تستعد الجزائر في 15 نيسان ابريل المقبل لخوض انتخابات رئاسية. ومنذ إعلان الرئيس اليمين زروال، في ايلول سبتمبر الماضي، قراره تقليص فترة ولايته والدعوة الى انتخابات مبكرة، بادر العديد من السياسيين الجزائريين الى إبداء نيّتهم خوض معركة الرئاسة الأولى. وإذا كانت كثرة الترشيحات دليل عافية على وجود ديموقراطية تعددية في البلد، فإنها في المقابل تُذكّر بمرحلة ما بعد دستور شباط فبراير 1989، الذي الغى إحتكار حزب جبهة التحرير الوطني للساحة السياسية منذ 1962، وفتح الباب، في فترة أشهر فقط، أمام تشكيل ما يقرب من 70 حزباً سياسياً، بعضها "مجهري" بلا شك، على حد ما يُوصف في الجزائر. فعلى أي خلفية تجري هذه الانتخابات؟ ومن هم المرشحون الأوفر حظاً؟ وما هو الدور المتوقع ان يلعبه الجيش في المرحلة المقبلة؟ خلفيات الانتخابات شكّلت دعوة الرئيس زروال الى انتخابات رئاسية مبكرة مفاجأة لكثيرين لدى إعلانها في أيلول الماضي. وسرت، في ذلك الحين، معلومات متعددة المصادر تؤكد ان قرار الرئيس الجزائري تقليص فترة ولايته يعود الى خلافات نشبت بينه وبين عدد من كبار المؤسسة العسكرية. وبحسب تلك المعلومات، فإن ضغوطاً مورست على رئيس الدولة لتنحية مستشاره الأمني الجنرال محمد بتشين الذي كان يتولى سابقاً مسؤولية جهاز الاستخبارات. وقد رفض زروال، بحسب المعلومات نفسها، التخلّي عن بتشين، وهو صديق شخصي له كُلّف بملفات عديدة بالغة الحساسية، وفضّل - عوض ذلك -التضحية بمنصبه هو والابتعاد عن الساحة. وكان لقرار زروال نتيجة سلبية على مواقع بتشين، الذي إضطر - وسط حملة إعلامية شرسة عليه - الى ترك منصبه في الرئاسة، ثم أُبعد - أو ابتعد - عن المكتب الوطني قيادة للتجمع الوطني الديموقراطي، الحزب السياسي الأكبر في البلاد. وأدى رضوخ زروال للضغوط الممارسة عليه، وتنحي بتشين عن مواقعه السياسية لم يتخلّ عن الإعلامية منها، إذ انه يُشرف على مؤسسات صحافية عدة، الى تكريس "نظرية" ان الجيش هو من دفع الرجلين الى الابتعاد عن الساحة تحضيراً للإتيان ب "رجل العسكر". المرشحون وسط هذا الجو المشحون بالغموض، جاء إعلان وزير الخارجية السابق عبدالعزيز بوتفليقة نيّته دخول المنافسة على مركز الرئاسة الأولى، وإعلان وزير الدفاع السابق الجنرال خالد نزّار تأييده هذا الترشيح، ليُعزّز المعلومات التي تفيد ان بوتفليقة هو "مرشّح الجيش". وتعززت هذه المعلومات أكثر بعدما بادرت اللجنة المركزية لجبهة التحرير الوطني، بناء على "تعليمة من فوق"، بحسب ما يُقال في الجزائر، الى تزكية ترشيح بوتفليقة بوصفه "مرشّح إجماع". وصدرت هذه التزكية، على رغم ان كثيرين من صفوف الجبهة كانوا يودّون ان يدخلوا سباق الرئاسة، ولا يزالون يرغبون في ذلك، وعلى رأسهم بالطبع وزير الخارجية السابق أحمد طالب الابراهيمي ورئيس الوزراء السابق مولود حمروش، وكذلك رئيس الحكومة السابق سيد أحمد غزالي. وتوالت، إثر ذلك، التزكيّات لبوتفليقة من الجهات المختلفة. إذ بادرت قيادة حركة النهضة، وهو حزب إسلامي صغير يتركّز في شرق الجزائر، الى تأييد ترشيحه، وهو قرار أدى الى إنقسام الحزب بإنسحاب رئيسه الشيخ عبدالله جاب الله منه وتأسيس حركة جديدة تُساند ترشيحه هو. وحصل الأمر نفسه في التجمع الديموقراطي. إذ رفض مؤيدو بتشين في هذا الحزب تزكية بوتفليقة، مما أدى الى "إنقلاب أبيض" في صفوفه تولى من خلاله مؤيدو "مرشّح الإجماع" قيادة الحزب عبر رئيس الحكومة السابق أحمد أويحيى. لكن الجناح المعارض لبوتفليقة في التجمع الديموقراطي والذي يقوده الطاهر بن بعيبش، طعن في شرعية هذا الإنقلاب وأصر على ان "ضغوطاً وتهديدات" مورست من مراجع عليا أدت الى إرغام الحزب على تأييد بوتفليقة. وفُسّر كلام بن بعيبش بأن المقصود منه الجنرال خالد نزار، الذي كان التقى الأول قبل أيام من تصريحه. وسرت تكهنات وقتها بأن نزّار حاول الضغط على بن بعيبش للسير في خط المرشّح بوتفليقة. لكن نزّار أكد انه لم يضغط على بن بعيبش، وهو أمر أكّده الأخير. في أي حال، كان كلام بن بعيبش عن "الضغوط والتهديدات" نقطة في بحر مماثل تعيشه الساحة السياسية في البلاد. إذ ان كثيرين من المرشحين المنافسين لبوتفليقة، كانوا يشاركون بن بعيبش موقفه، ويتحدثون سرّاً وعلناً عن ضغوط مماثلة لتأييد وزير الخارجية السابق في أيام الرئيس الراحل هواري بومدين. وقد رفع هذه الشكوى الى الرئيس زروال ثلاثة من المرشحين للرئاسة، هم أحمد طالب الابراهيمي ويوسف الخطيب ومولود حمروش. إذ اشتكى الثلاثة، في رسالة سُلّمت الى الرئاسة، من ضغوط يمارسها ضابط رفيع لتأييد بوتفليقة، وطلبوا منه الوفاء بتعهده ابعاد الجيش عن معركة الرئاسة وان تكون الانتخابات نزيهة وشفافة. ويبدو ان هذا التحرّك أدّى الى نتائج معيّنة. إذ إضطرت قيادة الجيش الى إصدار توضيح، عبر مجلة "الجيش" الناطقة باسم القوات المسلحة، وكذلك عبر رئيس الأركان الجنرال محمد العماري، يتضمن تعهداً بحياد المؤسسة العسكرية في الاقتراع المقبل. وتزامن هذا التوضيح، مع توضيح مماثل من الجنرال نزّار نفسه، أكد فيه ان مواقفه لا تمثّل سوى نفسه وانه لا يتحدث باسم المؤسسة العسكرية، علماً انه لم يقل مرّة انه يتكلم باسم الجيش. وأتى تأكيد الجيش حياده، مع تحرّك غير بارز - وإن كان لافتاً - لمرشح آخر للرئاسة هو زعيم جبهة القوى الاشتركية حسين آيت أحمد. إذ ما كاد الرجل يعود مطلع هذا الشهر الى الجزائر من منفاه الاختياري في جنيف، حتى غادر البلاد فجأة الى الولاياتالمتحدة بعد لقاء مع الرئيس زروال. وأدى سفره المفاجئ الى تكهنات بأنه ذهب ليقنع الأميركيين، بتأييد من الرئيس الجزائري، بممارسة ضغط على الجيش الجزائري للابتعاد عن الساحة وترك الانتخابات تجرى في شكل منافسة حرة. ولا يُعرف ما هي الاتصالات التي قام بها آيت أحمد في أميركا، لكن زيارته انتهت أول من أمس، مما يعني ان الأمور قد تتوضح في الأيام المقبلة. ولا بد، في هذا المجال، من طرح مقارنة سريعة للبرامج السياسية للمرشحين. واذا كان من ملاحظة أولى، فهي تتعلق بالمرشحين أنفسهم. إذ يؤخذ على أبرزهم، بوتفليقة، انه ابتعد عن الساحة السياسية في البلاد منذ حُسمت الرئاسة خلفاً للرئيس بومدين في 1979، لمصلحة الشاذلي بن جديد، بعدما كانت محصورة في البدء بينه وبين محمد الصالح يحياوي. كذلك يؤخذ على بوتفليقة انه لم يدل بموقف سياسي واحد من الوضع في البلد، منذ الغاء الانتخابات في 1992 وبدء العنف في البلاد. وقد كانت لبوتفليقة فرصة الوصول الى الرئاسة في بداية العام 1994، عندما اقتُرح اسمه خلفاً لرئيس "مجلس الدولة" علي كافي. لكن بوتفليقة وضع وقتها شروطاً معيّنة كان من الصعب على قيادة الجيش قبولها، مما أدى الى عرض الرئاسة على وزير الدفاع حينئذ الجنرال اليمين زروال. وإضافة الى هذه الملاحظات الخاصة بابتعاد بوتفليقة عن الساحة السياسية طوال هذه الفترة، فإن هناك ملاحظات أخرى تتعلق بمواقفه السياسية وبما يمكن ان يُقدّمه لإخراج البلاد من الأزمة. إذ لا يزال غير واضح ماذا سيكون موقفه من الجبهة الإسلامية للإنقاذ المنحلة، ولا من "الهدنة" التي أعلنها جناحها المسلح، "الجيش الإسلامي للإنقاذ"، عام 1997. كذلك لا يُعرف بالتحديد، كيف سيتعامل بوتفليقة، في حال وصوله الى الرئاسة، مع ملف المؤسسة العسكرية ودورها في المرحلة المقبلة. في المقابل، يتسم برنامج أحمد طالب الابراهيمي بوضوح أكبر، في المجال السياسي. إذ انه من المؤيدين علناً للإنفتاح على جبهة الإنقاذ والتعامل معها. وهو من مؤيدي ابتعاد الجيش عن الساحة السياسية. وليس سراً ان العديد من قياديي جبهة الإنقاذ في الداخل يعملون على دعم ترشيحه، على أساس انه المرشّح الأقرب اليهم. وإذا كان ذلك يمنح أحمد طالب أصواتاً لا بأس بها في المعركة المقبلة، فإن ذلك يُضعفه في المقابل في أوساط قيادة الجيش التي تخشى ان يستخدمه الإسلاميون للعودة الى السلطة التي كانوا على شفا الوصول اليها في بداية 1992. وعلى رغم هذا التحفظ من قادة بارزين في المؤسسة العسكرية عن طالب الابراهيمي، إلا ان حظوظه في الوصول الى موقع الرئاسة لا يمكن التهاون فيها، خصوصاً اذا جرت انتخابات نزيهة، مثلما تتعهد السلطة. وإضافة الى بوتفليقة وأحمد طالب، فإن هناك مرشحين عديدين لا بد انهم سيعلبون دوراً مهماً في الانتخابات المقبلة. ويأتي على رأس هؤلاء مولود حمروش، الذي يتقاطع موقفه السياسي كثيراً مع مواقف الابراهيمي، لا سيما من ضرورة اعتماد الحوار أساساً لحل الأزمة الجزائرية. ولحمروش، كذلك، تأييد لا يُستهان به في أوساط جبهة التحرير. وهو يتميّز عن أحمد طالب، بأن لديه نظرة إقتصادية لكيفية التعامل مع الوضع الاقتصادي في البلد، علماً انه من أول من بدأ عملية الانتقال الى اقتصاد السوق في نهاية الثمانينات، بعد انتهاء سيطرة جبهة التحرير على الحكم، إثر إضطرابات تشرين الاول اكتوبر 1988. كذلك فإن هناك مرشحاً لا يجب التقليل من فرصه في الوصول الى الرئاسة، وهو الشيخ محفوظ نحناح. إذ معروف ان هذا الرجل، الذي نافس الرئيس اليمين زروال في اقتراع 1995 وحلّ ثانياً بنسبة مرتفعة من الأصوات، يراهن اليوم على انه المرشّح القادر على جمع أصوات التيار الإسلامي، وهو تيار يسيطر على نسبة كبيرة من الشريحة الاجتماعية في البلد، وهي نسبة تتراوح بين 25 في المئة و50 في المئة مثلما يظهر من كل الانتخابات السابقة التي شهدتها الجزائر. لكن مشكلة نحناح انه لا يستطيع ضمان ان تذهب كل أصوات مؤيدي "الإنقاذ" اليه، بسبب حساسيات شخصية واختلافات في المواقف السياسية. كذلك، فإن هناك من يحاول ان يحصل على أصوات الإسلاميين لنفسه، وهو الشيخ عبدالله جاب الله الذي يعتبر قاعدته الأساسية إسلامية. واللافت في غضون ذلك، ان التيار الغائب عن المنافسة حتى الآن هو التيار العلماني، الذي يُوصف في الجزائر بأنه "التيار الجمهوري". إذ ان محاولة جمع هذا التيار تحت إطار "لجنة الدفاع عن الجمهورية" برئاسة صالح بو بنيدر فشلت فشلاً ذريعاً بداية السنة، ليس بسبب اختلاف برامج السياسيين العلمانيين رضا مالك، سعيد سعدي، والهاشمي الشريف، بقدر اختلافهم كأشخاص. ويظهر هذا التشتت في مواقف العلمانيين أكثر ما يظهر في دعوة سعيد سعدي، زعيم التجمع من أجل الثقافة والديموقراطية، الى مقاطعة الانتخابات المقبلة. وبالطبع، فإن هناك مرشحين عديدين من مختلف المشارب السياسية في البلاد يستعدون لخوض الانتخابات. لكن حظوظهم لا تبدو مرتفعة حتى الآن، وإن كان يُنظر اليهم على أنهم مهمون لمصلحة مرشح دون آخر، في حال طلبوا من مناصريهم تأييد أحد المرشحين. ويبقى في النهاية السؤال: هل يبتعد الجيش عن الحكم بعد الانتخابات؟ الظاهر حتى الآن ان الجيش سيبقى فاعلاً في الدولة الجزائرية لاعتبارات عديدة ليس أهمها بلا شك الوضع الأمني الذي تعيشه البلاد والذي يتطلب بقاء القوات المسلحة على أهبة الاستعداد لأي طارئ. كذلك، فإن الملاحظ ان جميع المرشحين للرئاسة، على اختلاف انتماءاتهم، يركّزون على موقع الجيش المميز في البلد، على اعتبار انه مؤسسة لا يمكن المس بها ولا بتضحياتها. لكن هذا التمسك بأهمية "الجيش الشعبي الوطني" لا يعني ان دوره في الساحة سيكون مضموناً في المستقبل، خصوصاً انه رسمياً خارج السلطة منذ المؤتمر الطارئ لحزب جبهة التحرير في 1988. لكن الحكم على دوره لا بد ان ينتظر حتى الانتخابات المقبلة، لمعرفة من هو الرئيس المقبل.