يعتبر الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة ومشروعه في ترقية الوئام المدني إلى مصالحة وطنية شاملة الفائز الأول في انتخابات 30 أيار مايو الماضي. كما يبدو أن المؤسسة العسكرية المعروفة سابقاً باستراتيجيتها الاستئصالية تجاه الجبهة الإسلامية للإنقاذ طورت مواقفها ولم تتدخل لعرقلة مشروع الرئيس. فحزب جبهة التحرير الوطني سيكون ذراعه الأيمن في هذا المشروع، بعدما حصل على غالبية طفيفة في البرلمان الجديد تجاوزت ال50 في المئة 199 مقعداً من 389. وجبهة التحرير معروفة بأطروحتها التاريخية المعتمدة على العروبة والإسلام، أي هي في خانة التيار العربي الإسلامي، كما تتمتع ببعض العلاقات مع قادة الجبهة الإسلامية للإنقاذ وصلت سنة 1995 إلى تحالف وتنسيق إثر مؤتمر "سانت إيجيديو" في روما. وتمثلت المفاجأة الثانية في الانتخابات في فوز حزب "حركة الإصلاح الوطني" بقيادة عبدالله جاب الله بالمرتبة الثالثة بحصوله على 43 مقعداً. والرجل وحزبه معروفان بدعوتهما الى مصالحة وطنية شاملة تشترك فيها قيادات جبهة الإنقاذ. كما دعم فوز حزب العمال بقيادة لويزة حنون فوز مشروع المصالحة. فقد أحدث مفاجأة كبيرة بحصوله على 21 مقعداً في مقابل اربعة مقاعد في البرلمان السابق. ولويزة حنون معروفة بدعوتها الى المصالحة الوطنية ووقف نزيف الدماء، كما تتمتع بعلاقات طيبة مع قادة الإنقاذ وبخاصة مع الشيخ علي بن حاج. أما الخاسران الأكبران فهما حزب التجمع الوطني الديموقراطي بقيادة احمد أويحيى وحركة "حماس" بقيادة الشيخ محفوظ نحناح التي قدمت نفسها ذات يوم بديلاً للجبهة الإسلامية للإنقاذ، وكذلك حركة "النهضة" التي عاقبها جمهور الناخبين فلم تحصل إلا على مقعد واحد. كانت المعركة الانتخابية لجبهة التحرير الوطني في الأساس ضد حزب احمد أويحيى، أي التجمع الوطني الديموقراطي. وأثبت هذا الحزب فشله في الإدارة الجهوية للمجالس المنتخبة وهو مرشح لانهيار سريع واختفاء كامل من المشهد السياسي بمجرد أن تتخلى المؤسسة العسكرية عنه كلياً أو حتى جزئياً. وهو بدا وكأنه حزب الإدارة والسلطة الذي لا لون له ولا طعم ولا تاريخ، فكانت معركة جبهة التحرير الوطني سهلة ضده. ويبقى حزب جبهة التحرير الوطني مهما قيل ويقال عنه ومهما ارتكب من أخطاء كثيرة، واحداً من الأحزاب العملاقة في العالم التي صنعت التاريخ المعاصر. وعلى رغم احتكاره المشهد السياسي الجزائري منذ اندلاع ثورة تشرين الثاني نوفمبر 1954 حتى بداية التسعينات، كان المسؤول عن مصير هذا البلد طوال فترة تمتد على نحو أربعة عقود. لذلك أدركت المؤسسة العسكرية أخيراً أن عودته على رأس الساحة السياسية ضرورية لأنها لا تستطيع الاعتماد على حزب احمد اويحيى. إذ إن تأسيس التجمع الوطني الديموقراطي كان خطأ كبيراً للرئيس اليمين زروال على رغم حسن نياته، وأصبح هذا الخطأ إرثاً ثقيلاً يؤرق الجميع. كما تمثل جبهة التحرير الوطني أول مدرسة سياسية في الجزائر منذ الثورة. إذ خرج وتخرج فيها الكثير، إن لم نقل الغالبية الساحقة من إطارات النخبة السياسية في الجزائر، بمن فيهم ضباط الجيش وقادة التجمع الوطني الديموقراطي وحتى عباسي مدني الذي كان ذات يوم عضواً في جبهة التحرير الوطني. وبات من المؤكد اليوم أن جبهة التحرير الوطني الجزائرية استعادت زمام المبادرة السياسية ودخلت في المرحلة الأخيرة لإعادة سيطرتها على الدولة وإبعاد خصمها الأساسي التجمع الوطني الديموقراطي. وعادت لتعرف عهداً ذهبياً منذ وصول الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة إلى الرئاسة في نيسان أبريل 1999. إذ عمل الرئيس الجديد، المنتمي إلى الجبهة منذ بداية شبابه، على تقويتها وتشبيبها بأن شجع وصول مناضليها إلى المناصب الكبيرة مثل تعيين الراحل محمد الشريف مساعدية على رأس مجلس الأمة ووضع على رأس الحزب العتيد شاباً يجمع بين الخبرة والعمل والكفاية هو علي بن فليس. ويعد فشل التجمع الوطني الديموقراطي فشلاً شخصياً لزعيمه احمد اويحيى، وهو من السياسيين الجزائريين الشباب، لم يشارك في ثورة نوفمبر 1954 لصغر سنه وبالتالي لا يتمتع بالشرعية الثورية التي يمكن أن تخوله ليصبح رئيساً للدولة. وهو عمل في مؤسسة الرئاسة حيث سطع نجمه، خصوصاً في أوساط الأممالمتحدة عندما شارك في معالجة ملف الصحراء الغربية وبالتالي خوض حرب ديبلوماسية ضد المملكة المغربية. شغل منصب سفير الجزائر في النيجر ثم سرعان ما عين وزيراً مكلفاً التعاون بين الدول المغاربية للمرة الأولى في حكومة سيد احمد غزالي. وساهم في شكل فاعل في توقيع اتفاق سياسي بين حركة الطوارق المسلحة والسلطات النيجرية، ثم أصبح مدير ديوان زروال الذي سرعان ما عينه رئيساً لحكومته. لكنه سرعان ما ترك موقعه إلى خلفه اسماعيل حمداني. ولم ينسحب من الحياة السياسية على رغم الانتقادات الشديدة التي وجهت إليه أثناء ممارسته السلطة فأصبح أميناً عاماً لحزب التجمع الوطني الديموقراطي بعدما تم استبعاد الأمين السابق الطاهر بعيبش. أما تعيينه وزير دولة مكلفاً بالعدل في حكومتي احمد بن بيتور وعلي بن فليس فلم يفاجئ كثيرين من المراقبين. و كثيراً ما تم تداول اسمه كرئيس دولة محتمل للجزائر. إذ أن تحالف قيادة هيئة الأركان/ الاستخبارات العسكرية كان يرغب في إيصاله الى قصر المرادية، لكنهما تخوفا من صغر سنه وعدم انتمائه الى جيل الشرعية الثورية أولاً ومن كونه من منطقة القبايل ثانياً ومن عدم شعبيته التي اعترف بها هو نفسه ثالثاً. من جهة أخرى فإن عبدالله جاب الله هو أول الفائزين في التيار الإسلامي. إذ نجح في الحفاظ على موقف وسط يتمثل في علاقته الجيدة مع قادة الجبهة الإسلامية للإنقاذ من جهة وعلى علاقته مع السلطة وعلى رأسها المؤسسة العسكرية من جهة أخرى. وهو يمثل الجيل الشاب الباحث عن شرعية جديدة تعتمد الانتخابات من خلال تعبئة الشباب الذي همشته جبهة التحرير في الماضي. فاستفاد من أخطاء النخب القديمة ليقدم نفسه كبديل، مثله في ذلك مثل "الجبهة الإسلامية للإنقاذ" أو حركة "حماس". كما تميز في حملة انتخابات نيسان 1999 بكونه يتبنى مشروعاً إسلامياً دينياً صريحاً على عكس بقية المرشحين الذين يتراوحون بين الوطني الليبرالي بوتفليقة، أو الوطني الإسلامي الإبراهيمي، أو الوطني التكنوقراطي سيفي، أو الوطني التاريخي الخطيب، أو الوطني الاشتراكي آيت أحمد. أما جاب الله فهو يعتبر نفسه إسلاميا صرفاً. ولا يمكن مقارنته إلا بالجبهة الإسلامية للإنقاذ أو حركة "حماس". ومن هنا جاء تميزه. أكبر خدمة قدمتها له السلطة تمثلت في إزاحة خصمه محفوظ نحناح من سباق الانتخابات. وينبغي ألاّ ننسى أن الرجل الذي أخرج من النافذة عبر رفاقه في حركة "النهضة" عاد إلى العمل السياسي من بابه الكبير بعد الانتخابات الرئاسية ليؤسس حزبه الجديد "حركة الإصلاح الوطني" ويحقق فوزاً كبيراً جداً اليوم. وبدأ عبدالله جاب الله حياته السياسية بإنشاء جماعة سرية منذ سنة 1974 تستهدف إقامة دولة إسلامية في الجزائر. ثم تموقع في وسط الحركة الإسلامية. فهو بالنسبة إلى السلطة أقل تطرفاً من الجبهة الإسلامية للإنقاذ وفي الوقت نفسه أقل اعتدالاً من الشيخ محفوظ نحناح. بعد أزمة 1992 شكل "لجنة الدفاع عن اختيار الشعب"، وشارك في ندوة روما ووقع على عقدها إلى جانب التيجاني هدام وآيت أحمد وبن بلا ولويزة حنون، فيما استنكر محفوظ نحناح العقد متقرباً بذلك من السلطة. كما فاز حزب السيدة لويزة حنون ب21 مقعداً. وهو أول حزب شيوعي تروتسكي في الوطن العربي يفوز بمثل هذا العدد من المقاعد. كما يمثل حزبها استثناء بين الأحزاب الماركسية العربية. فهو منغرس حقيقة في الأوساط الشعبية والنقابية ويرتبط بعلاقات احترام مع الحركات الإسلامية. كما أن زعيمته متحمسة للمصالحة الوطنية الكبرى. تبدو نتيجة الانتخابات مناسبة للجزائر لتدخل عهداً جديداً من التصالح ولتضع حداً نهائياً للعنف الدائر منذ عقد من الزمن. فهي تمتلك اليوم برلماناً "تصالحياً". كما تبدو نتيجة الانتخابات انتصاراً كبيراً لأنصار التعريب والهوية العربية الإسلامية في الجزائر ضد أنصار التغريب والفرنسة. * كاتب تونسي مقيم في جنيف.