عرف عالم العرب والإسلام، في القرن الثاني عشر الهجري/ الثامن عشر الميلادي، عدداً من كبار العلماء، الذين قاموا في مشرقه ومغربه. هؤلاء أعادوا الى الشؤون الأصيلة في الإسلام العناية الجدية بها، بعد ان مرت عليها بضعة قرون وهي في منأى عمن يعنى بهذه الناحية منها. وقد توزع هؤلاء الأقطار المختلفة. هؤلاء العلماء وهم نماذج لعدد كبير منهم، عنوا بالفقه والتفسير والحديث والشؤون الإسلامية أصلاً، لكن كان لكل منهم ناحية خلطها بنفسه وكان له فيها باع طويل كعلم اللغة أو التاريخ أو كتابة تراجم الرجال. ويأتي في مقدمة هؤلاء محمد بن عبدالوهاب الذي قام بحركة اصلاحية كبرى كان جوهرها تخليص الإسلام مما علق به من زوائد وأمور ليست هي في جوهره. أراد ان يزيل ما تراكم حول الإسلام الصحيح من شوائب وزوائد ليست هي منه أصلاً. وقد انتشرت الحركة من نجد الى الجوار، ولا تزال تقوم بهذه المهمة على أيدي أولي الأمر في المملكة العربية السعودية وقطر وسواهما. أما في أيامها المبكرة فقد وصلت أصداؤها المغرب نفسه. وانصرف عبدالغني النابلسي الى احياء التصوف في بلاد الشام، وعُني السويدي بالتقريب بين السنّة والشيعة عبر مؤتمر تخيل عقده في النجف الأشرف حيث عرضت الأمور الإسلامية الصحيحة، ووضع في ذلك كتاباً أسماه "الحجج القطعيّة لاتفاق الفرق الإسلامية". وأثار الشوكاني قضية الاجتهاد ولم ير ان بابه أُغلق، ولذلك دعا الى التعمق في دراسة الفقه واستنباط قواعد جديدة على ما قام به السلف الصالح. ودعا شاه ولي الله الدهلوي الى وجوب تفهم الأجواء الاجتماعية والسيكولوجية للجماعات الإسلامية كي تتمكن الهيئات التي تصدر عنها الآراء والفتاوى من العمل على فائدة المجتمع ومصلحته. وعني كثيرون بكتب التراجم. فوضع المرادي "سلك الدرر في أعيان القرن الثاني عشر"، وضمن الجبرتي كتابه "عجائب الآثار" عدداً كبيراً جداً من التراجم. وفي تونس وضع حسني خوجه "الذيل لبشائر أهل الإيمان". على ان كلاً من هؤلاء العلماء عني بالاقراء والتدريس فترة في حياته، ولعل بعضهم قضى حياته في ذلك. وثمة من ولي شؤون الحكم. فقد ولي الزياني الوزارة وأصابه ما يصيب من يتولى مثل هذا المنصب من رفع وخفض، وكان الشوكاني اليمني يشغل وظيفة كبيرة في الدولة. كذلك وُُلّي النابلسي قضاء دمشق الشام بعض الوقت. ومما يجب ان نتنبه اليه هو ان هؤلاء العلماء كانوا على تواصل دائم فيما بينهم. فقضاء فريضة الحج والرحلة في طلب العلم كانتا عوناً على ذلك. الزبيدي هذا العالم الكبير عراقي الأصل هندي المولد. ويرجح ان يكون أسلافه قد رحلوا من واسط بالعراق الى شمال الهند في أعقاب احتلال هولاكو لبغداد 656/1258 وتدميرها. ومن هنا تضاف الواسطي الى أسماء الرجل. ومعنى هذا ان أجداده كانوا قد أقاموا في الهند ما يقرب من خمسة قرون قيل ان ولد "محمد بن محمد بن محمد بن عبدالرزاق في المحرم من سنة 1145 1732. أما لقبه الذي غلب عليه في وقت مبكر فهو المرتضى. أما الزَبِيدي فنسبة الى زبيد في اليمن، إذ أقام هناك بعض الوقت. واسمه الكامل على ما يظهر على تاج العروس فهو: محب الدين أبو الفيض السيد محمد المرتضى الحسيني الواسطي الزَبِيدي ثم المصري. اتصل الفتى محمد، وهو بعد يافع، بجماعة من كبار العلماء في الهند. منهم الإله أبادي وولي الله الدهلوي. وكان هذان لا يقبلان بالتقليد المألوف في ما يعقدان من مجالس أو يضعان من بحوث أو يلقيان من دروس. وكان سبيلهما العودة الى الكتاب والسنّة. فنشأ المرتضى وهو لقب غلب عليه في وقت مبكر وهو يمقت التقليد. في السنة السابعة من عمره ترك المرتضى الهند ودخل اليمن، ليغرف من علم أهلها. وعندنا ان الصلات التجارية القوية التي كانت قائمة بين الهند واليمن يومها، كانت ذات أثر في هذا الاختيار. ذهب الى زَبِيد أولاً، وهي مدينة العلم والعلماء وخزائن الكتب. الا انه خلال السنوات الخمس التي قضاها في الجزيرة العربية تنقل بين زَبِيد وبيت الفقيه والقُطَيّع واللُّحَيّة والمنصورية في اليمن، وفي الحجاز قضى وقته في مكةالمكرمة والمدينة المنورة والطائف. لما هبط الزَبِيدي مصر سنة 1167/ 1754 كان شاباً في الثانية والعشرين من عمره، وكان عالماً بما لا يقاس من السنين. نزل الزَبِيدي في مصر بخان الصاغة أو وكالة الصاغة، وقد ظلت هذه المحلة مسكنه العلمي، حتى بعد ان تزوج وانتقل الى بقعة أخرى للعيش فيها. ويبدو ان وكالة الصاغة كانت نقطة يلتقي عندها الناس على اختلاف درجاتهم في العلم والعمل والمجتمع والاهتمام بالتراث والشؤون العامة. فكان أن عُرِف الرجل وشُهِر عن هذا السبيل. ظل الزبيدي حتى آخر عمره يطلب المزيد من المعرفة ويسعى وراء الحقيقة: كان شأنه في ذلك شأن السلف الصالح يلحق بالمعرفة مفتشاً عنها، باحثاً عن سدنتها، منقباً عن مظانها. فقد زار مدن الشمال مثل رشيد ودمياط وسواهما، وتنقل في الصعيد. وكان الى عنايته الشديدة بالعلم والعلماء، يهتم بالتصوف ورجاله. وقد ألبِسَ "الخرقة" أربع مرات أي انه انضم الى أربع طرق صوفية. وقد زار بيت المقدس وعرج على يافا والرملة. قضى الزَبيدي في مصر نحو أربعة عقود حتى وفاته سنة 1205/ 1790، كان فيها محدثاً ومدرساً ومؤلفاً، وفي كل حال، مفيداً نافعاً. وقد فرضت له الدولة العثمانية مرتباً محترماً بدءاً من سنة 1191/ 1777. وكان قد تزوج واستقر في حياته. ولما توفيت زوجته زُبيدة 1196/ 1782 تأثر بذلك وبعد مدة لزم بيته واحتجب. وقد جاء في "عجائب الآثار" للجبرتي: "ولما بلغ المرتضى ما لا مزيد عليه من الشهرة، وبَعُد صيته عند الخاص والعام، وكثرت الوفود اليه من سائر الأقطار، وأقبلت عليه الدنيا، لزم داره واحتجب عن أصحابه. ورد الهدايا التي كانت تنهمر اليه، حتى هدايا الملوك". وظل في عزلته تلك الى ان توفي بالطاعون سنة 1205/ 1790، ودفن الى جانب زوجته. وقد أخرج صلاح الدين المنجد انه لم يعلم أحد بوفاته ولا أتيح لعلماء مصر تشييعه. الجبرتي عن الزبيدي يقول الجبرتي في وصف الزَبِيدي انه كان "نحيف البدن، ذهبي اللون معتدل اللحية" وكان يعتمّ مثل أهل مكة عمامة منحرفة بشاش أبيض، لها عذبة مرخية على قفاه، ولها حبكة وشراريب حرير طولها نحو متر وطرفها الآخر داخل طي العمامة. وكان لطيف الذات حسن الصفات بشوشاً كثير الابتسام وقوراً محتشماً مستحضراً للنوادر والمناسبات لوذعياً ذكياً فطيناً ألمعياً، ما له في سعة الحفظ نظير". وضع الزَبِيدي نيفاً ومئة كتاب منها ثلاثة معاجم لشيوخه: الكبير والصغير وألفيّة السَّنَد، وفي هذا الكتاب يشير الى اهتمامه بالعلماء والكتب. وله، بين كتبه الصغيرة، "اتحاف الاخوان في حكم الدخان" و"اتحاف بني الزمن في حكم قهوة اليمن". لكننا عندما نبدأ في الحديث عن كتبه الكبيرة فلا بد ان تستوقفنا أمالي الزَبِيدي الحديثية التي وصلت اربعمئة مجلس. والذي نحصل عليه من الجبرتي هو ان المرتضى الزبيدي أحيا طريقة المحدثين القدامى في قراءة الحديث في المجالس الحديثية. وذكر كيف يحمل تلاميذه، عندما كان يدعى الى بيوت الأعيان، فلا يجعل الدعوة للطعام، بل يقرأ لهم الحديث لينتفعوا به. إذ كان بين التلاميذ الذين يحملهم القارئ والمستملي والكاتب. فيقرأ هو الزبيدي أو يملي ويسمع الجماعة وفيهم صاحب البيت وأولاده وبناته ونساؤه، وراء ستر، وبين أيديهم مجامر البخور بالعنبر والسند والعود، تكريماً لمجالس الحديث. ثم يكتب طبقة السماع. ويؤكد الجبرتي ان علماء مصر ما كانوا يعرفون ذلك قبل أيام المرتضى الزَبِيدي. وهذه المجالس بلغت الأربعمئة. الا ان الأثرين الكبيرين اللذين خلدا الزبيدي هما "تاج العروس" وهو شرح القاموس للفيروزبادي، وهو، في رأي صلاح الدين المنجد أكمل معجم عرفه التراث حتى أيامنا. وقد صرف الزَبِيدي ثماني سنوات في وضعه. وهو موضوع هذه الندوة. أما الكتاب الثاني فهو "شرح احياء علوم الدين للغزالي تو 505/ 1111. خلال قرون سبقت القرن الثاني عشر/ الثامن عشر، كان الكثيرون من الذين يتولون تدريس القضايا الإسلامية على اختلاف أنواعها، وقد دأبوا على العدول عن قراءة الكتب الأصلية في فروع المعرفة الإسلامية، واستعاضوا عنها بقراءة الخلاصات والشروح البسيطة. ولم يكن حظ احياء علوم الدين أفضل من سواه. فجاء الزبيدي وأحيا كتاب "الأحياء" فشرحه وجلا أسراره واعاد اليه دوره في انتعاش روحي وشرعي واجتماعي. وقد صرف الزَبِيدي احدى عشرة سنة في هذا العمل. عبدالحي الكتاني، أحد كبار علماء المغرب قال عن الزَبِيدي: "هذا على الطريقة المغربية أحياناً الرجل كان نادرة الدنيا في عصره ومصره. ولم يأت بعد الحافظ بن حجر العسقلاني أعظم من اطلاعاً ولا أوسع رواية... ولا أعظم شهرة ولا أكثر منه علماً بهذه الصناعة الحديثية وما اليها... ويظهر من ترجمته وآثاره ان هذه الشعلة المضيئة من علوم الرواية والدراية الموجودة الآن في بلاد الإسلام انما هي مقتبسة من أبحاثه".