ما لم تعترف الإدارة الأميركية بأن سياساتها الخارجية هي محرك نظرة العالم إليها، فإنها لن تتمكن من التأثير في الرأي العام غير الأميركي عبر فنون "الديبلوماسية العامة" التي تروج لها وزارة الخارجية، أو خطة "التأثير الاستراتيجي" لوزارة الدفاع التي تتضمن أيضاً تقديم معلومات مضللة وزائفة إلى المنظمات الإعلامية الأجنبية. وما لم تعترف الدول العربية بأن سياساتها واجراءاتها داخل حدودها هي بالقدر نفسه من الأهمية، ان لم يكن أهم، مما يجري على حدودها، سيزداد غرق شعوب المنطقة في الاحباط السياسي والاقتصادي وتزداد الهوة مع بقية العالم. ومهما تهافت البعض في الساحتين الأميركية والعربية على لوم الآخر واعفاء الذات، فلن يفيد التهرب من ضرورة اصلاح السياسات، بل إن لهذا التهافت نزعة تدميرية، فيما الحاجة ملحة إلى مواقف بناءة. منذ فترة تعكف المؤسسات الفكرية على مساعدة الحكومة الأميركية في صياغة توجهات جديدة لكسب الفهم والتعاطف والدعم للولايات المتحدة وحربها على الإرهاب في أعقاب 11 أيلول سبتمبر، خصوصاً في الأوساط الإسلامية والعربية. وتقوم وزارة الخارجية بوضع استراتيجية "الديبلوماسية العامة" بهدف تصحيح الصورة الأميركية وتحسينها في ذهن الآخرين. هناك فكرة لدى البعض في الأوساط الفكرية والحكومية المعنية بأن الرسالة في حد ذاتها ليست الأهم، وان المهم هو وسائل ايصال الرسالة، أي أن طريقة الاخراج أهم من الفحوى، والتسويق الدعائي المتفوق قادر على تفويت السياسات الناقصة أو الخاطئة. هذا التوجه خطير في فذلكته وليس فقط في جهله. فأميركا لن تنجح في مخاطبة الرأي العام العالمي ما لم تعدّل سياساتها، ومثل هذه العقلية تنطوي على نمط التحقير لذكاء الملايين من المسلمين والعرب ومشاعرهم. ففحوى الرسالة هو نقطة التباعد أو التقارب بين الولاياتالمتحدة والعالمين الإسلامي والعربية. والرسالة أساساً هي السياسة الخارجية، وينطبق عليها التعبير الأميركي الشهير "انها السياسة يا غبي"! الأخطر هو ما صدر هذا الأسبوع في صحيفة "نيويورك تايمز" عن استعدادات تقوم بها وزارة الدفاع البنتاغون لكسب تعاطف الرأي العام غير الأميركي ليس فقط بين "الأعداء"، وإنما أيضاً بين "الحلفاء" في الشرق الأوسط وآسيا وحتى أوروبا الغربية. ففي البنتاغون الآن مكتب جديد يسمى "مكتب التأثير الاستراتيجي" تم انشاؤه لمعالجة قلق الإدارة الأميركية من خسارة أميركا الدعم الشعبي في الخارج لحربها على الإرهاب، خصوصاً في الدول الإسلامية. والفكرة الرئيسية تتضمن تقديم معلومات للمنظمات الإعلامية الأجنبية، قد تتضمن مواداً اخبارية زائفة، للتأثير في الرأي العام الأجنبي وراسمي السياسة الإعلامية. وتراوح الحملات الإعلامية هذه بين الحملة "السوداء" التي يُستخدم فيها التضليل المتعمد والنشاطات السرية، والحملة "البيضاء" التي تقول الحقيقة عبر بيانات صحافية. وزارة الدفاع الأميركية ووكالة الاستخبارات المركزية يمنعهما القانون الأميركي من القيام بنشاطات دعائية داخل الولاياتالمتحدة. ولأن المؤسسات الإعلامية الأجنبية مثل "رويترز" أو "الوكالة الفرنسية للأنباء" مشمولة في الحملات السوداء والبيضاء، يخشى الناقدون لهذه السياسة أن تعود المعلومات المشوهة والمضللة والزائفة إلى داخل الولاياتالمتحدة عبر هذه الوكالات الكبيرة، بما يؤدي إلى عمل "غير قانوني" للبنتاغون. هذا التفكير داخل البنتاغون يقوّض ليس فقط صدقية الإدارة الأميركية، وإنما أيضاً الاصول الاخلاقية والمهنية للعمل الصحافي وللعلاقة بين الحكومة والإعلام من جهة، وبين الحكومة الأميركية وحكومات الدول الأخرى من جهة أخرى. إنه توجه خالٍ من المسؤولية نحو المؤسسات الإعلامية ونحو الرأي العام الذي يُزعم أن الهدف هو كسبه. وهو فكر مؤذٍ للولايات المتحدة في حد ذاتها وينطوي على عقلية العنجهية والغطرسة نحو "اللاأميركي" من رأي عام واعلام وحكومات. حتى لو قررت وزارة الدفاع إلغاء هذين الفكر والعقلية في "مكتب التأثير الاستراتيجي"، فإن الأذى قد وقع، وأخذت الشكوك طريقها حتى إلى الحقيقة. فمن الأفضل للبنتاغون استدراك افرازات التفكير بمثل هذا الاحتمال عن طريق سياسات جديدة وضرورية بأكبر قدر من الشفافية الممكنة. فضح رجال البنتاغون قصورهم بالمغالاة والمكابرة، بينما هم في تقصير كبير ازاء الرأي العام الأميركي والعالمي ونحو الإعلام. فهم يديرون الحرب في أفغانستان بتعتيم تام على عدد الضحايا المدنيين. ويزعمون الانتصار على تنظيم "القاعدة" بلا أدلة. وأول ما على الإعلام الأميركي أن يفعله هو الخروج قليلاً عن نمط الخضوع، إما تحت ذريعة "الأمن القومي" أو تجاوباً مع مشاعر "الوطنية" ليقوم بما تمليه المهنة، وهو المحاسبة والإصرار على الكشف والاطلاع. قلة بعض المعلقين بدأت تفعل ذلك. طالبت بالكشف الدقيق والصحيح عن عدد الضحايا المدنيين، كما بالكف عن حجب المعلومات في شأن المحطات المقبلة من الحرب على الإرهاب وذرائعها. كذلك طالب البعض وزارة العدل بإعلان اسماء الموقوفين والمعتقلين بذريعة أو بأخرى وبإعلان الأسباب والذرائع لاعتقالهم. فلا يجوز الانزلاق في الفكر الأمني بتجاوزات على نسق ما تقوم به وزارتا الدفاع والعدل الأميركيتان. والملفت أن في صفوف الإدارة الأميركية رجالاً ونساء بأعلى درجات القدرة والذكاء، وان هناك سياسات لهذه الإدارة مهمة نوعياً، جيدة ومشجعة، تذهب ضحية الفكر الأمني أو تعلو عليها سطحية المواقف المرحلية. فبدلاً من بذل الجهود في وسائل كسب الود لأميركا ومواقفها، الأفضل للإدارة الأميركية شرح سياساتها بجرأة البوح بما تنوي القيام به، خصوصاً إذا مضت قدماً بالعزم على تصحيح هذه السياسات وإصلاحها. فالفكر السياسي ليس ببساطة آخر موقف نحو آخر التطورات، خصوصاً إذا كان استراتيجياً. وفي هذا المنعطف صعب الحسم إن كان التفكير الاستراتيجي سيد الساحة في الإدارة الأميركية أو كانت حقاً إدارة صبيانية تلتحق بالتطورات بسطحية العظمة العسكرية. في هذا المنعطف، ليس واضحاً إذا كانت التجاوزات الخطيرة من صنع مجموعة متطرفة داخل الإدارة أو حولها، أو ان كانت السذاجة هي التي تسيطر على القرارات. فمن المبكر الحكم القاطع على هذه الإدارة وسياساتها وتوجهاتها وعقيدتها. ليس من المبكر أبداً أن تبدأ الحكومات العربية باستدراك ما سيؤدي إليه نهجها السياسي والاقتصادي في إطار الاستراتيجية البعيدة المدى لمستقبل المنطقة وشعوبها. صحيح أن القضايا السياسية، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، تشكل أساس الفكر والعاطفة العربية، خصوصاً أنها قضية عادلة تقع ضحية استبداد حكومة متطرفة في إسرائيل. وصحيح أن القلق على العراق ومن حكومته يسيطر على الأجواء العربية، الحكومية والشعبية، إنما الصحيح أيضاً أن تخلّف المنطقة عائد أيضاً إلى ما يحدث داخل حدود الدول العربية نتيجة سياسات اقتصادية واحتجاجية وسياسية تعيق التطور والنمو والازدهار. فالتقرير الذي صدر عن مجلس العلاقات الخارجية في نيويورك، ونشرته "الحياة" أمس يبين كيف أن هناك حاجة للتغيير في العقلية لدى الحكومات العربية. يبين أسباب البؤس وفقدان الأمل الناتج عن التخلف والركود الاقتصادي الذي يتميز به هذا الجزء من العالم، وكيف كان الأداء الاقتصادي للعديد من دول المنطقة خلال ربع أو نصف القرن السابق مخيباً للآمال، على رغم ثروة النفط العظيمة. يبين كيف يساهم الفساد، وتجاهل الأمية التي تصل نسبتها إلى 40 في المئة، ومقاومة الاصلاح والخصخصة، واستغلال الكوتا والترخيص والضرائب والاحتكارات، في بؤس المنطقة اليوم وتدهورها أكثر غداً. فهنا أيضاً يحدث التضليل وتشويه الحقائق في حملة أقل علنية هدفها تحويل الأنظار عن واقع سيئ وسياسات أسوأ من خلال التركيز حصراً على قضايا المنطقة السياسية استيعاباً للغضب من السياسات داخل الحدود. لذلك، لا فائدة في تبادل الاتهامات الأميركية - العربية من منطلق مَن هو الأكثر زيفاً وتضليلاً، وعلى أي من الطرفين تقع مسؤولية بؤس المنطقة. كلاهما قام بالواجب على حساب شعوب المنطقة. وعلى الاثنين استدراك الأسوأ من خلال اصلاح حقيقي وصادق للسياسات والفكر والتوجهات في الساحتين الأميركية والعربية.