جرت مياه كثيرة منذ الخمسيات وحتى الوقت الراهن وتبدل المناخ العالمي، وأصبحت الديموقراطية بمفهومها الليبرالي ايديولوجية مهيمنة ومطلباً شعبياً جارفاً لا يمكن الوقوف بوجهه أو رفضه. ولم تسلم المنطقة العربية من شظايا هذه الإيديولوجيا التي استعمرت المخيلة الإنسانية منذ اواخر الثمانينات، حاولت النظم العربية القائمة التأقلم مع هذا الواقع الجديد من منطلقين، تمحور المنطلق الأول حول القيام ببعض الإصلاحات الصورية التجميلية، خصوصاً على الصعيد الاقتصادي تحت ضغط السياسات والمؤسسات الدولية وفي محاولة لامتصاص الغضب الشعبي وتفتيته. في الوقت ذاته، اعادت النخب الحاكمة لعب الأسطوانة القديمة في ما يتعلق بالأخطار التي يمكن ان تترتب على تطبيق مفاهيم الديموقراطية الليبرالية في المجتمعات العربية. بالطبع، اخذ موضوع الأمن القومي القضايا الكبرى، خصوصاً الخطر الصهيوني، الحيز الأكبر من اهتمام الخطاب الرسمي العربي. فالانفتاح السياسي، على حد زعم هذه القيادات، يمكن ان يؤدي الى تهديد قدرة البلدان العربية على الصمود في وجه التحديات الخارجية ويتركها عرضة للأطماع والمؤامرات الصهيونية - الأميركية. المقولة الأخرى التي ما تزال النخب الحاكمة ترددها تحفظاً على الديموقراطية الغربية تتعلق بعدم استعداد وتهيئة المجتمعات والشعوب العربية للانخراط في الفضاء الديموقراطي الحر. حين سئل الرئيس المصري حسني مبارك من قبل احد المراسلين الأميركيين عن رأيه في واقع الديموقراطية في مصر، اجاب بثقة متناهية وتهكم واضح بأن من الخطأ اسقاط المعايير الديموقراطية الغربية على المجتمع المصري. فالشعب المصري، في تقدير مبارك، وعلى عكس نظيره الأميركي، غير مهيأ أو قادر على استيعاب الجرعة الديموقراطية دفعة واحدة في الوقت الراهن بسبب عوامل الجهل ونقص التعليم والفقر. وبكل بساطة وبرودة اعصاب، وضع الرئيس المصري نفسه والنخبة النافذة وصياً على الشعب حتى تحدث الأعجوبة المنتظرة: ألا وهي النضوج التاريخي للشعب المصري. في ذات السياق، تركز الحكومة المصرية جهودها وأولويتها الآن على عملية الإصلاح الاقتصادي كخطوة اساسية وضرورية قبل الشروع في إصلاحات سياسية حقيقية. تعتبر القيادة المصرية ان برنامج الإصلاح السياسي، والذي تطالب به المعارضة على مختلف مشاربها، بما فيه قضايا التعددية الحزبية والشفافية السياسية والتغيير، يتطلب ارضية اقتصادية صالحة لكث تثمر بذور هذا الإصلاح السياسي، ولكي لا يستغل من قبل قوى رجعية، غيبية معادية ومضادة للديموقراطية. مرة اخرى، تأخذ الديموقراطية مقعداً خلفياً لقضايا الاقتصاد والإصلاح الاجتماعي، ويتم مقايضتها باعتبارات اخرى وضرورات مرحلية. تكمن الإشكالية الصعبة في التميز بين الأعذار الوهمية من جهة والتحفظات لاجدية على الإسراع في عملية التحول الديموقراطي من جهة اخرى، السؤال النقدي الصريح هو: كيف نستطيع ان نفهم ونفصل بين اعتراضات القيادة الرسمية المصرية على تطبيق مفاهيم الديموقراطية الغربية ورغبتها وطموحها في الإبقاء على سيطرتها على مؤسسات الدولة والمجتمع معاً؟ فالمعروف ان لدى النخبة المصرية في السلطة مصالح اقتصادية وسياسية متجذرة لا يمكن التخلي عنها بسهولة والتضحية بها من خلال المجاذفة في فتح باب المشاركة السياسية على مصراعيه. كيف يمكن التوفيق بين الحفاظ على مصالح النخبة الحاكمة وبين القيام بإصلاحات سياسية جذرية؟ هذا هو السؤال المحوري الذي تتهرب المعارضة من طرحه على مائدة البحث ومحاولة ايجاد الآليات والاستراتيجيات من اجل فك رموزه ومنعه من إعاقة التحول والطيران نحو الفضاء الديموقراطي. ستبقى النظم والنخب التسلطية تتحفظ عن تطبيق الديموقراطية طالما بقيت مصالحها وديمومتها معرضة للخطرة. كيف، إذاً، يمكن ابرام احلاف أو تحالفات سياسية Political pacts بين المعارضة والنظم القائمة، كما حصل في بعض دول اميركا اللاتينية في الثمانينات والتسعينات؟ كيف يمكن اعطاء الأمان وعدم الوعيد والتهديد بالبطش في اعضاء النخبة الحاكمة من اجل حفزهم على الخروج من نفق الاستبداد السياسي؟الخطأ كل الخطأ ان نتوقع تغييراً جذرياً في ذهنية النظم والنخبة النافذة طالما استمرت المعارضة في تخوينها وتهديدها. كيف يمكن الانتقال الى إطار ابداعي ومنهج سلوكي سلمي للتعجيل في عملية التحول الديموقراطي؟ تتطلب هذه العملية تضافر الجهود لكل القوى والأطياف السياسية من اجل منع اي انفجار قد يؤدي الى احتراق الهدف الرئيس. لا يعني هذا العرض ان السلطات الرسمية العربية مستعدة ومهيأة لكي تشرك المعارضة في اللعبة السياسية أو فتح النوافذ والأبواب اللشرائح الشبابية المتزايدة عدداً وعدة للدخول الى المعترك السياسي. فما تزال السلطات العربية تتحفظ على عملية التحول الديموقراطي وتكاليفها الباهظة على استقرار نخبها ومصالحها الحيوية. تتخوف نخبة النظام السوري، مثلاً، من تزايد حدة اصوات المنتديات الأهلية وإصرار قيادييها على اهمية الاعتراف بالمجتمع الأهلي ومشروعية المعارضة السياسية ضمن نطاق وحدود القانون. واللافت ان النخبة النافذة داخل النظام السوري أبدت اعتراضاتها على السماح لهذه المنتديات والجمعيات الأهلية بالعمل العلني بسبب تخوفها من ان يؤدي الحديث عن المجتمع لتصدعه وفتح ثغرات في جسده، يهدد تماسكه ووحدته ويعرض سورية لخضات وهزات امنية هي بغنى عنها. أيضاً، تشدد النخبة النافذة في النظام السوري على أنها لا تزال في حال حرب مع إسرائيل، وهذا الصراع المصيري الجدران يأخذ الأولوية ليس فقط على أجندة الدولة بل ايضاً على برامج المنتديات الأهلية. الإصلاح السياسي وعملية الانفتاح التي تطالب فيها فاعليات المجتمع الأهلي، في رأي القيادة السورية، يمكن ان يؤديا الى إضعاف المجتمع والدولة معاً في مواجهة التحديات الخارجية: لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، ترداد مخيف للأسطوانة الإيديولوجية التقليدية التي هيمنت على الخطاب السياسي العربي منذ منتصف الخمسينات وكأن عجلة التاريخ لم تتحرك! مرة اخرى، السؤال المهم الذي يطرح نفسه هو: كيف للمراقب ان يميز نقدياً بين تحفظات القيادة السورية الحقيقية والوهمية على الديموقراطية؟ هل تخفي هذه التحفظات بعداً ايديولوجياً مضاداً ورافضاً للمفهوم الديموقراطي؟ هل تتخوف القيادة السورية حقاً وفعلاً من آثار وتداعيات عملية التحول الديموقراطي على المجعتمع والدولة ام على مصالحها وديمومتها؟ كيف يمكن بناء جسور التواصل والحوار المفيد والناجع بين نخبة النظام النافذة وفاعليات المجتمع الأهلي من اجل التخفيف من مخاوف النخبة وأي آثار سلبية جانبية يمكن ان تتسبب بها عملية التحول الديموقراطي؟ وماذا اذا استمرت القيادة السورية في رفضها المطلق للديموقراطية؟ يبدو، ويا للأسف، ان السلطات اللبنانية تطبعت وتأثرت الى درجة خطرة بذهنية الأجهزة الأمنية في البلدان العربية، وأصبحت ايضاً تستخدم نفس المصطلحات والتحفظات من اجل قمع الحريات وإحكام قبضتها على المجتمع الأهلي. فهي لا تتورع الآن عن تخوين المعارضة من اجل تخويفها وإسكاتها وحملها على القبول بالأمر الواقع. صحيح انه من الصعب اختزال وتصنيف الخارطة الرسمية السياسية في موقف واحد محددة، إلا ان السلبية تشكل القاسم المشترك بينها، هذا مع العلم ان هناك تجارب ايجابية تجدر دراستها مثل حال البحرين والمغرب. وعلى العكس من مواقف النظم القائمة من الديموقراطية، اظهرت المعارضة نضوجاً وحيوية، وتأقلماً مع السياقات الإيديولوجية الجديدة، على الأقل على المستوى النظري التجريدي اكثر بكثير مما اظهرته الحكومات العربية. لا يشكل هذا الاستنتاج مفاجأة، حيث انه يصعب على القيادات السلطوية التخلي عن امتيازاتها ومصالحها التي يؤمنها لها احتكار السلطة، في حين ان المعارضة بحاجة الى إبداء مرونة وديناميكية تكتيكية للوصول الى معاقل السلطة. لكن الأمر يتعدى التكتيك والتحايل السياسي من قبل المعارضة. يبدو ان التيار الواسع داخل القوى القومية واليسارية بدأ فعلياً في حسم خياراته... ايجابياً من قضايا الديموقراطية، وبدأ يتخلى عن تحفظاته السابقة تجاه الكثير من المفاهيم المرتبطة بالديموقراطية الليبرالية، بما فيها التعددية الحزبية، الانتقال السلمي للسلطة السياسية، وحرية الاعتقاد، ومبدأ المواطنة، والمساواة القانونية بين الرجل والمرأة. فلقد انخرط الكثير من القيادات القومية واليسارية السابقة في مشروع بناء المجتمع الأهلي وأصبحوا يدافعون بجرأة وحزم عن الحريات الخاصة والعامة لكل المواطنين من دون استثناء، مع تحفظ ضمني، ويا للأسف، من قبل بعض النخب اليسارية عن حرية حركات الإسلام السياسي في المشاركة السياسية الفعالة والمشروعة في المجتمع والسلطة. ففي حين ادى الحوار القومي - الإسلامي الى نوع من المصالحة التاريخية بين الفريقين، ما يزال التيار الواسع داخل الحركات الإسلامية والأحزاب اليسارية يشكك في نيات وصدقية التيار الآخر. لقد تركت الأحداث الدموية المؤلمة في كل من الجزائر ومصر واليمن خلال فترة الثمانينات والتسعينات بصماتها السوداء على العلاقة بين اليساريين والإسلاميين. استطاع النظام المصري والجزائري واليمني في العقدين الأخيرين استغلال المخاوف المشتركة لتيار اليسار وحركات الإسلام السياسي ورمي طعم السماح لهما بالمشاركة في السلطة للعبهما ضد بعضهما البعض وضربهما معاً. طبعاً، في الحال المصرية، ارتد السهم على الصياد وأرداه قتيلاً، وأدى ايضاً الى تأزم الوضع السياسي وتراجع عملية التحول الديموقراطي وفرز خطير في الشارع المصري بين بعض التيارات السياسية والاجتماعية وبين هذه التيارات والحكومة المركزية. اما في الجزائر، فأدى الفرز السياسي - الاجتماعي الخطير الى إغراق هذا البلد المهم في بحر من الدماء كانت نتيجته اضعاف كل الفرقاء السياسيين وإحكام العسكر قبضتهم على شؤون البلاد. إنهاء الحرب الأهلية - الإيديولوجية بين الإسلاميين واليساريين ضروري للبدء الفعلي في التحول نحو الفضاء الديموقراطي، لأن هذا التحول يتطلب من التيارين انهاء تحفظهما على مشاركة التيار الآخر في اللعبة السياسية والاعتراف العلني والصريح بحقه المشروع في المنافسة السلمية من اجل الوصول الى سدة الحكم. * أستاذ في العلاقات الدولية والحضارات في جامعة سارة لورنس في نيويورك.