولية الى مرجعية مدريد واتفاقات اوسلو وما نجم عنها من حقائق على ارض الواقع في الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة. في المقابل لم نشهد في الجانب العربي سوى حالات ارباك، ومحاولات متواضعة للدفاع عن النفس، ومشاريع واقتراحات للخروج من هذا النفق لم تتعد النمط التقليدي على رغم اقتناع الجميع بخطورة المرحلة وشراسة الهجمة المضادة التي استغلت التفجيرات للتنفيث عن احقادها وتصفية حساباتها والترويج لنظرية صراع الحضارات بجمع كل العرب والمسلمين في "سلة" الارهاب. وأفرزت النقاشات وحلقات الجدل حول اساليب المعالجة عن بروز ثلاثة تيارات: * التيار الاول يؤمن بمبدأ "فالج لا تعالج" اي بالتعبير عن اليأس من امكان تحقيق اي اختراق للوصول الى الرأي العام الغربي وبالتالي الى مراكز القرار منطلقاً من واقعين سيطرة الصهيونية على الاعلام وتوجهاته في الغرب والعالم وتأجج احقاد التيارات اليمينية والعنصرية المعادية للعرب والمسلمين بصورة خاصة والغرباء والاجانب بصورة عامة خصوصاً بعدما وجدت ضالتها في التفجيرات والتهديدات الارهابية. * التيار الثاني، يرى ان الامكانات متاحة والامل غير مفقود اذا قام العرب بجهود لمخاطبة الرأي العام الا انه يعتمد على اساليب تقليدية وينطلق من نظريات عامة وتوقعات نظرية فيدعو لانشاء قناة تلفزيونية فضائية باللغات الرئيسية من فرنسية وانكليزية وغيرها او اطلاق صحيفة عربية دولية باللغة الانكليزية او نشر اعلانات في الصحف الاجنبية تشرح وجهة نظر العرب وترد على الحملات او تعيين مفوضين ولجان وموظفين للقيام بهذه المهمات ثبت في الماضي عدم جدواها. * التيار الثالث، يعتمد على الواقعية ويدعو الى التعامل مع هذا الموضوع الحيوي بوسائل وأساليب غير تقليدية من دون تقليل اهمية ما ينادي به التيار الثاني، مع تأكيد نقطة جوهرية هي ان اي نجاح اعلامي يجب ان يرافقه تحرك سياسي هادف وضاغط ومواقف واعمال واضحة لا تمنح الاعداء الذرائع والحجج ولا تشوّه او تنسف أي جهد فعّال كما جرى عندما قدمت الذرائع لشارون وحكومته لتطويق المبادرة العربية للسلام التي اقرت في قمة بيروت من خلال عملية نهاريا التي سحبت ورقة قوة مهمة من العرب كان يمكن ان تقلب الرأي العام العالمي رأساً على عقب وتحرج الولاياتالمتحدة واسرائيل وتدفع بالعالم كله للتحرك من اجل السلام وارغام اسرائيل على التجاوب مع مبادئها وفي مقدمها الانسحاب من الاراضي العربية المحتلة. ولا انكر وجود سيطرة صهيونية على "معظم" الاعلام الغربي لكنني مقتنع مئة بالمئة بأنه في امكان العرب ايجاد سبل لاختراقها والوصول الى الرأي العام. وقد أثبتت الاحداث ان الاعلام الغربي مستعد لللتعامل مع المعلومات والارقام والحقائق اذا قدمت له بشكل موضوعي على رغم محاولات الدس الصهيونية، كما جرى عندما قدم سفير المملكة العربية السعودية في لندن الدكتور غازي القصيبي الحقائق ورد على كل التساؤلات المغرضة في محاضرة نظمها مركز الدراسات العربية. وحاول الصهيانة التشويش على النجاح الذي حققه من خلال الحضور الاعلامي الاجنبي المكثف بتحريف اقواله ولا سيما تشبيهه ما يتعرض له الفلسطينيون بما تعرضت له اوروبا من الالمان خلال الحرب العالمية الثانية واقحام مسألة النازية فيها للمطالبة بابعاده من بريطانيا لكن الرسالة وصلت بقوة الى الرأي العام ولا سيما لغة الارقام والحقائق التي استخدمها وبينها حقيقة ان اسرائيل قتلت خلال عام اكثر من 750 طفلاً بينهم مئة طفل اصيبوا برصاصات مباشرة في الرأس. وفي مناسبة اخرى شهدت لندن حدثاً آخر اتاح المجال لنقاش موضوعي وبناء حول وسائل الرد على الحملات وشرح الحقائق للرأي العام الغربي عندما رأى الامين العام لغرفة التجارة العربية البريطانية للقاء حواري مع رجال الاعمال طُرحت فيه اقتراحات جيدة من خلال التجارب العملية وبينها تجربة رئيس الغرفة اللورد برايور الذي كشف عن اتصالات على مستويات مختلفة مع الحكومة واجهزة الاعلام لتطويق الهجمة الاعلامية الشرسة التي استغلت تفجيرات نيويورك وواشنطن لتحول اتجاهات الرأي العام وتؤثر في مفاهيمه لا سيما بالنسبة للنظرة الى الاسلام والعرب من دون اغفال واقع جهل الكثيرين بالحقائق ولا سيما في فلسطينالمحتلة. وضرب اللورد البريطاني مثلاً على هذا الجهل باستفتاء بين 300 طالب في جامعة غلاسكو في اسكوتلندا تبين فيه ان 80 في المئة من الطلاب لم يعرفوا لماذا يقيم اللاجئون الفلسطينيون في المخيمات منذ اكثر من نصف قرن، واعربوا عن اعتقادهم بأن الفلسطينيين هم الذين يحتلون الضفة الغربية وليس اسرائيل وعلى رغم هذا يمكن القول ان هناك رأي عام قوي في بريطانيا يؤيد الحق الفلسطيني في اقامة دولة مستقلة، كما ان هناك غضب من الممارسات الاسرائيلية ولا سيما بعد مجزرة جنين وغيرها من المدن الفلسطينية. ولمست وفود عربية عدة، بينها وفود سعودية وخليجية، حقائق على الارض من خلال لقاءاتها مع اعضاء مجلس العموم والاكاديميين ورجال الاعمال والاعلام ونجحت في الدفاع عن مواقفها في مواجهة الاسئلة الصعبة وحملات التشهير وتشويه السمعة. اما بالنسبة الى الولاياتالمتحدة فمن واجب العرب عدم اليأس من تغيّر موقفها وترك الساحة خالية لاسرائيل لتسرح فيها وتمرح. فعلى رغم كل ما يصدر عن ادارة الرئيس جورج بوش من مواقف وتصريحات واعمال معادية فان على العرب ان يتحلوا بالحكمة ويكثفوا جهودهم بالضغط والاقناع واستخدام لغة المصالح والتوجه الى مراكز القرار والاعلام والرأي العام تمشياً مع قول المتنبي "ومن نكد الدنيا على الحر ان يرى عدواً ما من صداقته بد". فمن غير الممكن تجاهل دور الولاياتالمتحدة وهيمنتها على النظام العالمي الجديد كما انه من واجب مراكز الدراسات والابحاث تقديم صورة واقعية عن حقائق الموقف في الولاياتالمتحدة واسباب انحراف الولاياتالمتحدة وسيطرة اللوبي الصهيوني مع الاخذ في الاعتبار آثار تفجيرات نيويورك وواشنطن وارتدادات زلزالها اضافة الى العوامل الانتخابية حيث تدور الآن رحى معركة فاصلة بين الجمهوريين والديموقراطيين استعداداً لانتخابات الكونغرس في تشرين الثاني نوفمبر المقبل وتمهيداً لمعركة تمديد ولاية الرئيس بوش الذي يخشى ان يغضب اللوبي الصهيوني في هذه المرحلة الحرجة لا سيما بعد تطويقه هو ونائبه ديك تشيني بفضائح مالية سيبقى سيفها وسيلة تهديد حتى انتهاء ولايته. وهذا الواقع يفرض مضاعفة الجهود والتحرك في كل الاتجاهات لتصحيح الصورة وتعديل الموقف انطلاقاً من مقولة الزعيم البريطاني الراحل ونستون تشرشل: "الاميركيون ينتهي بهم المطاف دوماً بأن يفعلوا الشيء الصحيح… ولكن بعد ان يكونوا قد جربوا كل شيء… وارتكبوا كل الاخطاء"! ولهذا لا بد من العمل على فتح ثغرة في الجدار الغربي باعتماد خطة تحرك عملية وواقعية تتحدث بلغة العقل والارقام والحقائق… وقبل كل شيء بلغة المصالح… ولا بد ان يشارك الجميع في هذا التحرك: الاعلاميون ورجال الاعمال والغرف التجارية والاكاديميون والسياسيون والفعاليات الانسانية والنسائية على ان تشمل الاتصالات كل الفئات من القمة الى القاعدة… وكل المنظمات الدولية والانسانية وابناء الجاليات العربية والاسلامية والاقليات العرقية. ولا بد ايضاً من اصدار نشرات دورية تتضمن ارقاماً ومعلومات عن حجم المصالح مع كل دولة والعمل على نشرها في اجهزة اعلامها ضمن اطار الحديث عن لغة المصالح… ويكفي في الختام ان اشير الى رقم واحد يمكن ان يؤثر في البريطانيين وهو أن أكثر من 35 ألف بريطاني يعملون في الخليج وليبيا اضافة الى 4 آلاف يعملون في دول عربية اخرى… هذا عدا عن ارقام التبادل التجاري والسياح العرب والاستثمارات والودائع العربية في البنوك الغربية. وهذه بداية طريق طويل وصعب لكن الفشل ممنوع والاختراق الاعلامي والسياسي امر ضروري ولا مفر منه في مواجهة شرسة يستخدم فيها العدو كل اسلحته المشروعة وغير المشروعة. كاتب وصحافي عربي.