رغم الأجواء الملبدة بالغيوم في سماء الشرق الأوسط، فإن انفراجات واسعة تظهر في العالم وتحمل بارقة أمل بانتهاء "عهد العسل" مع إسرائيل وبدء العد العكسي لمتغيرات مهمة في اتجاهات الرأي العام العالمي. ولكن هل يعني ذلك انتهاء عهد التعاطف العالمي مع إسرائيل؟ لا بد أولاً من تسجيل ملاحظة مهمة يغفل عنها العرب أو يعالجونها بخفة وهي أنه ليس هناك رأي عام عالمي موحد بمفهوم الكتلة الصلبة، أو التيار الموحد، خصوصاً عندما نتحدث عن الغرب ككل، فهناك الغرب الأميركي وهو ليس موحداً، كذلك الغرب الأوروبي. والتعامل مع الرأي العام في الغرب عملية معقدة ومتشابكة تحتاج إلى التعمق في كل حالة على حدة ودرس خصوصياتها واسلوب الحوار معها حتى يمكن اقناعها أو كسبها أو حتى تحييدها. وقد أخطأ العرب في الماضي في كثير من الممارسات وأساليب التعامل مع "الآخر"، فتارة تترك الساحة خالية ل "الماكينة الاعلامية الصهيونية" لبث سمومها، وتارة أخرى يقوم البعض بتصرفات أو باتخاذ مواقف متشنجة أو مسيئة للعرب يستغلها الصهاينة لإشعال نار الأحقاد والعداء ضد كل ما هو عربي، وفي كثير من الأحيان يفقد العرب أصدقاء وحلفاء وربما أشقاء بسبب عدم المثابرة والمتابعة ووضع آلية عمل ثابتة لتعزيز العلاقات. وهذا ما تكرر أخيراً في كثير من البلدان الافريقية والآسيوية، بل حتى الإسلامية، حيث يتزايد النفوذ الصهيوني يوماً بعد يوم وتعقد اتفاقات عسكرية وأمنية واقتصادية وتبادل تجاري ومشاريع زراعية وإرسال خبراء عسكريين أو زراعيين. ولا أتحدث هنا عن تركيا أو بعض الدول التي كانت العلاقات متينة معها من قبل بل عن دول أخرى مثل دول أوروبا الشرقية بعد انهيار المعسكر الاشتراكي، وجمهوريات آسيا الوسطى وكلها إسلامية، ومعظم الدول الافريقية، وصولاً إلى الصين حيث عقدت أخيراً عشرات الاتفاقات بينها وبين إسرائيل. أما روسيا، التي يعتبرها العرب حليفة وصديقة، فقد وصل التغلغل الصهيوني الى درجة أن بعض المحللين يعتبر ان اللوبي الصهيوني في روسيا اليوم أقوى بكثير من اللوبي الصهيوني في أميركا. ولكن ماذا يمكن العرب أن يفعلوا ازاء هذا الواقع المرير؟ وهل هناك امل في حدوث تغيير جدي... أو ملموس في اتجاهات الرأي العام العالمي أو في التخفيف من الانحياز لإسرائيل؟ وكيف يمكن توقع أي تقدم باتجاه العدالة والتخلي عن ازدواجية المعايير والكيل بمكيالين ما دامت الإدارة الأميركية تقف عاجزة أمام التسلط الإسرائيلي والتحدي الإسرائيلي لمواقف الولاياتالمتحدة، وهي الراعي الأول... والوحيد للسلام وتهديدها لمصالحها الحيوية؟ لا يمكن الجزم في الإجابة بأن الأمل مفقود، لكن العرب قادرون على تغيير المعادلات لو أحسنوا التعامل معها واستمروا في سياسة الاعتدال ومواجهة التعنت الإسرائيلي بأسلوب عقلاني وذكي يسحب البساط من تحت أقدام عتاة الصهاينة من ليكود وأحزاب متطرفة. ولأن العالم لا يحترم إلا القوي، ولا يفهم إلا لغة القوة، على اختلاف مكوناتها ومعانيها المادية والبشرية والعسكرية، فإن العرب مطالبون قبل كل شيء بتوحيد صفوفهم وطي خلافاتهم والتحدث مع العالم بصوت واحد وموقف واحد بعدما تكررت التداعيات وحالات التفرد والتشرذم،. والخطوة التالية المطلوبة هي الاستمرار في كسب الأصدقاء وإعادة النظر في العلاقات الاقليمية والدولية وتأكيد دعم المسيرة السلمية مع التركيز على الحملات الاعلامية والسياسية لفضح الجرائم الإسرائيلية وانتهاكات حقوق الإنسان بالوقائع والوثائق الدامغة مع تقديم مفاضلة مدعمة بالأرقام والحقائق عن مصالح الشعوب والدول بين العرب وإسرائيل مع الحكم المسبق بأن هذه المفاضلة ستنتهي لصالح العلاقات مع العرب. وقد أشرت من قبل إلى أهمية التوجه إلى قطاعات وشرائح اجتماعية معينة لكسب ودها أولاً مثل الجاليات العربية والإسلامية في أوروبا والولاياتالمتحدة وأميركا اللاتينية وافريقيا ثم لحملها على المشاركة في الدفاع عن قضايانا عن ايمان واقتناع. مع العلم أن أبناء هذه الجاليات وصلوا إلى مراكز متقدمة في المؤسسات الرسمية والخاصة وقدم بعضهم انجازات كبرى في مجالات العلوم والفنون والطب... بل وصل عدد كبير منهم إلى الرئاسة مثل الأرجنتيني كارلوس منعم، والاكوادوري جميل معوض، عدا عن مئات النواب والشيوخ في البرلمانات الغربية والأميركية والأميركية اللاتينية، بل أن بريطانيا شهدت أخيراً اختيار أول لورد مسلم، بعد انتخاب أول نائب مسلم. وهناك أيضاً الدول الإسلامية والآسيوية والافريقية التي يفترض أن يتم تجديد العلاقات معها وإعادة وصل ما انقطع بعد سنوات من الجمود وربما القطيعة أو عدم الاهتمام. أما في الداخل الإسرائيلي، فإن الساحة مفتوحة لتحرك أكبر وأكثر نشاطاً في ظل وجود أقلية عربية تمثل أكثر من 20 في المئة من عدد سكان إسرائيل وتستطيع حمل أكثر من 12 نائباً إلى الكنيست البرلمان، إضافة إلى الانقسامات الحاصلة داخل المجتمع الإسرائيلي غير المتماسك والتي يمكن ان يضرب العرب على وترها لكسب ود كل من يرفض الحرب، من حركة السلام الآن إلى المهاجرين الجدد والأحزاب المعارضة لليكود واليمين التطرف. وللدلالة على جدوى بذل العرب المزيد من الجهد لإحداث تغييرات جذرية في اتجاهات الرأي العام أورد بعض الانجازات أو الايجابيات التي سجلتها خلال الشهرين الماضيين، وهي: صدور قرار عن الجمعية العامة للأمم المتحدة برفع مكانة وتمثيل منظمة التحرير الفلسطينية ومنح الفلسطينيين مقعداً في المنظمة الدولية من دون حق التصويت بأكثرية 124 صوتاً مقابل 4 دول بينها الولاياتالمتحدة وإسرائيل على رغم الضغوط التي بذلت لمنع صدور القرار والادعاء بأنه يعرقل مسيرة السلام والمفاوضات الفلسطينية - الإسرائيلية. صدور بيان رئاسي عن مجلس الأمن الدولي يطالب إسرائيل بوقف أي اجراء يستهدف تغيير معالم القدس أو توسيعها بضم المستوطنات إليها. وصحيح أن الولاياتالمتحدة منعت المجلس من اتخاذ قرار جديد، ولكنها وافقت على البيان الرئاسي الذي لم يتضمن تنديداً بخطة إسرائيل التهويدية التوسعية، ولكنه تضمن اشارة واضحة تثبت ان المخطط الإسرائيلي غير شرعي. تصاعد التظاهرات الإسرائيلية المطالبة بانسحاب الجيش الإسرائيلي من جنوبلبنان حركة الأمهات الأربع وغيرها، والكشف عن مذكرة مهمة من ضباط الاحتياط في الجيش الإسرائيلي ينتقدون فيها بشدة سياسة الحكومة الليكودية ويعلنون رفضهم المشاركة في أي حرب أو تأدية الخدمة عند إصدار الأوامر أو مواجهة المتظاهرين الفلسطينيين. وتزامنت هذه التطورات مع اشتداد الخلافات الداخلية والصراع بين الرئيس عيزرا وايزمان وبنيامين نتانياهو وتوقع ازدياد الضغوط من أجل اجراء انتخابات عامة مبكرة قبل عام 2000 موعدها المقرر. بروز مواقف متقدمة لعدة دول مهمة والاتحاد الأوروبي تنتقد إسرائيل وتتعاطف مع الموقف العربي وتعمل لانقاذ مسيرة السلام. تميز موقف فرنسا ورئيسها جاك شيراك، وحدوث تفهم أكبر للحق العربي. ازدياد عدد الشخصيات العلمية والأكاديمية والعامة في الغرب التي تنتقد إسرائيل علناً وتكشف النقاب عن مخاطر الهيمنة الصهيونية على مقاليد الولاياتالمتحدة ودور النفوذ الصهيوني في تهديد المصالح الأميركية في المنطقة تأكيداً لما أشرت إليه من قبل عن تحذير للسياسي الأميركي بينجامين فرانكلين من سيطرة اليهود في خطاب له قبل أكثر من 200 عام ذكر خطأ سابقاً أنه رئيس أميركي والواقع أنه رجل دولة وسياسة ولم يكن رئيساً كما أوضح لي الزميل "المعلوماتي" غسان غصن. وقد قرأت قبل أيام تصريحين لأميركيين يدينون إسرائيل، أولهم بيتر غران المؤرخ الأميركي المعروف "الوطن" الكويتية الذي قال إن ديموقراطية إسرائيل اكذوبة يروج لها الاعلام الغربي وان ما تقوم به من انتهاكات لحقوق الإنسان يجب أن يكشف للعالم أجمع. أما المواطن الأميركي جيفرسون تشيس فتطوع بارسال 60 رسالة إلى أعضاء الكونغرس الأميركي و138 رسالة إلى معلقين وكتّاب صحافيين في كل انحاء الولاياتالمتحدة يفضح فيها وجه إسرائيل الوحشي، ويتساءل عن أسباب التأييد الأميركي لإسرائيل على رغم الظلم الواضح الذي حاق بالفلسطينيين. وهاجم تصريحات ومواقف نيوت غينغريش رئيس مجلس النواب السابق التي تتنافى مع حقائق التاريخ وتفتقر لأبسط قواعد اللياقة. كما استنكر دعم أعضاء الكونغرس لإسرائيل رغم مواقفها وجرائهما وتهديدها للمصالح القومية الأميركية. وقال هذا المواطن الذي ارسل نسخة من رسالته الى وكالة أنباء الشرق الأوسط المصرية إنه نموذج لرجل الشارع الأميركي العادي الذي بدأ ينظر للأمور بعين العدالة والتمييز بين الحق والباطل. هذه الأصوات وإن كانت خافتة وبسيطة إلا انها بداية طريق طويل لا بد أن يسلكه العرب إذا كانوا جديين في إنهاء الهيمنة الصهيونية وانحسار عهد التعاطف العالمي مع إسرائيل... وأول الغيث قطرة... ثم ينهمر. * كاتب وصحافي عربي