على رغم نجاح الانتخابات البرلمانية تشهد مصر في هذه المرحلة صراعاً يعدّ سابقة بين النخب السياسية على كل المستويات، كان من نتيجته عدم وضوح خطة طريق بناء النظام السياسي الجديد ما بعد 25 يناير، بما قد يؤثر سلباً في طبيعة النظام السياسي الذي يتشكّل في هذه المرحلة الانتقالية. ويتحسر المصريون الذين كانوا أصحاب أول مجلس نيابي وأول دستور خارج أوروبا على غياب رؤية واضحة لمستقبل البلاد تجمع أطياف النخب السياسية بألوانها الفكرية المتعددة، وربما المتناقضة، لتحدد ملامح الجمهورية الثانية، ويعود ذلك إلى أسباب متعددة، أهمها عدم وجود اتساق فكري عام بين القوى والنخب السياسية، إذ توجد حالة حادة من الصراع بين الأفكار والأيديولوجيات أدت إلى حالة حادة من الاستقطابات الفكرية والسياسية في اتجاهات الرأي العام ذاته وعلى المستويات المختلفة، ويظهر ذلك بوضوح في خريطة النخبة المصرية بعد الثورة التي يمكن تصنيفها إلى: 1- نخبة العمل الوطني المصري المعارضة والمستقلة عن نظام الحكم السابق وهذه النخبة تتكون من: الأولى: نخبة ثورية اتسمت علاقتها بالنظام السابق بالصدام الدائم ومنها جماعة الإخوان المسلمين والجماعات الإسلامية الأخرى والشيوعيون، إضافة إلى حركات «6 أبريل» و «كفاية» وائتلافات الثورة التي أفرزتها الثورة التي ما زالت مستمرة حتى الآن ومن رموزها بعض الشباب الذي أظهرته وركزت عليه وسائل الإعلام وجعلت منه قيادات طبيعية للثورة، وهؤلاء يقودون أكثر من 175 ائتلافاً ثورياً في مختلف محافظات الجمهورية، بالإضافة إلى 28 حزباً، إلا أنه من الصعب الحكم عليها الآن. الثانية: نخبة سياسة معارضة تقليدية شاركت في الثورة وكان لها فضل كبير في دعم صمودها، وعملت في إطار النظام السياسي السابق بشكل أو آخر، لكنها كانت مستقلة وعملت خارج عملية الولاء العضوي للنظام السابق ولم تكن جزءاً منه بل عملت في إطاره والتعاون معه بشكل أو بآخر، إلا أنه كانت لها مواقف مستقلة إلى حد بعيد. ومن رموزها محمد البرادعي وأيمن نور وأسامة الغزالي حرب ومصطفى بكري وحمدين صباحي وغيرهم من الرموز والأحزاب السياسية مثل الوفد والتجمع والعربي الناصري والكرامة والجبهة الديموقراطية. الثالثة: نخبة سياسية متحولة ومن أبرزها الحركات والجماعات السلفية والصوفية والتي كانت عنصراً فاعلاً في دعم النظام السابق لكنها عندما تأكدت من سقوطه غيرت مواقفها تماماً وارتدت عباءة الثورة. 2- نخبة سياسية محافظة ومن أنصارها فلول الحزب الوطني وبقايا نخبة النظام السياسي السابق ونخبة كبيرة من رجال الأعمال والمال والإعلام والصحافة والفنانين والكتاب الذين ارتبطوا بعلاقات مصالح مع النظام السابق، إضافة إلى نخبة سياسية أفرزتها العائلات المصرية الكبيرة والعصبيات القبلية في الدلتا والصعيد وفي الصحراء الشرقية والغربية وسيناء، وهي تستند إلى رصيد عائلي وقبلي كبير ولهذا الاعتبار كانت ركناً أساسياً من النظام السابق. 3 - من الملاحظ أن النخبة السياسية المصرية الجديدة عقب الثورة تتسم بالدور المركزي لنخبة سياسية كانت محظورة في عهد النظام السابق، ومنها الإخوان المسلمون والجماعات الإسلامية الأخرى واليساريون وحركتا «كفاية» و «6 أبريل»... وهذه النخبة الجديدة بعناصرها المختلفة تبني شرعيتها، ومن ثم شرعية النظام السياسي الجديد لمصر على ثورة 25 يناير، وهي نخبة بديلة لنخبة النظام السياسي السابق الذي كان يعد امتداداً لنظام حركة 23 تموز (يوليو) 1952 وبنخبة مشوهة. 4- من ناحية صراع الأفكار السياسية التي ترتبط بشكل أو آخر برؤى بناء النظام السياسي الجديد، هناك حالة حادة من الصراع النخبوي /الشعبي بين الإسلاميين (إخوان وسلفيين) من ناحية والليبراليين واليساريين والناصريين وأنصار مبدأ «مصر أولاً»، من ناحية أخرى. كما يدور صراع ضارٍ بين مؤسسات الإسلام المعتدل وأنصارها، وفي مقدمها الأزهر الشريف ودار الإفتاء والجماعات الصوفية من ناحية، والجماعات الإسلامية المتشددة والسلفيين، من ناحية أخرى. بينما تبنى الإخوان موقف الحياد الظاهري من هذا الصراع. كما تشهد الساحة السياسية صراعاً حاداً بين حركات وائتلافات شباب الثورة والقوى والأحزاب السياسية التي شاركت في الثورة من ناحية والمجلس العسكري والحكومة وأحزاب فلول الحزب الوطني من ناحية أخرى، على خلفية مسائل العزل السياسي للفلول واتهام بعض القوى والحركات بتلقي تمويل أجنبي. وفي الوقت نفسه أحدث الخلاف الحاد حول الموقف من وثيقة المبادئ الدستورية وكيفية اختيار أعضاء الجمعية التأسيسية للدستور انشقاقاً داخل قوى الثورة ذاتها بين الإسلاميين من الإخوان بمختلف تياراتهم وحزب الوسط والسلفيين والجماعة الإسلامية من ناحية، والأحزاب الليبرالية واليسارية والناصرية وحركتي «6 أبريل» و «كفاية» وغيرهما، من ناحية أخرى. صراع متعدد الاطراف كما تشهد الساحة السياسية صراعاً حاداً بين الليبراليين والحكومة والمجلس العسكري ورجال الأعمال والقطاع الخاص وفلول الحزب الوطني من ناحية، والأحزاب اليسارية والناصرية وحركات وائتلافات الثورة والأحزاب والجماعات الإسلامية من ناحية أخرى حول مشاريع الخصخصة في عهد النظام السابق والموقف من استعادة الدولة الشركات التي بيعت. كما تشهد الساحة السياسية صراعات حادة داخل أحزاب وقوى سياسية، منها أحزاب الوفد والجبهة الديموقراطية والمصريين الأحرار والتجمع والناصري وغيرها، بسبب الموقف من ترشيح أعضاء من الحزب الوطني المنحل بأسماء هذه الأحزاب. كما تشهد جماعة الإخوان حالة فريدة من صراع الأجيال والأفكار بين الجماعة الرسمية وحزب «الحرية والعدالة» من ناحية، وحركة «شباب الإخوان» متمثلة في التيار المصري وحزب الوسط وأنصار عبد المنعم أبو الفتوح، المرشح المحتمل لرئاسة الجمهورية، من ناحية أخرى. الحداثة وما قبلها والمشكلة أن الانقسامات في صفوف النخبة السياسية المصرية ليست فقط ذات طبيعة سياسية ولكنها ذات أبعاد أيديولوجية أيضاً، وتعكس رغبة من قبل بعض القوى لتكريس سيطرتها، ليس فقط على مؤسسات نظام الحكم، ولكن على المجتمع أيضاً. وسنكتفي هنا بتقديم بعض الملاحظات العامة: 1 - الأولى تتعلق بشكل التوازنات الطبقية في المجتمع المصري، وهنا يمكن القول إن الطبقة البرجوازية تتمتع بنفوذ سياسي أكبر مقارنة بالطبقتين الوسطى والعمالية. وبالنسبة إلى الطبقة البرجوازية يثير الصراع السياسي مخاوفها، مما قد يؤدي إليه من تحكم قوى سياسية معينة قد تطيح كل مكاسب تلك الطبقة وامتيازاتها. أما الطبقة الوسطى التي تشهد نحراً متزايداً في قواعدها الاقتصادية فهي لا تملك سوى آليات التظاهر في الميادين لإسقاط الحكومات والسياسات التي تناهضها، كما أن الطبقة العمالية لا تزال تدور في فلك ردود الفعل، فضلاً عما سببته سياسات الخصخصة التي اتبعها النظام السابق من تفتيت للتجمعات العمالية إلى حد كبير. 2 - الثانية تتمثل في أن تنظيمات المجتمع المدني في مصر لا تزال تعاني على المستويين الثقافي والتنظيمي من مشكلات عدة، فمن ناحية لا تزال قيم العمل الجماعي مفتقدة إلى حد كبير في المجتمع المصري عموماً، كما أن قدرة قيادات هذه التنظيمات على مقاومة الإغراءات الحكومية لها والتي تتخذ أشكالاً عدة منها الوعود بتقلدها مناصب مهمة أو قيام النخبة بهذا الأمر بالفعل. هذا الأمر يضعف كثيراً من صدقية تلك التنظيمات في عيون أعضائها والرأي العام، والذين يتأكدون حينئذ أنه لا فكاك من هيمنة النخبة عليهم، ولا تفلت السمات التنظيمية للمجتمع المدني في مصر من المشكلات أيضاً والتي يعود مصدرها كلها إلى استمرار قدرة النظام السياسي على أن يأخذ بيساره ما يعطيه لهذه التنظيمات بيمينه، الأمر الذي يبقيها على نحو دائم في إطار سيطرته السياسية. وكشفت التحالفات السياسية الحزبية عقب الثورة الآتي: أولاً: إنها تحالفات انتخابية قد تبدو أنها موقتة، ومن ثم لم تكن تحالفات سياسية تطرح رؤية متكاملة أو برنامجاً ائتلافياً موحداً حيال قضايا العمل الوطني خلال المرحلة المقبلة، كما أنها انتهت إلى تحالفات هشة وانقسامات أكثر حدة بعد تخلي قوى سياسية فاعلة وأحزاب عدة عن هذه التحالفات. ثانياً: التركيز على قضايا الإصلاح السياسي على حساب القضايا الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الأخرى، ويتضح من ذلك وبسبب الاختلافات في الرؤى الاقتصادية والاجتماعية صعوبة التحالف بين الأحزاب والقوى السياسية حول هذه القضايا والتحديات، كما أنه في ما يتعلق بطبيعة النظام السياسي هناك صراع حاد في الأفكار حول ما إذا كانت الدولة مدنية أم تستند إلى تطبيق الشريعة الإسلامية، وما إذا كان النظام السياسي رئاسياً أم برلمانياً أم مختلطاً، فضلاً عن الخلاف الحاد حول الضمانات الأساسية لتحقيق تداول السلطة. ويمكن القول إن مستقبل مصر البعيد ومصير الثورة الراهنة يتوقف إلى حد بعيد جداً على العلاقة التي ستنشأ بين التيارات الإسلامية الصاعدة من ناحية والتيارات السياسية والفكرية الأخرى في البلاد من ناحية أخرى، فقد تأخذ هذه العلاقة مساراً صراعياً، تتصادم فيه القوى الإسلامية الصاعدة مع التيارات السياسية الأخرى، ليبرالية واشتراكية ووسطية معتدلة، قاصدة نفيها واستبعادها من ساحات الفكر والسياسة. وحالة الثورة الإيرانية هي النموذج الذي يمكن القياس عليه في هذا المجال. ولا أظن أن الخبرة الإيرانية قابلة للتكرار في مصر، فالظرف الدولي والإقليمي، إضافة إلى عمق قيم الحداثة والنهضة ودورها التاريخي في تأسيس مصر الحديثة، لا يسمح بالتهميش والاستبعاد الكامل لتيارات غير الإسلاميين، حتى لو كان ميزان السياسة وأصوات الناخبين يشير في اتجاه آخر. غير أن عدم ترجيح هذا السيناريو لا ينفي أن البعض من بين الإسلاميين لن يحاولوا دفع الأحداث في هذا الاتجاه بما قد يؤدي إلى صراعات عنيفة بين بعض هؤلاء الإسلاميين المتشددين والقوى المدنية الأخرى، ولكن الأرجح هو أن هذه الصراعات لن تكون في النهاية سوى مقدمات لوضع صياغة جديدة لأسس التعايش بين التيارات المختلفة، والأهم من ذلك أسس لعلاقة جديدة بين الدين والدولة والمجتمع تختلف عما ساد طوال القرنين الماضيين، ولكن من دون أن تصل إلى حد الدولة الدينية على النموذج الإيراني، ولن تكون نموذجاً آخر لما حدث في تركيا، ولكنها أمر وسط بين الاثنين. ويستلزم ذلك تكيفاً وتنازلات من جانب الأطراف كافة للوصول إلى توافق جديد وصياغة جديدة للعلاقة بين الدين والدولة والمجتمع. والنموذج المتوقع في هذه الحالة هو نموذج أقرب إلى صيغة ما حدث في تونس. والواقع أن إعلان النخبة نيتها استمرار هذه العملية، ودفعها بشخصيات معينة ترفع لواء المضي في دفع عجلة الإصلاح بحيث تكون مقبولة للجناح المحافظ وللأجنحة الإصلاحية معاً، دفعا عدداً من المحللين إلى النظر بصورة إيجابية إلى مستقبل عملية الإصلاح السياسي والتحول الديموقراطي في مصر، إلا أن هذا كله يمكن اعتباره فقط إضافة إيجابية لنيات النخبة وليس للعملية الديموقراطية على الأرض. * كاتب مصري.