خسر الروس اهم اصدقائهم التقليديين في البلقان، وفقدوا بذلك احدى أعرق مواقع نفوذهم التي يبدو اليوم مستحيلاً عودتهم اليها. وتتحمل موسكو وحدها، كما يؤكد سكان البلقان، مسؤولية المشاعر الراهنة تجاهها، لأنها "لم تراع حرمة الصداقة، وباعت الاحترام المتبادل الى الولاياتالمتحدة، وفقدت كرامتها كقوة عظمى، الى حد ان الرئيس السابق بوريس يلتسن كان يوقع صكوكاً بيضاء لأميركا وهو ثمل". وعندما انتقد الرئيس اليوغوسلافي السابق سلوبودان ميلوشيفيتش روسيا في تصريح له، وقال انها "ادارت ظهرها" له، كان يعبر عن التجربة المريرة التي خاضها مع موسكو، بعدما جامل الروس الى درجة "الغباء السياسي" وإعلان انضمام يوغوسلافيا الى "اتحاد روسيا وروسيا البيضاء". والحقيقة ان روسيا لم تراع صداقة الصرب منذ السنوات الأخيرة لحكم الرئيس السوفياتي السابق ميخائيل غورباتشوف الذي، كما يعقد مراقبون صربيون، "تواطأ مع المستشار الألماني هيلموت كول لتفكيك يوغوسلافيا، بعدما وهب المانيا الديموقراطية وحلفاءه الآخرين في أوروبا الشرقية للغرب، وأحاط ادارته بمن اختارتهم الاجهزة الأميركية امثال بوريس يلتسن ووزير الخارجية ادوارد شيفاردنادزه وغيرهما بذريعة الاصلاح واعادة البناء، في مقابل لعبة جائزة نوبل للسلام". وكانت روسيا، من الدول السباقة الى الاعتراف بسلوفينيا وكرواتيا والبوسنة ومقدونيا، حال اعلان انفصالها على رغم ان دستور يوغوسلافيا السابقة يتيح ذلك للشعوب وليس للجمهوريات بحدودها الادارية، ما جعل للانفصاليين حقوقاً دولية بحسب ما أرادوه، وأفشل المحاولات المحلية لإيجاد ترتيبات يوغوسلافية جديدة تبعد مآسي الحروب. واللافت ان الموقف الروسي اثناء الحروب في المنطقة، كان يخدم المخططات الأميركية الألمانية بتأجيج الصراعات، متجنباً حتى الاعتدال النسبي الذي مارسه الفرنسيون فرنسوا ميتران والبريطانيون جون ميجور وكان وزير الخارجية الروسي آنئذ اندريه كوزيريف ومبعوث يلتسن الى البلقان فيتالي تشوركين يحرضان الصرب على التصلب ثم يصادقان على أي قرار تعرضه الولاياتالمتحدة على مجلس الأمن بما يناسب مصالحها في البلقان. وحين انتقل الصراع الى كوسوفو، اعلنت موسكو وقوفها الى جانب بلغراد، وكان ذلك السبب الرئيسي في معارضة ميلوشيفيتش للاقتراحات الاميركية في محادثات رامبوييه في فرنسا، وعندما بدأت هجمات الحلف الاطلسي امتنعت موسكو عن تزويد يوغوسلافيا بما وعدتها به من وسائل الدفاع الجوي، ما أتاح المجال للغارات الجوية الاطلسية القصف من دون مواجهة مقاومة قوية. وعندما شعرت الولاياتالمتحدة أن الغارات طالت من دون نتائج حاسمة على القدرة العسكرية اليوغوسلافية، وان الهجوم البري سيكن ثمنه باهظاً ونتائجه غير مضمونة، اتصل الرئيس السابق بيل كلينتون هاتفياً بنظيره الروسي يلتسن ووجهه نحو ما ينبغي ان يقوم به لارغام ميلوشيفيتش على الاستسلام، فجاء مبعوث يلتسن رئيس الحكومة السابق فيكتور تشيرنوميردين الى بلغراد وأبلغه ان الكرملين يعارض "تعنته" وعليه القبول بشروط الاطلسي في شأن كوسوفو، فاضطر ميلوشيفيتش لإرسال عسكريين الى مدينة كومانوفو شمال مقدونيا والتوقيع "بذل" على ما طلبه القادة المحليون للأطلسي، في حين أوعز وزير الخارجية ايغور ايفانوف الى الممثل الروسي في مجلس الأمن للموافقة على اي قرار تعرضه الولاياتالمتحدة في مقابل وقف القصف. والرأي السائد في البلقان، ان فلاديمير بوتين لا يختلف عن يلتسن الذي اختاره لخلافته في تنفيذ مطالب الادارة الاميركية. وكثيراً ما تذرع حكام روسيا بأن سياستهم تقوم على وقاية بيتهم الشيشان من التدخل الأميركي، لكن البلقانيين يعتبرون ان هذا مردود، لأن الأميركيين لا يزالون يحرضون الانفصاليين الشيشان ويلتقون مع ممثليهم، على رغم كل ما قدمته موسكو للولايات المتحدة من تسهيلات لعملياتها ضد افغانستان.