عبر دراسة عرضت لها صحيفة "لوموند" لخطب صلاة الجمعة لأئمة فرنسا خلال سنوات 1999-2001، توصل عدد من الباحثين الفرنسيين إلى نتائج قد تغير بعضا من الآراء والكليشيات الموروثة، خاصة تلك التي أخذت تملأ الرؤوس منذ الحادي عشر من أيلول سبتمبر الماضي، بصحيحها وخاطئها. ومن أهم استنتاجات هذه الدراسة ان المساجد الفرنسية بعيدة، إلا في حالات نادرة، عن الخطب الحماسية التي تدعو إلى الجهاد وما شابه من دعوات متطرفة. أي أن الصورة المعروفة عن منابر صلاة الجمعة في إنكلترا لا يمكن تطبيقها على منابر خطب الإسلام في فرنسا. وهذا، بحد ذاته، أمر مهم يدعم فكرة التسامح والتفهم تجاه المسلمين في هذا البلد. فغالبية الخطب تتحدث عن المواضيع الأخلاقية وتتجنب المسائل السياسية، رغم أن الإمام يملك في فرنسا الحرية الكاملة في اختيار المواضيع التي يرغب في معالجتها. ذاك ان الخطب تهدف، قبل كل شيء، إلى تكوين ذهنية تتوجه نحو الأخلاقيات، خاصة نحو يوم القيامة عن طريق التخويف بنار الجحيم وسوء العاقبة على من يخالف الأوامر الالهية. فالخطيب هو واعظ أكثر من كونه خطيبا بالمفهوم التقليدي الإسلامي للكلمة. إلا أنه يستعمل كل فنون الخطابة العربية من درجات النبرة الصوتية وفصاحة الكلمات الرنانة وأهمية السكوت على اثر صدور الملام الجهوري. وللوصول إلى أهدافه يلجأ الخطيب أيضا إلى المسائل الحياتية المعتادة التي يعيشها الإنسان كل يوم في المجتمع الفرنسي. فالامتحانات المدرسية فرصة للحديث عن الامتحان الأكبر، ورحلات العطل الصيفية أو الشتوية تسهّل الحديث عن رحلة الانتقال الأكبر التي تنتظر كل حي على وجه المعمورة. والظواهر الطبيعية تشكل فرصة جيدة للحديث عن العقاب المنتظر وتخويف العبد منه لدفعه إلى الإيمان وممارسة الفرائض. إلا أن جميع الأئمة لا يلجأون إلى وسيلة التخويف. فهذه تبقى من أساليب الأئمة القدماء والتقليديين. أما الشباب منهم، خاصة أولئك الذين تربوا في الغرب وتعلموا بعض ما فيه من طرق في تعريف الذات الإنسانية، فانهم يلتجئون في معظم الأحيان إلى المُحاجّات والترغيب الفكري، وكأن التخويف والإرهاب النفسي والعاطفي لا يشكلان في نظرهم أداة ناجعة لاعادة الفرد إلى الإيمان، أو حثه على الالتزام بالفرائض. فالشباب أكثر تعلقا بالتجارب الاجتماعية والنفسية التي يعيشها المسلمون في مجتمع يختلف عن مجتمعاتهم الإسلامية الأصلية. انهم يتعاطون مع المجتمع الجديد بشكل إيجابي ويحثون المستمعين اليهم، وغالبيتهم أيضاً من الشباب، على الانخراط في المحيط الفرنسي، من طريق التصويت في الانتخابات على سبيل المثال لا الحصر. ولكن ما يبقى من أمور معقدة للائمة المسلمين في المجتمع الفرنسي يرتبط بواقع ان هذا المجتمع مبني أساسا على العلمانية. فرغم أنهم يقبلون بالتعايش مع الأسس الجمهورية والقيم العلمانية ويحضون على ذلك، كما يبررون هذا التعايش عبر القبول بقوانين الأكثرية وتبريره بقوانين التعايش بين الأكثرية والأقلية، ألا انهم لا يعترفون بالطابع الكوني للقيم العلمانية الذي يشكل أحد ركائز التفكير المنتشر في فرنسا. فهنا يكمن جوهر الإشكاليات التي ترسم العلاقة بين الإسلام في فرنسا والدولة الفرنسية في جميع أبعادها. ونرى جانبا ربما كان صغيرا من هذه الإشكاليات هو ما تثيره لغة الخطب. إذ تبقى العربية الغالبة على خطب الجمعة الفرنسية. ويعتمد جزء من الخطباء من حين إلى آخر على اللهجات المنتشرة في بلدانهم، خاصة لهجات بلدان المغرب. وهناك بعض الجوامع الأفريقية التي تعتمد على السونينكية التي يتحدث بها قسم من سكان السنغال وموريتانيا ومالي. أما الفرنسية فتبقى لغة الأقلية النادرة من خطباء الجوامع، رغم أن اللجوء إليها لترجمة بعض السور والأحاديث اصبح أمرا شائعاً. ويبلغ عدد الأئمة في فرنسا حوالى ألف، مقابل ما يقارب ال1500 مركز للعبادة. وهم ينتمون إلى جنسيات وقوميات متعددة وبنسب مختلفة. ف40 في المئة منهم يحملون الجنسية المغربية، و24 الجنسية الجزائرية، و15 الجنسية التركية، و9 الجنسية الفرنسية، و6 الجنسية التونسية، و4 ينتمون إلى جنسيات مختلفة أخرى. وفي فرنسا مركز يبلغ عدد طلابه وطالباته 160، يأتون من دول أوروبية مختلفة ويتابعون فيه دروسا تهيئهم لممارسة الإمامة في المساجد الأوروبية. ويقع هذا المركز في قرية بجنوب فرنسا لا يزيد عدد سكانها على عدة مئات يتعايشون تماماً مع وجود طلاب الدين المسلمين على مقربة منهم. بل ان علاقات التعايش تحسنت عما كانته قبل عشرة أعوام. مع وجود هذا العدد في هذا المركز، إلا أن عدد الخريجين منه لم يتجاوز حتى الآن ثلاثين طالبا وطالبة لأسباب بينها طول سنوات الدراسة وصعوبة المواد المدروسة. ويبدو أن المركز يحاول تكوين أئمة يستطيعون التلاؤم مع الواقع الاجتماعي الفرنسي أو الأوروبي الذي يعيشون فيه. ولم يمنع هذا الاتجاه المعلن من أن يتم اكتشاف عدد من الإسلاميين المتطرفين كانوا قد مروا به. إلا أن الأموال والمساعدات التي تصله من الخارج ساعدته على تجاوز المشاكل التي تعرض لها. فالمركز هذا يرفع، كغالبية الأئمة الفرنسيين، شعار الإسلام المتفهم لما هو مختلف والمنفتح على الآخر. وربما تعزز هذا الاتجاه نتيجةً لادراكهم أن ليس ثمة مجتمع أو دولة إسلامية يسمحان لهم بما يتمتعون به من حرية الاختلاف وحرية الخطب، كما هي الحال في فرنسا.