عندما نجح باراك اوباما في تولي رئاسة الولاياتالمتحدة وبعد خطابه المشهور إلى العرب والمسلمين في جامعة القاهرة، ظن الكثير منهم، أن العلاقة مع أميركا ستشهد عهداً جديداً أفضل بكثير من العهود السابقة. موقف الولاياتالمتحدة من مشروعها للسلام في فلسطين، خصوصاً وقف بناء المستوطنات، تصدى له نتانياهو فاضطر الرئيس الأميركي إلى التراجع والانحناء للإدارة الإسرائيلية. ويأتي موقف أوباما ونائبه تجاه حصار غزة وقتل المدنيين الذين كانوا على باخرة الحرية المتوجهة إلى غزة، متخلفاً عن الموقف الدولي معطياً اسرائيل الحق في حصار غزة وقتل أهلها جوعاً لحماية أمن إسرائيل من صواريخ لا تغني ولا تسمن من جوع. في ما يأتي أتناول جوهر مشكلة العلاقة السياسية الخارجية بين الولاياتالمتحدة والدول العربية كما أراه، في الجانبين الأميركي والعربي. في الجانب الأميركي: الشعب الأميركي كبقية شعوب الأرض محب للسلام وللحياة. وللديمقراطية والعدالة وحكم القانون وزن كبير في ثقافته السياسية والاجتماعية الحاكمة العلاقةَ بين الأفراد وبينهم وبين حكومتهم. في أميركا جامعات ومؤسسات بحث علمية متقدمة، ولديها اقتصاد قوي وتقنية عالية. الشعب الأميركي يلعب دوراً هاماً في اختيار قياداته في فروع الدولة الثلاثة، التنفيذي والتشريعي والقضائي. لذا، فإن هناك ترابطاً بين رغبة الشعب وتوجهاته وبين السياسات الحكومية والبرلمانية بما في ذلك العلاقات الخارجية مع العرب ومع غيرهم. الحكومة الأميركية التي يمثلها الرئيس ونائب الرئيس والجهة التشريعية التي يمثلها «مجلس النواب» و «مجلس الشيوخ» وأخيراً موجهات الرأي العام من صحافة وتلفزيون (السلطة الرابعة) كلها مؤسسات تساهم في شكل مباشر في صناعة القرار وتوجيه السياسة الخارجية. وهنا يجب الإشارة إلى أن الدستور والأعراف السياسية الأميركية تسمح للجماعات المختلفة أيضاً بممارسة ضغط على الحكومة وعلى مجلس الشيوخ ومجلس النواب للدفاع عن مصالحها، ومن أقوى هذه المنظمات ذات التأثير القوي منظمة (أيباك) الأميركية اليهودية للدفاع عن إسرائيل ومصالحها. في الجانب العربي: الشعب العربي هو أيضاً كبقية شعوب العالم محب للسلام وللحياة وللعدالة، أما تعلقه بالديموقراطية وحكم القانون فلا يزال في مرحلة التكوين. الشعوب العربية طوال حياتها السياسية لم تنعم بالديموقراطية أسلوبَ حكم ولم تعش تحت ظلالها. والحكومات العربية بكل أنواعها وأشكالها تختزل القوة والحق في صنع القرارات الداخلية والخارجية بما في ذلك السياسة الخارجية تجاه الولاياتالمتحدة وغيرها من دول العالم. قرار السياسة الخارجية في الولاياتالمتحدة يحتاج وقتاً لكي يكتمل وينضج نظراً للعوامل المكونة معادلةَ صنعه. أما المعادلة العربية فهي سهلة وبسيطة لأنها مكونة من عامل واحد هو العامل الحكومي الذي يختزل العوامل الأخرى وينوب عنها. وقد يتأخر القرار المتعلق بالسياسة الخارجية في بعض الدول العربية ليس بسبب تعدد العوامل التي يجب أن تحدد موقفها من القرار، ولكن بسبب عدم وضوح الرؤية لدى الحكومة أو عدم قدرتها أو رغبتها في الخروج بقرار. إذا طبقنا هذا النموذج Model المبسط لآلية صنع القرار السياسي في الولاياتالمتحدة لمحاولة فهم طبيعة موقفها من القضية الفلسطينية وعلاقتها بالدول العربية، فسنجد ما يأتي: 1- الرأي العام الأميركي يتبنى في شكل عام المواقف الآتية: أ- إسرائيل البلد الديمقراطي الوحيد في المنطقة العربية. ب- إسرائيل الحليف الأهم والأقوى في المنطقة للولايات المتحدة. ج- إسرائيل هي صاحبة الحق في الأرض بحسب تعاليم التوراة، والعرب هم المعتدون عليها. هذه المواقف يغذيها ويدعمها: • ضعف وانعدام الديمقراطية والحقوق الإنسانية للمواطن في البلاد العربية. • قوة العلاقة الدينية والتاريخية بين اليهودية والمسيحية. • تأثر الغرب بالمحرقة اليهودية (Holocaust) واستغلال الدعاية الصهيونية هذه المحرقة، لتذكير الغرب بجرائمه وإشعاره بالذنب. • قوة اللوبي الصهيوني في التأثير في الرأي العام الأميركي، مستخدماً الوسائل الإعلامية وغير الإعلامية. 2- الحكومة الأميركية ومجلس الشيوخ ومجلس النواب: هذه المؤسسات التنفيذية والتشريعية تخضع لقوانين الانتخاب، لذا يصعب على أي رئيس أو عضو في مجلس الشيوخ أو مجلس نواب، أن يُنتخب إذا كان له موقف معارض لإسرائيل، حتى وإن كان الأمر يعتبر إلى حد ما مخالفاً للمصالح الأميركية. 3- مؤسسات الضغط وتوجيه القرار: تعتبر المؤسسات اليهودية الأميركية والمؤسسات المتعاطفة معها، من أهم مؤسسات الضغط وتوجيه القرار والرأي العام في الولاياتالمتحدة وتتمتع بدعم مالي ومعنوي قوي جداً من قوى سياسية واقتصادية كبيرة يجعلها قادرة وفي شكل فعّال في التأثير في مجلس النواب ومجلس الشيوخ سواء من الحزب الجمهوري أو الحزب الديموقراطي، في أي أمر يتعلق بإسرائيل وعلاقتها مع العالم العربي. مما تقدم يمكن أن أحدد في شكل عام المرتكزات الأساسية التي تقيم عليها الولاياتالمتحدة علاقتها مع العالم العربي في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية وأوجزها بعاملين أساسيين هما: أولاً : تؤيد غالبية الشعب الأميركي إسرائيل تاريخياً وسياسياً، هذا الموقف السياسي تغذيه القوى المؤيدة والموالية لإسرائيل صباح مساء مستخدمة جميع الوسائل المتاحة قانونياً وعملياً. ثانياً : ترى غالبية الشعب الأميركي أن الحكومات العربية، مع بعض الاختلافات البسيطة، حكومات غير ديموقراطية ولا توفر لمواطنيها حريتهم وحقوقهم الإنسانية. إذا أضفنا أولاً إلى ثانياً في الفقرة السابقة أي إذا أخذنا الصورة السالبة للقضية الفلسطينية والعرب في أعين وعقول الشعب الأميركي بصفة عامة وأضفنا اليها الصورة السالبة لممارسات الحكومات العربية داخل أوطانها في مجال الديموقراطية والحرية وحقوق الإنسان فسنعرف سبب وقوف أي رئيس دولة وأي حزب وأي عضو شيوخ أو مجلس نواب في أميركا، إلى جانب إسرائيل في كل الظروف والأحوال على رغم الإجرام الإسرائيلي في حق الشعب الفلسطيني وعدالة القضية الفلسطينية. ولا يجرؤ أي منهم على إدانة جرائم إسرائيل الواضحة للعيان. هنا يبرز السؤال الملح عند كل مواطن ومثقف عربي. كيف يمكن التعامل مع هذه المعضلة الكبيرة؟ فمن جهة، الولاياتالمتحدة بشعبها الكبير وعلمها العزيز واقتصادها القوي وديموقراطيتها وقانونها الذي لا يفرق بين الرئيس والمواطن العادي، قوة عظمى لها مكانتها في المجتمع الدولي ولها موقعها في التاريخ المعاصر، ومن جهة أخرى فإن الولاياتالمتحدة شعباً وحكومة توجه الينا عرباً ومسلمين الطعنات الواحدة تلو الأخرى، في صميم قضية هي في صميم قلوبنا وعقولنا وتاريخنا وهويتنا العربية والإسلامية. قضية بكل والمعايير عادلة لا تطلب أكثر من تأمين وطن وحياة كريمة لشعب عربي نبت في أرض فلسطين منذ آلاف السنين. قضية تقبل الآخر على رغم جرائمه وتاريخه الاحتلالي ولا تلغيه، كما تقبل دولة إسرائيلية إلى جانب الدولة الفلسطينية. إجابتي على السؤال الاستراتيجي الملح تأسيساً واسترشاداً بعلاقتي بهذه القضية منذ وطأت قدماي الولاياتالمتحدة للدراسة في عام 1966 وولجت من وقتها في قضايا وتداعيات الصراع العربي - الفلسطيني - الإسرائيلي - الأميركي الذي أوقدته حرب 1967 ولم تنطفئ ناره حتى تاريخه، هي باختصار: أولاً: بالنسبة الى انحياز الشعب الأميركي لإسرائيل وقيام مؤسساته المدنية والإعلامية بتهميش وتشويه كل ما يمكن أن يبرز الوجه العادل والإنساني للقضية الفلسطينية والعرب، ودعم وإعلاء كل الأصوات والبحوث والدراسات والمقالات التي تبرز إسرائيل بوجه حضاري وديموقراطي، فإنه على رغم هذا الموقف المنحاز وعلى رغم أهمية الرأي العام الأميركي وأثره المباشر والقوي في رسم الشكل النهائي لمعادلة العلاقة الأميركية العربية، خصوصاً في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية، إلا أنني متفائل في إمكانية تخفيف أثر هذا العامل على الموقف الأميركي من القضية الفلسطينية في الأمد الطويل. صحيح أن القوى السياسية والاقتصادية والإعلامية المساندة إسرائيل في الولاياتالمتحدة والمضادة للعرب والفلسطينيين، قوية ومتشعبة ومنتشرة في النوادي السياسية والاقتصادية والجامعات ومعاهد البحوث السياسية، لكن القضية التي في أيدينا قضية عادلة جداً، والشعب الأميركي وأي شعب آخر بكينونته البشرية والإنسانية ينزع إلى العدل. رأيت بنفسي ومن خلال تجاربي تحولاً في رأي الشعب الأميركي في هذا الاتجاه، وإن لم يكن التحول قوياً ومؤثراً في صياغة الموقف الأميركي تجاه القضية الفلسطينية إلا أنه لا يزال مهماً ومتنامياً مع الزمن. ثانياً: في ما يتعلق بغياب الديموقراطية والحرية من الأوطان العربية فإنها مربط الفرس، لأنها الوجبة الدسمة التي تقدمها الحكومات العربية للمجموعات والمؤسسات الأميركية المعادية والمناهضة للعرب وللقضية الفلسطينية ولكل تقارب عربي - أميركي شعبي وحقيقي. ففي كل يوم يطالع الشعب الأميركي في التلفزيون وعلى صفحات الجرائد اليومية والكتب والنشرات المختلفة صوراً شتى لحياة المواطن العربي في وطنه، صوراً لا ينسجم الكثير منها مع مبادئ الحرية والعدالة وحقوق الإنسان وهي مبادئ مقدسة لدى الشعب الأميركي، على الأقل من حيث العقيدة السياسية والدستور. قد يكون في بعض هذه الصور نوع من التضخيم لتعظيم الأثر في المتلقي، وتشويه الصورة العربية في شكل أسوأ، لكنها في نهاية الأمر صور حقيقية مصنوعة في البلاد العربية. هذا هو العامل الأهم والاستراتيجي في معادلة العلاقة الأميركية - العربية، وهنا لا أجدني بنفس التفاؤل المتعلق برؤية الشعب الأميركي ووجهة نظره المنحازة لإسرائيل في ما يخص عدالة القضية الفلسطينية. خلق ونشر الديموقراطية وحقوق الإنسان في العالم العربي يتطلب أن يخرج الحكام العرب من مكاتبهم ليدخلوا إليها هم أو غيرهم من باب الشارع العربي وليس من باب الجيش العربي. وهذا يبدو صعباً. كما أنه يتطلب أيضاً شعباً يقفل كل الأبواب ويفتح باب الالتزام بالحرية والديموقراطية مطلباً. وهذا يبدو صعباً أيضاً لأن الشعب العربي لم يعرف في تاريخه إلا باب القبلية أو الخلافة مدخلاً للحكم والحكام. إن تحويل معادلة صنع القرار السياسي في العالم العربي من معادلة يحكمها عامل واحد One variable إلى معادلة ذات عوامل مختلفة ومتغيرة Multi variable يبدو صعباً من الناحية السياسية والاجتماعية، لكن هذا الأمر على رغم صعوبته أمر جوهري وأساسي إذا ما أريد ترشيد القرار السياسي العربي، وإذا ما أريد أيضاً ترشيد القرار السياسي للعالم الخارجي تجاه العالم العربي سواء من الولاياتالمتحدة أو غيرها، وسواء كان الأمر يتعلق بالقضية الفلسطينية أو غيرها من القضايا. ما يدور اليوم في الساحة الثقافية والفكرية العربية بخصوص العلاقة بين الحاكم والمحكوم، يتمحور حول نقطة جوهرية واحدة هي: كيف يمكن أن نعيد هيكلة مؤسسات الحكم والدساتير العربية، ليصبح رأي المواطن حجر الزاوية في بناء الدولة ومؤسساتها وفي رسم حياته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. هذه المهمة صعبة جداً لكنها ليست مستحيلة، فليس في أدبيات المواطن العربي السياسية والفكرية التراثية والراهنة، ما يؤسس لحرية الفرد أن تكون العامل الأساسي في بناء الحياة الاجتماعية والسياسية، فكيف له أن يطالب بها، ويلهث وراء تحقيقها وهو لم يذق طعمها ويعرف حلوها ومرها. والحاكم العربي ليس في أدبياته، الماضي منها والحاضر، ما يجعله قادراً على التنازل عمّا يعتبره حقاً إلهياً أو ثورياً. الخروج من هذه المعضلة للعلاقة بين الحاكم والمحكوم في العالم العربي، لن يكون على يد الجيوش العربية، إذ ثبت فشل هذا الحل، فالديموقراطية لا تخرج من أفواه المدافع والبنادق، الحل يبدأ بوصول الحاكم العربي إلى قناعة جذورها سياسية تاريخية منطقية، وجوهرها التدرج في إشراك المواطن في القرار والتنازل التدريجي عن احتكاره. هذا النهج سيؤدي في نهاية المطاف إلى ترشيد القرارات وإلى إطالة عمر الحاكم العربي، ليس في كرسي الحكم فقط، وإنما وهذا الأهم، في كرسي التاريخ الوطني. إنها مبادلة، الرابح فيها هو الوطن والمواطن والحاكم. الحرية والديموقراطية التي يمكن صياغتهما وهيكلتهما لتناسبا ظرفنا التاريخي والاجتماعي، من دون تحريف وتشويه، فيكسب الوطن بمواطنيه وحكامه، احترام الشعوب الأخرى وحكامها. الحرية والديموقراطية هما المقياس العالمي اليوم لمدى تقدم الشعوب، وعلى هذا المقياس يتم ترتيب الأمم في السلم الحضاري العالمي. ومن خلال هذا الموقع تكسب الأمة أو تخسر تعاطف شعوب العالم وتأييدها قضاياها العادلة، تأييداً ودعماً ليسا من باب العطف والإنسانية وإنما على أساس القيم والمبادئ الحضارية والإنسانية المشتركة، انه دعم قائم على قوة المبدأ وليس على ضعف الحال. * كاتب سعودي