هُزمت الجمهورية الاسلامية في ايران، على يد حركة الطالبان في افغانستان. وكيفية تحويل هذه الهزيمة الى نكسة، بدلاً من ان تصبح هزيمة استراتيجية ونهائية، هي القضية التي تواجه المسؤولين الايرانيين. والنتيجة في الحالتين قاسية. ذلك انها في الأولى، تبدو آفاق المستقبل مليئة بكل المخاطر، لأن الخيارات ضيقة جداً حدودها الخط الرفيع بين الحرب والسلام بشروط غير مهينة. والحالة الثانية، تصبح أفغانستان الخاصرة الضعيفة لإيران، خنجراً مغروساً في لحمها، يستنزفها يومياً وعلى مختلف الأصعدة السياسية والأمنية منها وصولاً الى التشكل الفكري والعقائدي في ايران نفسها. طول الحدود بين ايرانوأفغانستان 855 كلم، وهي منطقة جبلية وعرة، مفتوحة على بعضها بعضاً، في تضاريسها الجغرافية وفي تشكيلاتها البشرية. وإذا كانت أفغانستان الحديثة نشأت واستمرت كعازل في منطقة مليئة بالقوى الاقليمية الصغيرة والكبرى المشبعة بالمخاوف أو الطموحات على السواء، فإن أفغانستان بقيت في أنظار الايرانيين "الضاحية" التي تمتد عبرها ايران على الزاوية القصوى "للقوس الاسلامي" والجسر الطبيعي لها الى الجمهوريات الاسلامية السوفياتية سابقاً. أما الآن، وبعد هذه التطورات، تحولت أفغانستان الى جغرافية مفتوحة على العداء لإيران، وعلى التحالف مع باكستان، والقبوع المتحفز في وجه الجمهوريات الاسلامية السوفياتية سابقاً مع ما يعني ذلك من اخطار على روسيا عبرت الأخيرة بوضوح عنها. التردد الإيراني والاندفاع الطالباني سياسة طهران المترددة حيال التطورات في العامين الماضيين في أفغانستان، هي المسؤولة عن الهزيمة الحالية. ومنذ دخول حركة الطالبان الى كابول، بدت السياسة الايرانية وكأنها غير قادرة على الحسم، فهي لا تعترف بإمارة أفغانستان الجديدة، وتقوم بمبادرات ديبلوماسية في اطار سياسة تقليدية مع ان التطورات أصبحت تفترض سياسة متطورة وذكية وقادرة على تجاوز الحواجز القديمة من عرقية وفكرية. وهذه السياسة الايرانية عملت على تشكيل جبهة بين قوى المعارضة، لكنها بقيت محكومة بحذر واضح من أحمد شاه مسعود الطاجيكي، ولكنه قبل ذلك القائد الافغاني المنتمي سياسياً الى "فكر وطني" أو "قومي" أولاً وإسلامي ثانياً بعكس باقي قادة "المجاهدين" السابقين. الى جانب ذلك، فإن طهران وقفت الى جانب حزب الوحدة بقيادة عبدالكريم خليلي متناسية الطرف الآخر من الهزارة ممثلاً بحزب الاتحاد الاسلامي بقيادة واصف محسني، والأهم من ذلك، وضعت قيوداً واستمرت بها على اللاجئين الافغان لديها بكل ما يتعلق بالتدريب والتسليح وتشديد مراقبة الحدود. ولهذا الموقف الايراني العسكري أسبابه تتعلق بالحذر وحتى القلق من مخاطر فتح الحدود مع افغانستان، مما يجعل هذه المنطقة الممتدة على طول 855 كلم بمثابة "شريط حدودي" غير خاضع لسيادتها بشكل أو بآخر على غرار فتح لاند في جنوبلبنان أيام المقاومة الفلسطينية. يبقى أيضاً وهذا مهم في حركة التردد الايراني، ان قوة دينية داخل الحوزة وسياسية في قلب دائرة القرار السياسي، تميل الى صيغة "الإمارة" في أفغانستان والطرح الفكري الاسلامي لدى الطالبان. وترى ان "الجمهورية الاسلامية" ليست سوى "جسر" نحو "الإمارة". وأدى هذا "الجسر" دوره في ايران، وحان الوقت لإعلان "الإمارة" في ايران وتسمية المرشد فيها بالأمير. وكشف رئيس الهيئة القضائية ورأس الحربة للمحافظين المتشددين آية الله محمد يزدي مراراً عن هذا الاتجاه، ومال الى حصر السلطات كلها في أيدي مجموعة محدودة من علماء الدين. ويذكر ان الإمام الخميني حذر مراراً من هذا الفكر وأدانه بشدة على مدار مراحل نشاطه السياسي والفقهي. وعلى الجانب الإقليمي، فإن طهران التي تربطها علاقات خاصة مع باكستان، لم تشأ تعريض هذه العلاقات للامتحان، حتى ولو ان المسؤولين الايرانيين كانوا متأكدين من الدور الباكستاني في صعود الطالبان وانتصاراتهم. ومن هنا بدت طهران دائمة الحذر تخطو خطوة الى الإمام باتجاه وضع النقاط على الحروف مع باكستان وخطوتين الى الوراء، فيتأجل كل شيء الى حين! وإذا كانت طهران ترددت كثيراً وصولاً الى الأمر الواقع، فإن طالبان المدفوعة بحرارة الانتماء السياسي - الديني، لم يتركوا مجالاً للتردد، ففتحوا أبواب المواجهة مع طهران منذ البداية، ثم صعّدوها يوماً بعد يوم وصولاً الى الاعتراف بقتل الديبلوماسيين الايرانيين المحتجزين في مزار شريف، وانتهاء بالتهديد المباشر على لسان وزير خارجية طالبان الملا محمد حسن أخوند بتحطيم "أسنان طهران إذا أرادت اللجوء الى عمل عسكري". طهران بدورها، سارعت وعلى لسان مختلف مسؤوليها، وتعدد تياراتها الى التنديد والوعيد. ووصل الأمر بالمرشد آية الله علي خامنئي الى تجاوز كل عادات وطبيعة خطابه اليومي فوصف طالبان "بالصغار الحقيرين"، وبدوره أكد الرئيس محمد خاتمي بأن بلاده "لن تسمح بأي تهديد لحدودها مع أفغانستان"، وأخيراً فإن قائد الحرس الثوري الجنرال يحيى رحيم صفوي اعتبر طالبان "مجرد زمرة انشئت وتوجه من الخارج ولا نعترف بها". ومن الواضح امام سيل هذه النعوت والأوصاف الايرانية الرسمية لطالبان، ان سقف الحوار والتفاوض أصبح أعلى بكثير من مجرد إبداء النوايا الحسنة أو حتى القيام بخطوات سياسية محدودة. ولا شك في ان سقوط باميان عاصمة اقليم الهزارة الشيعة بأيدي طالبان، وحصول تصفيات على غرار مزار شريف، سيزيد من حدة الحرج الايراني ومن التصعيد في خطابها السياسي، وصولاً الى القرار الحاسم والنهائي. ولم ينحصر هذا التصعيد في الخطاب السياسي الايراني، بل رافقه قرع طبول الحرب على الحدود، فكانت المناورات العسكرية الواسعة التي شارك فيها 70 ألف جندي، الى جانب الطيران، وأطلق عليها اسماً رمزياً يتناسب مع الوضع وهو "عاشوراء - 3". وبدا الأمر طبيعياً ان تسارع مختلف القوى الدولية والاقليمية وخصوصاً الولاياتالمتحدة للإعلان عن مخاطر حرب شاملة واستعدادات ايرانية لغزو أفغانستان. أسباب التعقل الايراني لكن في الواقع، لا يكفي ان تحشد دولة ما قواتها على الحدود مع دولة مجاورة لها وفي نزاع معها، حتى تشتعل الحرب. فالقرار بالحرب الشاملة، يقتضي سلسلة شروط الى ظروف لا يمكن جمعها بسهولة، ولعل الشرط الأول هو تحديد الهدف من هذه الحرب، وامكان تحقيقه، وحجم الخسائر المتوقعة والنهاية التقريبية لهذه الحرب. وخارج الإجابة عن هذه الأسئلة المجتمعة في سؤال كبير، تتحول الحرب الى حال عبثية تحرق الأخضر واليابس، وتجعل من أرضها رمالاً متحركة تبتلع كل القدرات والإمكانات خصوصاً الاقتصادية، واخيراً تفتح الأبواب أمام مخاطر غير محسوبة. وفي الحال الايرانية مع أفغانستان - طالبان، فإن امكان ذهاب طهران الى الحرب الشاملة في معنى الغزو العسكري المباشر، لن يتم سوى في حال واحدة هي الجنون، ومن الواضح ان المسؤولين الايرانيين، وبعد عقدين من الثورة، وخوض تجربة الانفتاح الحذرة التي يقودها الرئيس محمد خاتمي، اعقل من ان يسقطوا في فخ الجنون هذا. ولهذا التعقل الايراني المفترض ألف سبب وسبب، ذلك ان الحرب مع أفغانستان - طالبان، ليست مرتبطة بموازين القوى العسكرية المختلة لصالح ايران بنسبة لا مجال فيها للمقارنة، ذلك ان الحرب مع طالبان تعني حرب عصابات فوق جغرافيا مثالية لها. والتجربة السوفياتية ما زالت ماثلة أمام الجميع. الى جانب هذه النتيجة فإن خصوصية الخريطة على الامتداد الشمالي "للقوس الاسلامي"، ستدفع باتجاه الحرب العرقية والمذهبية. فهي ستكون أساساً بين ايران والبشتون وامتداداتهم داخل باكستانوايران نفسها من دون تناسي العرق الطاجيكي وامتداداته الايرانية ايضاً، ما يعني وضع هذا المربع الجغرافي فوق بركان قابل للانفجار أصلاً. كذلك تعاني ايران من وضع اقتصادي صعب، ناتج عن الحرب السابقة مع العراق، وانخفاض سعر النفط، وعدم النجاح في الخروج من آحادية الانتاج في الاقتصاد عموماً. وبهذا فإن أي حرب شاملة واستنزافية مع افغانستان ستشكل عاملاً إضافياً لاكتمال ضرب هذا الاقتصاد المريض. وأخيراً تعلم ايران جيداً ان الولاياتالمتحدة وقوى اقليمية قريبة تركياوباكستان وبعيدة اسرائيل تنتظر بفرح سقوطها في هذا الخطأ - الخطيئة، حتى تصفي حساباتها معها على غرار الحرب مع السوفيات. فاستنزاف ايران وضربها بمطرقة طالبان من خلال زيادة المعونات والدعم المادي والاعلامي وحتى السياسي أهم من قضية حقوق الانسان والمرأة الافغانية بالنسبة للسياسة الاميركية. الخيارات والبدائل الإيرانية "العقل البارد" في الترويكا الإيرانية الحاكمة، هاشمي رفسنجاني، اختصر الوضع بالقول: "سترون أننا سنتحرك في الوقت المناسب... حسب خطة واضحة وأهداف محددة". "الجنرال ثلج" في أفغانستان عامل لا مجال للوقوف في وجهه، لذلك فإن طالبان سارعت الى تصفية واقتحام باميان قبل حلول تشرين الأول اكتوبر، حتى لا تستنزف في مواجهات محدودة. والحال مع قوى المعارضة الثلاثية: الهزارة الشيعة والأوزبيك والطاجيك، وايران من حال طالبان، ومعنى ذلك، ان أمام هذه القوى وتحديداً طهران فترة ستة أشهر، أي حتى مطلع الربيع المقبل وذوبان الثلوج، حتى يمكن البدء باستراتيجية جديدة تتناسب مع التطورات التي أدت الى تحكم طالبان بحوالى 90 في المئة من الأراضي الافغانية. وبدورها فإن أمام طالبان هذه الفترة لتصفي نهائياً نسيج حركتها السياسية مع الخارج أساساً، للحصول على الاعتراف الدولي وبالتالي الشرعية الدولية. وفي هذا الزمن غير المتوازن، فإن مسائل من نوع حقوق الانسان وغيرها لن تكون وحدها مقياساً لانجاز هذا الاعتراف خصوصاً بالنسبة لواشنطن، بل ان مسائل أخرى ستندرج في هذه الحسابات. إذا كانت الحرب الشاملة تبدو مستحيلة، فإن الخيارات البديلة تبدو محدودة، وهي تتشكل في الآتي: احتلال شريط حدودي، يتراوح عمقه حوالى خمسين كلم تقريباً، وتحويله الى "شريط أمني" لمنع أي تحرك من جانب طالبان باتجاه الأراضي الايرانية، ومما يدعم هذا الاحتمال التحالف الذي يتكون بين طالبان وحركة "مجاهدي خلق" بقيادة مسعود رجوي، التي نسب اليها بعض التفجيرات في حزيران يونيو مع التشديد على قدوم المعارضين المسلحين من الاراضي الافغانية. وهذا الحل لن يؤدي سوى الى ردود فعل دولية محدودة، كما يعتقد الكثيرون. العمل على تشكيل جبهة معارضة متماسكة من قوى اسلامية ووطنية وحتى ملكية تحت شعار محاربة التدخل الخارجي الباكستاني تحديداً والإساءة الى الإسلام والشعب الافغاني الممارسات المضادة لحقوق الانسان والمرأة واعادة الافغان الى ما قبل القرن التاسع عشر عن طريق قرارات إلغاء التلفزيون الخ.... وهذا العمل يبدأ بتوحيد الهزارة الشيعة والتفاهم مع احمد شاه مسعود من دون تحفظات. وبعد تشكيل هذه الجبهة يتم، فتح معسكرات تدريب على مختلف الأسلحة. ومخيمات اللاجئين في ايران قادرة على تجهيز عشرات الآلاف من الرجال خصوصاً في ظل حملة منظمة مدعومة بالشهادات حول "التطهير الأثني" ضد الهزارة الشيعة. ويمكن لهذه المجموعات البدء في العمل العسكري المحدود خلال الشتاء على ان تنطلق فعلاً مع مطلع الربيع المقبل. ويمكن لمثل هذه "الجبهة" ان تحظى بدعم موسكوواوزباكستان وطاجيكستان، لأسباب استراتيجية وأمنية للأولى، وأمنية وعرقية للأخيريين. الجمع بين فكرة "شريط حدودي" وتكوين جبهة معارضة متماسكة مسلحة ومدربة ومجهزة جيداً والبقاء بعيداً عن المواجهة المباشرة مع طالبان. وفي هذه الاحتمالات كلها ستبقى المشاركة الايرانية بشرياً محدودة واقتصادياً مقبولة. الخيارات الايرانية أمام تطورات الوضع في افغانستان ليست فقط محدودة وانما هي معرضة لاختبار دقيق وحساس وخطير ويومي مع باكستان، فإيران غير قادرة على فتح مواجهة مع باكستان لأسباب استراتيجة في منطقة "القوس الاسلامي"، وفي الوقت نفسه لا تستطيع الصمت على تحول باكستان الى قوة اقليمية أولى متصلبة وطموحة ومتكئة على سلاح نووي. لذلك كله فإن طهران وهي تستعد للخيار النهائي لها ستسير على حافة السكين، مع بلع الكأس المر اليومي لتحديات طالبان لها. * صحافي لبناني.