في طفولتي كنت أسمع حكايات جدتي لأمي، وكانت سيدة مثقفة قرأت ألف ليلة وليلة، وكانت تحكيها لنا بعد اختصارها وأحياناً كانت تضيف من خيالها وتؤلف قصصاً جديدة فيها، أي أنها كانت تحكي بتصرف. كنت أستمع لهذه الحكايات العجيبة، مبهوراً مأخوذاً قد استولى عليَّ العجب. كان العالم الذي تقدمه جدتي عالماً مسحوراً ومن ثم فهو أفضل من عالمنا الملوء بالواجبات المدرسية والعقاب. لم يكن عالم الحكايات كله جمالاً، إنما كانت فيه اشياء مخيفة، أقلها الجن الذين يملكون قدرات خارقة، وأكثرها أمنا الغولة وكانت أمنا الغولة تظهر في احرج أوقات القصة، وهي شبح ضخم لا يتبين حجمه الهائل، أيضاً فإن وجهه غارق في الظلام، ولكن هذا الظلام سرعان ما ينكشف عن هول مخيف بسبب عينين تطلقان شرراً يتحول الى نار. كانت الغولة تأكل من تجده أمامها من الاطفال، خصوصاً إذا كان هؤلاء الأطفال لا يسمعون نصائح جدتهم أو يعصون أمهاتهم أو يتأخرون في نومهم وهكذا كانت الغولة مصدر فزع لنا. ولعل أكثر ما كان فيها مخيفاً هو غموضها، فنحن لا نعرف من أين جاءت والى أين هي ذاهبة. إنها شبح يعبر أحداث القصة بسرعة، ويأكل ضحيته ثم يعاود الاختفاء. وكبرنا فاكتشفنا أن الغولة كائن خرافي لا وجود له في الحقيقة، وصرنا نضحك على ما كنا نخاف منه في الصغر. منذ يومين سمعت حديثاً جرى بين صديقين. قال احدهما لصاحبه: عندما تأتي أمنا الغولة فسوف تلتهم كل شيء أمامها... وسنذهب نحن ضحية من دون مقابل. قال صاحبه: أنت متشائم.. دعنا نتصور أن الأمر لن يكون بمثل هذا الضرر. تدخلت في الحديث متسائلاً - أيصدق أحدكما في وجود الغولة؟ قال صاحبه: إنه يتحدث عن العولمة، وهو يسميها أمنا الغولة المعاصرة... وهو يتوجس منها خيفة ويرى انها ستلتهم إنتاجنا ومن بعده ستأكلنا نحن. قلت لصاحب هذه الأفكار: ما الذي دعاك لربط العولمة بعالم الغيلان. قال: إن العولمة تنتمي لعالم الغيلان، وفي تصوري ان اكثر ما يثير المخاوف منها انها غامضة. هل تعرف أنت ما الذي تعنيه العولمة؟ هل تعرف اهدافها بوضوح؟ هل تدرك ما الذي تعنيه قوانين السوق والمنافسة؟ إن صناعتنا الناشئة سوف تتراجع امام صناعات قديمة تستطيع تقديم السلعة بأسعار لا تقاوم. ألا تعرف أن السوق هو الغول الأعظم. قلت له: ما الذي تأخذه على العولمة؟ قال: لقد تحول العالم بسبب ثورة الاتصالات والمعلومات والتكنولوجيا الى قرية واحدة، وسقطت الكتلة الاشتراكية وتفككت الامبراطورية الحمراء وأخذت هذه البلاد باقتصاد السوق ونمط الحرية الاقتصادية قدر الطاقة وصار المهيمن على هذه القرية التي تسكن كوكب الارض هو التوجه الرأسمالي ليس فقط كتوجه للنمو الاقتصادي، ولكن ايضاً كنمط للحياة ومنهج للتفكير، ونجح تفكك الاتحاد السوفياتي وانهيار الكتلة الاشتراكية أن يعطي للولايات المتحدة الاميركية قوة أكبر في فرض نظامها الاقتصادي واسلوبها في الحياة على العالم. واصبح الحديث عن العولمة يرادف الحديث عن الأمركة، واصبحت اميركا بمثابة عمدة للعالم والمتحدث باسمه اقتصادياً وسياسياً وفكرياً، وهذا ما دفع شعوب العالم المتقدم والنامي الى الاحساس بالخطر امام الطوفان الاميركي، أو الغولة الجديدة التي اطلقتها اميركا من عقالها لتأكل من تريد أن تأكله. ............. إن البناء الاجتماعي الحديث لحضارة السوق هو أساس العولمة، وتعني حضارة السوق أن الحرية المكفولة للعرض والطلب من خلال مناخ المنافسة المفتوحة هي التي تحدد قيمة الشيء أو السلعة، والسلعة مهما كانت ذات منفعة تظل عديمة القيمة ما لم تترجم الحاجة اليها في شكل قوة شرائية في السوق. أي في شكل استهلاك، ويمتد هذا المبدأ الاقتصادي الاستهلاكي إلى سائر العلاقات الاجتماعية بل إلى قيمة الانسان نفسه. باختصار يمكن القول إن العولمة تريد تحويلنا إلى سلع تأكلها الغولة التي تسمى العولمة. والتي قدمتها اميركا هدية للعالم في القرن الجديد. أحمد بهجت