منذ سنوات بعيدة، زار مصر الشاعر التركي ناظم حكمت، كنت ايامها اعمل محرراً أدبياً في الاهرام، وكنت من عشاق شعره، وأحفظ معظم اشعاره. وكانت حياته غريبة، لقد قضى أكثر ايامه في السجن بتهمة الشيوعية، وعلى رغم ان كثيراً من الأوساط الأدبية في العالم تكلمت في شأنه وطالبت بالافراج عنه الا ان السلطات لم تستجب كل هذا الرجاء... كانت مأساة ان شاعراً بهذه القامة الرفيعة يلقى في السجن لأنه يؤمن بمبدأ سياسي، أياً كان هذا المبدأ. لم اكن معجباً بالشيوعية إلا في جانبها الانساني، وانحنائها على الفقراء والبؤساء والمعذبين في الارض، وعلى رغم عدم اعجابي بها، الا انني كنت ألتمس العذر لناظم حكمت... لقد اختار الرجل هذه النظرية بناء على ثقافته وميوله واتجاهاته وتجربته في الحياة، ومن حقه ان يختار. كان الشاعر، لا السياسي، هو مبعث اعجابي بناظم حكمت، ومع مرور الوقت استجابت السلطات التركية نداءات الاوساط الادبية في العالم وضغط الاتحاد السوفياتي وافرجت عنه، واقيم مؤتمر ادبي في القاهرة، وحضره ناظم حكمت... وهكذا ذهبتُ للقائه. كان ناظم حكمت يتكلم التركية والفرنسية، وهما لغتان لا اعرف منهما إلا بعض كلمات بالفرنسية. ورجوت من زميلة تجيد الفرنسية ان تصحبني لتقوم بالترجمة بيني وبينه. وقبلت مشكورة ان تصاحبني. كنت افكر ونحن في الطريق اليه في سؤال انوي ان اسأله له عن زوجته. كانت زوجة ناظم حكمت تحتل في ديوانه صحفات عدة. كانت باختصار هي قصة حبه الكبرى. في احدى قصائده يتحدث عن اتصال تليفوني بينه وبين زوجته. ويقول لها: لقد كانت كلماتك لي رجالاً تقف معي في محنتي وتخفف احزاني. وفي قصيدة اخرى يقول لزوجته: إنك تقولين لي / ماذا لو فقدتك؟ ماذا لو قتلوك / انني سأموت / إنك ستعيشين يا امرأتي / يا ذات الشعر الذهبي والقلب الذهبي / لأن الموتى لا يشغلون اناس القرن العشرين / اكثر من عام. كنت اعرف انه يصحب زوجته معه في زيارته للقاهرة، وقلت لنفسي إنها مناسبة لنرى هذه المرأة التي كانت كلماتها رجالاً تقف مع السجين وتحوّل سجنه الى نزهة في حديقة. جلست أمامه اخيراً. كانت زوجته معه. وكانت المترجمة تجلس معنا. في البداية قلت لزميلتنا المترجمة: قولي له إننا نحبه ونحفظ شعره ونتغنى به ونعتبره شاعراً من اكبر شعراء العصر.. نقلت له الزميلة رسالتي فغمرته عاطفة جياشة ونهض وقبلني وعاد يجلس... قلت للزميلة: اسأليه عن المرأة التي تصاحبه... هل هي زوجته التي قال فيها قصائد حب لم يقلها شاعر قبله. نقلت له الزميلة نص رسالتي... وتأملت وجهه قبل ان يجيب... وفوجئت ان ملامح وجهه تتحول من السرور والرضا الى الحزن والحرج... انقشح سروره مثل طفل كان يلعب ثم انتزع احد لعبته منه فجأة. لم افهم ما الذي احزنه، وتردد هو في الاجابة قليلاً ثم قال بكلمات سريعة: هذه زوجتي الثانية. سألته: اين الزوجة الاولى. قال: لقد انفصلنا... ثم اضاف بصوت خافت - لم يعد باقياً منها سوى الشعر. أدركت حماقتي بتوجيه هذا السؤال، وبذلت جهداً كبيراً لأداري الحرج الذي سببته للشاعر... وتحولت الى الحديث عن الحرية وإحساسه بها بعد ان خرج من سجنه... ومر الحديث من دون خسائر. ونحن عائدان الى العمل، كنت افكر في غرابة القلب الانساني وتقلباته، وتحولاته، لقد ذهبت قصة الحب وبقيت منها ابيات عدة من الشعر.