غالباً ما تتميز المجتمعات السياسية، خصوصاً تلك التي يتحدد إنسانها بنظام معرفي عقلاني وحديث، وتحكمها نظم ديموقراطية، بثقافة سياسية حية ودينامية، قادرة على إعادة إنتاج أسباب حيويتها وعوامل تاريخيتها. وللأسف لا تتوافر معظم السمات السابقة مجتمعة، إلا في الدول والمجتمعات السياسية الغربية. وفي سورية تشكلت الثقافة السياسة السائدة بدءاً من مرحلة النضال ضد المستعمر الفرنسي واحتلال فلسطين مروراً بمرحلة تبلور الوعي القومي العربي وتقدمه الشعبي والسياسي، المتلازم مع نزوع يساري فكري وأيديولوجي، ذي تصور اقتصادي اجتماعي للديموقراطية، وصولاً إلى المرحلة التي انقلب فيها حزب البعث على قواعد الحياة السياسية (الديموقراطية نسبياً) التي سادت منذ رحيل المستعمر الفرنسي. بالطبع خلال كل المراحل السابقة كان للإسلام السياسي وجوده الدائم في المجتمع، لكن المتواضع أيضاً. في المرحلة الأخيرة التي وصل فيها حزب البعث إلى السلطة ولدت أزمة جمود الثقافة السياسية السورية بسبب فقدانها لأكثر العوامل تأثيراً على حيويتها، عامل ديموقراطية النظام السياسي، فقد بدأت نخبته العسكرية عملية اجتثاث منظمة للمواقف الفكرية والسياسية المؤمنة باللعبة البرلمانية الديموقراطية التي خبرتها سورية ولو بنجاح جزئي منذ استقلالها، وحظيت الأفكار الشمولية برعاية رسمية من قبل طبقة السلطة الجديدة، التي فاقمت حدّة الفرز بين حدين سياسيين في الثقافة السياسية السورية، أحدهما «تقدمي» يساري وقومي والآخر «رجعي» يسم بقية القوى السياسية. ولم يمض الوقت طويلاً حتى تفرد الأول بالساحة السياسية، فباتت خالية لهذا اللون دون سواه، وهو ما تفاقم مع تمركز السلطة وتحولها إلى سلطة مجسدة في شخص الرئيس الراحل حافظ الأسد. هكذا سادت المسلمات التي وضعت فوق التساؤل والنقد، وأخذت تتجذر أكثر فأكثر في الثقافة السياسية السورية ليس بوصفها فرضيات ذات أصل أيديولوجي ويمكن التشكيك في نجاح مقاربتها للواقع، بل باعتبارها نظريات سياسية متكاملة لا تقبل الطعن. لقد أصبحت أقرب إلى التابو منه إلى أي شيء آخر. وعلى رغم أن سقوط المنظومة الاشتراكية وزيادة الاستبداد وقهره للإنسان السوري قد دفعا بالعديد من القوى السورية ذات الأصل اليساري والقومي إلى تبني الديموقراطية، إلا أن هذه القوى لم تختبر خطاباتها السياسية وتتجاوز عقدها الأيديولوجية، وظلت بمنأى عن إدراك الأهمية التي انطوى عليها انهيار المعسكر الاشتراكي، وظهور نظام عالمي جديد تداعت فيه الحدود وبدأت تسوده قيم الديموقراطية. كذلك لم يُلحظ تغير مفاهيم السيادة الوطنية، وتحول العالم قرية صغيرة. هكذا غابت عن غالبية القوى التي تشكل معظم المتن الأساسي للمعارضة السورية الحالية، إسلامية يسارية وقومية، تلك التغييرات الجذرية، ولم تتمكن من سحب مراكز ثقلها العقائدية بعيداً من الوطنية المتشددة بالمعنى القديم للكلمة التي لم تعد قيمة مثلى بقدر ما أمست مفهوماً منعزلاً عن الحقائق وجالباً للتطرف. فهي لم تع، مثلاً، صوابية استبدال مفهوم الغرب المستعمر والامبريالي بمفهوم الغرب الذي توجد له مصالح في سورية قد تتفق مع مصالح الشعب السوري وقد تنفصل، وأن الحالتين تتطلبان تعاطياً مختلفاً، وأن الولاياتالمتحدة وانحيازها لإسرائيل، وإن كانا يؤسسان لشرعية الاختلاف العميق معها بخصوص هذا الموضوع المهم والاستراتيجي، لكن ذلك لا يعني أبداً تحويلها إلى عدو دائم وتاريخي، ولا ينفي تقاطع مصالحها أحياناً مع مصالح الشعب السوري. إلا أن الثورة السورية، التي تخللها إجرام وتوحش وقمع منقطع النظير ارتكبه النظام بحقها وبحق الشعب الثائر لحريته، استطاعت أن تشكل مناسبة حقيقية للبدء في إعادة هيكلة الثقافة السياسية السائدة. فقد كسر الثوار والمتظاهرون صنمية المواقف الأيديولوجية المشكّلة لمفاصل هذه الثقافة وأبرزوا فواتها، وطالبوا بالحماية الدولية للمدنيين التي كانت تعد خطاً احمر من الصعب تجاوزه من قبل قوى المعارضة السورية. لقد أثبت الثوار السوريون أنهم يتقنون لغة الحياة والواقع بكافة أبعادها، بما لا يقاس مع بعض قوى المعارضة ممن تصلبت مفاصلها ووهنت قدرتها وشاخت أفكارها ومقولاتها وضلّت طريقها محبوسة في متاهات أيديولوجية، سيما أن تلك القوى لم تثبت طوال تجربتها السياسية التي امتدت لعقود، سوى عقمها. نعم، استطاعت الثورة السورية بحسها والتصاقها بحاجات السوري ورغبته في تحقيق حريته، أن تنتهك التابو في الثقافة السياسية السورية السائدة ونجحت أولياً في ذلك. وهو ما يعني أنها لن تكون ثورة على الفساد والاستبداد فقط، بل ستكون، على رغم المخاض العسير، مدخلاً وأداة لسيادة العقلانية وإرهاصاً لتحرير عميق للسوريين من كل أشكال الاستلاب والقروسطية السائدين. * كاتب وناشط سوري