لا! لا يوجد أحد منكم يعرف فردوس. لم تكن نجمة سينمائية. ولا بطلة من بطلات التحرر النسوي. ولا مذيعة فضائية. ولا كاتبة مثيرة. كانت امرأة بسيطة جداً. طيّبة جداً. قابلت قدراً عاصفاً تلقته بطمأنينة وبإيمان. وعاشت حياتها في الظل. في ظل الآخرين. تخدم بصمت. وتحب بصمت. ولا تكره أبداً. وتعطي ما يتجمع لديها من نقود لأول محتاج. وعاشت طويلاً. حتى تجاوز عمرها قرناً. وبدأت الذاكرة تلعب ألعابها الماكرة. ثم بدأ الجسم ينهار. ولزمت الفراش. تذكر الله وتسبّحه. وتتحدث عن "ولدها" غازي. و"ولدها" عبدالرحمن. وقبل ليلتين أغمضت عينيها ونامت ولم تفق. وكان في وداعها "ولدها" عبدالرحمن. وجمع من الأهل. الا ان "ولدها" غازي كان بعيداً عنها. يواجه قدره العاصف. عندما سمع النبأ. في غمرة معاركه مع طواحين الهواء. وعاد مع النبأ طفلاً صغيراً. لا يعرف امه التي ماتت قبل ان يبلغ سنته الأولى. لا يعرف الا "ستي". والا "دادة فردوس". وكانت "ستي" أمّه الثانية. أما "دادة فردوس" فقد كانت أمه الثالثة. توقظه في الصباح. تلبسه ثيابه. تقص عليه حكايات ما قبل النوم. تحكي له عن "بنت بلا". تغني له "دوهة يا دوهة". تحدّثه عن "الدجيرة" وعن "الكتنمبية". وكان الطفل الصغير يصغي بولهٍ. يسرح خياله معجباً بمغامرات "بنت لا". يغمض عينيه على اصداء "دوهة يا دوهة" وزنبيل الجوز والمفتاح المخبوء لدى الحدّاد، والبقرة التي تنتظر المطر. وينام فيحلم "بالدجيرة". و"الكتنمبية". لم يكن أيامها ولا هذه الأيام! يعرف ما هي "الدجيرة". ولا ما هي "الكتنمبية". ولكن الاسم المخيف يوحي بشيء مخيف. جنية، ربما، أو غولة. تضاف الى الغولة الأخرى "أمنا الغولة". و"دادة فردوس" تعطي قصصها بحساب. ولا تفصح عن هوية الشخصيات المخيفة. و"دادة فردوس" مليئة بالحكمة الشعبية. "فناجين الهواء" عند الزكام. والزنجبيل عند الكحة. "وأولاد النصارى، يا ولدي، يتعشوا بسكوتة واحدة!". لا أدري من أين جاءت بهذه المعلومة الغريبة. ولكنها كانت حريصة ان لا يسرف "ولدها" غازي في الطعام. ان يأكل باعتدال كما يأكل "اولاد النصارى". ولم تكن تكره النصارى. كان عدد من صديقاتها من النصارى. ولم تكن تكره اليهود. كانت تشتري حاجياتها من بائعة الثياب اليهودية الجارة. في تلك الحارة الصغيرة من المنامة. "فريق الفاضل"، كما يسمّيها البعض. وفريق "كانو"، كما يسمّيها البعض الآخر. وكانت "دادة فردوس" مليئة بالنصائح. "ارفع ظهرك يا ولدي!". لو اتبع النصيحة هل أصبح ظهره مقوساً الآن؟! "لا توسخ ثيابك، يا حبيبي!". "بلا شيطنة، يا غزوة!". الطفل أصبح مراهقاً. ولكنه لا يزال ولدها. لا يزال "غزوة". الذي تحبه كما تحب الولد الذي لم ترزق به. تغدق عليه حناناً غزيراً كأمطار القارة الافريقية التي اختفت منها ذات مساء. ويعود المراهق في حضرتها طفلاً. تُخبّئ له طيبات الطعام. وتلبسه ثيابه. وتزوّده بالنصائح. وتحكي له حكايات "بنت بلا". وذات صباح اختفت "دادة فردوس". اشتاقت الى مكةالمكرمة. وذهبت الى جدة. تقابل قدراً جديداً. وتذهب كل أسبوع الى الحرم. وتحج كل سنة. وتتابع اخبار "ولدها" غازي. الذي لم يعد "غزوة". الذي أصبح، في غفلة من الزمن، وزيراً. تشير بيدها الى التلفزيون بفخر: "هذا ولدي غزوة. ربيته بنفسي". ثم تعبت من الوحدة. وعادت الى شقيقتي حياة. وهناك التقت بعبدالرحمن. وعبدالرحمن هو إبن بدر. وبدر صديقي القديم هو إبن أخي خليفة رحمه الله. وعبدالرحمن هو ولد فاطمة. وفاطمة هي إبنة شقيقتي حياة. وكان عبدالرحمن طفلاً. في الثالثة او الرابعة. وكانت "دادة فردوس" قد تجاوزت السبعين. وعندما رأته استيقظت غريزة الأم من جديد. وأصبح "دحومي" ولدها. "غزوتها" الجديد. تلبسه ثيابه. وتزوّده بالنصائح. وتحكي له القصص. وتحدّثه عن ولدها الأكبر "غزوة". الذي "فتح الله عليه". وتتوقع للولد الأصغر ان يصبح مثل الولد الأكبر. تجيء وتنطلق منها روائح البخور. والزنجبيل. والتسبيح. وتعطي نقودها القليلة للمحتاجين. وتذكر الله كل لحظة. وتحمد الله على نعمة الاسلام. وتحاول ان تتجاهل دور السنين. ولا يمر يوم دون ان تسأل عن ولدها "غزوة" الذي لم يعد يراها الا لماماً. وولدها الأصغر "دحومي" الذي سافر الى "الغربة". درس وتخرّج وعاد. رجع طفلها من جديد. تزوّده بالنصائح. وتغدق عليه الحنان. ثم أغمضت عينيها وذهبت. وحزن الجميع. وكان هناك ألم خاص لم يعرفه سوى الولد الصغير. الذي دفنها بيديه. وذهب الى غرفتها الصغيرة يقرأ القرآن. والولد الكبير. الذي توقف عن أداء عمله الرسمي. يستنشق رائحة "السمبوسك" تُقلى قبل المدفع. و"دادة فردوس" تعطيه واحدة قبل ان يفطر الكبار. وتسمح له بأن يلعق قدر "الساقودانة". وتخفي طيبات السحور ليأكلها في الصباح. قبل ان يذهب الى المدرسة. لا تعرف "دادة فردوس" ان ولدها أصبح، رغم نصائحها، "ولد بلا". لا يزال بعد ان تجاوز الستين شقياً. يزعج الناس. كما كانت تزعجهم "بنت بلا" فيحاولون التخلص منه، كما تخلصوا من "بنت بلا". ويتمنى، احياناً، لو كانت "دادة فردوس" بجانبه. تستخدم سلاحها الذري لضبط شقاوته. ان تتحول الى "نم نم". "دادة فردوس"! كيف تتحولين الى "نم نم؟". "اذا ما تبطل شيطنة أوريك!". "نم نم" المرأة الطيبة الصالحة تتحول الى غولة؟! هل كان "غزوة" يصدقها؟ أو يتظاهر بالتصديق؟ لا يهم. كان التهديد سريع المفعول. والولد الصغير يطمئن الولد الكبير انها ارتاحت. ماتت بهدوء. ماتت بسلام. وتركت "غزوة" يطوي دمعته. "يبلعها" كما كان أبوه رحمه الله يقول. ويحلم بلقاء مع "دادة فردوس". في مكان لا يختلف اسمه عن اسمها. إن شاء الله.