إن أي تقدم عمراني وأي حديث عن النهضة لا بد أن يبدأ بالإنسان، فهو محور التغيير أو الجزء الأساسي منه. وأولى الخطوات لتحقيق هذا الغرض هي تحرير الإنسان من أسر الأوهام والخرافات، وأسر الاغلال الذي تقيده وتصده عن التفكير السليم، ولا بد ان تتح له الفرصة كي يعرف الحقائق ويعمل بها. هذه البدايات كانت ديدن الحركات الاصلاحية في كل زمان، وهي سنّة الأنبياء عليهم السلام في بعثتهم لأقوامهم. وفي العصور الحديثة من تاريخ المسلمين كانت دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب 115-1206ه في القرن الثامن عشر تنطلق من قلب الجزيرة العربية تلبي هذا المطلب، وهو الرجوع إلى صفاء الإسلام والأخذ به على أوله وأصله والرجوع إلى صفاء العقيدة والبعد عن الخرافات والبدع التي تشل تفكير الإنسان وتجعله خاضعاً لبشر مثله أو خاضعاً حتى للأشياء، فهذا التوحيد الذي هو أساس الإسلام وعليه قام، دعا إليه الشيح لما رأى اندراسه وما ران عليه من ظلمات الجهل. هذا التوحيد "محرر بكل معنى الكلمة، محرر للإنسان من سلطة الإنسان، وهو توحيد ذو مضمون نفسي اجتماعي عميق". إن سبب ضعف المسلمين وسقوط نفسيتهم ليس له سبب واحد هو ضعف العقيدة وفشو مظاهر الشرك والتوحيد يعني السمو بالنفس عن الأوثان والأحجار وعبادة العظماء. إن هذه الدعوة تعتبر نقطة مضيئة في تاريخ العالم الإسلامي خلال فترة الجمود. ولم تنحصر هذه الدعوة في الجزيرة العربية، بل وصل تأثيرها إلى المغرب الأقصى وتأثر بها السلطان محمد بن عبدالله سلطان مراكش 1757-1790م كما تأثر بها الداعية أحمد بن عرفان الشهيد الذي قاد حركة كبيرة لتأسيس دولة في شمال غربي الهند. ومن معاصري هذه الفترة الإمام محمد بن علي الشوكاني 1173-1250ه، وهو فقيه مجتهد من كبار علماء اليمن، دعا إلى ترك التقليد، بل حرمه وهاجمه هجوماً عنيفاً، كما هاجم الفساد الإداري المتفشي، وكتب كتباً كثيرة يدعو فيها إلى العقيدة الصافية وترك مظاهر الشرك، ومن أشهر كتبه "نيل الأوطار" في الفقه و"ارشاد الفحول" في اصول الفقه و"فتح القدير" في التفسير. كما ظهر في هذا العصر في العراق الآلوسي الكبير شهاب الدين محمود بن عبدالله 1217-1270ه، وهو مفسر ومحدث وأديب، سلفي الاعتقاد، من أشهر كتبه روح "المعاني في التفسير". وتابعه في هذا الاصلاح وبشكل أقوى وأوضح حفيده محمود شكري الآلوسي 1273-1342ه، وهو مؤرخ وعالم، له مؤلفات كثيرة من أشهرها "بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب" و"فتح المنان" في الرد على أهل البدع وشرح "مسائل الجاهلية" للشيخ محمد بن عبدالوهاب. كما تصدى للرد على أكبر مشايخ الصوفية في عصره الشيخ يوسف النبهاني. يقول عنه الاستاذ محمد بهجة الاثري: "فكان نهاره كله مصروفاً من شروق الشمس إلى غروبها إلا سويعات منه مصروفاً في تدريس هذه الثقافة العربية الإسلامية واتاحتها لقاصديه". وفي الشام كان للشيخ جمال الدين القاسمي 1283-1332ه دور كبير في تحرير الفكر من التقليد الأعمى ومن البدع والخرافات، ومن أشهر كتبه "محاسن التأويل" في التفسير و"دلائل التوحيد". يقول الأمير شكيب أرسلان عن مؤلفاته: "واني لأوصي جميع الناشئة الإسلامية التي تريد أن تفهم الشرع فهماً ترتاح إليه ضمائرها أن لا تقدم شيئاً على قراءة تصانيف المرحوم جمال الدين القاسمي". فهؤلاء الأعلام يجمعهم الاتجاه للاصلاح الحقيقي الذي يوحد شخصية الإنسان، فلا تكون ممزقة تتجاذبها معبودات شتى، مع اختلافهم أحياناً في طريقة العرض وفي قوة التوجه وملاحظة ما حولهم من تدفق الحضارة الغربية. ويجمعهم أيضاً العقلية التي لا تسلم بالصواب المطلق لأي إنسان. ولا تعترف بالعصمة لأي حاكم أو مسؤول أو فرد غير الأنبياء. كما أنهم لم يديروا النهضة على سبب واحد، فالاهتمامات كانت شاملة، فالشيخ محمود شكري الآلوسي يرسل بمهمة سياسية من قبل الدولة العثمانية إلى الملك عبدالعزيز في نجد، والشوكاني يهتم بإصلاح القضاء والدولة، والشيخ القاسمي يكمل كتاب والده عن الصناعات الشامية. وهذه الأسماء التي ذكرناها هي نماذج لاعلام النهضة، وهناك أسماء لامعة في تجديد اللغة العربية كالمرتضى الزبيدي صاحب كتاب "تاج العروس" في شرح القاموس، وهو دائرة معارف لغوية وفقهية وأدبية. فالنهضة لم تبدأ كما يؤرخ لها الآن، وكما يدندن الكثير حول تاريخها. فالطهطاوي وخيرالدين التونسي يريدان مركباً من التقدم الأوروبي مع تهذيب الاخلاق والاستفادة من الشريعة الإسلامية أو ما يسمونه "التقدم الروحي"، فالاهتمام كان لتحديث الدولة للوقوف أمام التيار الأوروبي، ولم يكن مشروعاً متكاملاً، بل إن واقع الشيخ الطهطاوي يمثل الالتحاق بمشروع الدولة المنفذ لسياستها. وسياسة محمد علي باشا كانت تهميش الأزهر وتسخير كل الامكانات لصالح مركزه الخاص ولصالح العسكر، ولم يستفد الطهطاوي مما كتبه وأعجب به من الدساتير الغربية المشروطية، فرجع يقول عن الحاكم: "فليس عليه في فعله مسؤولية لأحد من رعاياه". وكذلك الذين جاؤوا من بعدهم من المفكرين ورجال الاصلاح، فإن الجدلية الغربية ومفهومها للتقدم والتمدن فرضت عليهم فكتبوا وفكروا من خلال هذه الجدلية. ولم تبدأ النهضة من احتلال نابليون لمصر ودخول خيله للأزهر، كما يحلو لمزوري التاريخ والثقافة. فهذا الاحتلال كان مقدمة للاحتلال الانكليزي ودخول المنطقة في دوامة العهد الاستعماري. كان المسلمون على استعداد للترقي والنهوض قبل حملة نابليون، ولم يكونوا بحاجة للصدمة الحضارية التي حملها معه، فهو، كما يذكر شاكر مصطفى، "وإن بذر بذرة التحدي، إلا أنه لم يقدم لهذه البلدان روح العلم الذي تنهض به". وكيف يقدم لها روح العلم وإنما جاء لتدميرها، وقد ارتكب في ثورة القاهرة 1798م من القسوة وسفح الدماء ما ارتكب ودخلت الخيل الأزهر وكسروا القناديل وهشموا خزائن الطلبة ورموا الكتب والمصاحف على الأرض. ومن الأدلة على هذا الاستعداد للترقي قبل الغزو النابليوني ان أحد المهاجرين من الأندلس، ويدعى أحمد بن القاسم والملقب "الشهاب الحجري"، غادر اسبانيا عام 1598م واستقر في المغرب، وعمل مترجماً في بلاط السلطان أحمد والسلطان زيدان. اتصل في تونس بأحد كبار العسكريين المهجرين ويدعى الرئيس إبراهيم بن أحمد بن غانم وكان من الخبراء في المدفعية، اكتسبها من عمله في الاسطول الاسباني. قام الشهاب الحجري بترجمة كتاب عن المدفعية أعده الرئيس ابن غانم ودعاه باسم "العزة والرفعة والمنافع للمجاهدين في سبيل الله بالمدافع"، ولعب هذا الكتاب دوراً كبيراً في مواجهة المدفعية الاسبانية، وشبيه بهذا العمل ما قامو به الشيخ محمود قبادو التونسي 1813-1861م حين ترجم كتاباً للجنرال جومني في التعبئة الحربية، وتولى الشيخ تهذيب ترجمته وتنقيح لغتها واختيار المصطلحات العربية العلمية مع مقدمة طويلة دعا فيها الشيخ إلى الأخذ من الغرب في العلوم الحربية والعلوم الطبيعية، ولم يكن عند الشيخ عقدة أو مشكلة نفسية في هذا الموضوع، ولا محاولات للترقيع مع مدنية الغرب. ومع هذا التبسيط في الطرح، فإنه اسلم من الطهطاوي وأمثاله الذين وجدوا مشكلة في القوانين فلجأوا إلى التلفيق مثل قولهم: "القوانين الطبيعية عند الغرب هي أصول الفقه عند المسلمين". يقول الشيخ قبادو: "فخذ ما أحماه الفهم ودع ما أنماه الوهم، أما علمت ان الحكمة ضالة المؤمن ينشدها ولا يبالي أين يجدها". ويخاطب المسلمين الذين لا يفقهون سنن التقدم: "فقل لأقوام عن سنن الله يعمهون وفي تيه اطراح الأسباب يهيمون قد برح الخفاء ولكن لا تفهمون". كانت جذور النهضة بادية قبل الحملة الفرنسية عندما استطاع علماء الأزهر تشكيل جبهة موحدة من المشايخ الكبار: الشيخ السادات، وعمر مكرم، وعبدالله الشرقاوي، والشيخ البكري ووقفوا أمام ظلم المماليك وأجبروهم التوقيع على وثيقة تتضمن رفع الظلم وإقامة العدل، كان ذلك عام 1794م قبل الحملة الفرنسية بأربع سنوات. ان اسماً لامعاً كالشيخ الجبرتي الكبير حسن بن إبراهيم العقيلي 1698-1774م لدليل على أن جذور النهضة كانت قبل ما يؤرخ لها في ثقافتنا المعاصرة. فهذا الشيخ كان فقيهاً حنفياً كبيراً، وفي سنة 1731م ولى وجهه شطر العلوم الطبيعية، فجمع كتبها من كل مكان وقضى في ذلك عشر سنوات، ثم قرأها حتى ملك ناصية رموزها في الهندسة والفلك والصنائع حتى النجارة والحدادة والتجليد والنقش، وصار بيته زاخراً بكل أداة في الصناعة، ولجأ إليه مهرة الصناع يستفيدون منه. يقول عنه ابنه المؤرخ عبدالرحمن الجبرتي: "وحضر إليه طلاب من الافرنج وقرأوا عليه علم الهندسة وذلك في سنة تسع وخمسين 1746م وأهدوا إليه من صنائعهم وآلاتهم أشياء نفيسة، وذهبوا إلى بلادهم ونشروا بها العلم". ورحم الله الجبرتي الكبير، كان على خلق أهل الإسلام لا يكتم علماً عن أحد. لم يُتح لهذه البدايات الصحيحة أن تُنمى وتُطور وينتقل منها إلى مشروع نهضوي عملي يجنب العالم العربي ما وقع فيه من التخبط الفكري والتخلف الحضاري وما يزال. فالذين جاؤوا بعد ذلك شُغلوا بالجانب النظري والفكر الدفاعي والردود على المستشرقين والمستغربين. ولجأوا إلى المواقف التسويغية، كما انشغل بعضهم بالتصدي لجبهات عدة: جبهة الليبراليين والعلمانيين والاشتراكيين. وحديث النهضة يجب ألا يتوقف، ويحق للمخلصين والعقلاء من هذه الأمة الاجتماع على ما يناسب خصوصيتها. * باحث في التاريخ الإسلامي.