الأسهم الأوروبية تغلق على تراجع    أمير تبوك: نقلة حضارية تشهدها المنطقة من خلال مشاريع رؤية 2030    الفالح: المستثمرون الأجانب يتوافدون إلى «نيوم»    برئاسة ولي العهد.. مجلس الوزراء يقرّ الميزانية العامة للدولة للعام المالي 2025م    السعودية وروسيا والعراق يناقشون الحفاظ على استقرار سوق البترول    مغادرة الطائرة الإغاثية ال24 إلى بيروت    التعاون والخالدية.. «صراع صدارة»    الملك يتلقى دعوة أمير الكويت لحضور القمة الخليجية    الهلال يتعادل إيجابياً مع السد ويتأهل لثمن نهائي "نخبة آسيا"    في دوري يلو .. تعادل نيوم والباطن سلبياً    خادم الحرمين الشريفين يدعو إلى إقامة صلاة الاستسقاء    «التعليم»: 7 % من الطلاب حققوا أداء عالياً في الاختبارات الوطنية    أربعة آلاف مستفيد من حملة «شريط الأمل»    «فقرة الساحر» تجمع الأصدقاء بينهم أسماء جلال    7 مفاتيح لعافيتك موجودة في فيتامين D.. استغلها    أنشيلوتي: الإصابات تمثل فرصة لنصبح أفضل    الأسبوع المقبل.. أولى فترات الانقلاب الشتوي    «شتاء المدينة».. رحلات ميدانية وتجارب ثقافية    مشاعر فياضة لقاصدي البيت العتيق    الزلفي في مواجهة أبها.. وأحد يلتقي العين.. والبكيرية أمام العربي    مبدعون.. مبتكرون    ملتقى الميزانية.. الدروس المستفادة للمواطن والمسؤول !    هنآ رئيس الأوروغواي الشرقية.. خادم الحرمين الشريفين وولي العهد يعزيان القيادة الكويتية    بايدن: إسرائيل ولبنان وافقتا على اتفاق وقف النار    كيف تتعاملين مع مخاوف طفلك من المدرسة؟    حدث تاريخي للمرة الأولى في المملكة…. جدة تستضيف مزاد الدوري الهندي للكريكيت    قمة مجلس التعاون ال45 بالكويت.. تأكيد لوحدة الصَّف والكلمة    7 آلاف مجزرة إسرائيلية بحق العائلات في غزة    الدفاع المدني: استمرار هطول الأمطار الرعدية على معظم مناطق المملكة    كثفوا توعية المواطن بمميزاته وفرصه    شركة ترفض تعيين موظفين بسبب أبراجهم الفلكية    «هاتف» للتخلص من إدمان مواقع التواصل    حوادث الطائرات    حروب عالمية وأخرى أشد فتكاً    معاطف من حُب    الدكتور عصام خوقير.. العبارة الساخرة والنقد الممتع    جذوة من نار    لا فاز الأهلي أنتشي..!    الرياض الجميلة الصديقة    هؤلاء هم المرجفون    المملكة وتعزيز أمنها البحري    اكتشاف علاج جديد للسمنة    السعودية رائدة فصل التوائم عالمياً    خادم الحرمين الشريفين يدعو إلى إقامة صلاة الاستسقاء الخميس المقبل    مناقشة معوقات مشروع الصرف الصحي وخطر الأودية في صبيا    حملة على الباعة المخالفين بالدمام    «السلمان» يستقبل قائد العمليات المشتركة بدولة الإمارات    أهمية الدور المناط بالمحافظين في نقل الصورة التي يشعر بها المواطن    المؤتمر الدولي للتوائم الملتصقة يناقش تحديات إعادة ترميم الأعضاء وتغطية الجروح    مركز صحي سهل تنومة يُقيم فعالية "الأسبوع الخليجي للسكري"    "سلمان للإغاثة" يوقع مذكرة تفاهم مع مؤسسة الأمير محمد بن فهد للتنمية الإنسانية    جمعية لأجلهم تعقد مؤتمراً صحفياً لتسليط الضوء على فعاليات الملتقى السنوي السادس لأسر الأشخاص ذوي الإعاقة    حقوق المرأة في المملكة تؤكدها الشريعة الإسلامية ويحفظها النظام    استمرار انخفاض درجات الحرارة في 4 مناطق    الكرامة الوطنية.. استراتيجيات الرد على الإساءات    محمد بن راشد الخثلان ورسالته الأخيرة    زاروا المسجد النبوي ووصلوا إلى مكة المكرمة.. ضيوف برنامج خادم الحرمين يشكرون القيادة    نوافذ للحياة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المسيرة المتعثرة لقضية الديموقراطية في سورية
نشر في الحياة يوم 03 - 08 - 2001

شكلت الحركة من اجل الديموقراطية - التي عبرت عنها في البدء وثيقة ال99 ايلول سبتمبر الماضي، ثم وثيقة الألف في كانون الثاني يناير الأخير، وما رافق ذلك من منتديات حرة ونشاطات ونقاشات في الوسط الثقافي السوري - علامة فارقة في مجتمع بقي على مدى عقود محروماً من ابسط الحريات السياسية خصوصاً، والديموقراطية بوجه عام.
لا شك في ان كثراً لم يصدقوا، للوهلة الأولى، ما يرون ويسمعون، أو اعتبروا في قرارة انفهسم، وفي احاديثهم الحميمة، ما وصفه بعضهم انه غض للنظر من جانب السلطة، تكتيك مخابراتي القصد منه كشف اكبر عدد من معارضي الوضع القائم، تمهيداً لخطوات قمعية بحقهم لاحقاً، وفي الوقت المناسب. في حين راهن آخرون على وجود تيار إصلاحي حقيقي داخل السلطة هو الذي يفرض غض النظر هذا، من دون اي نيات مبيتة، لا بل بقصد الاستقواء بتلك الحركة التي تهز مجتمع المثقفين السوريين، في دعم مشاريعه الإصلاحية التي تلقى ممانعة جدية، الى هذا الحد أو ذاك، من جناح آخر شاعت تسميته ب"الحرس القديم".
لا نريد ان نستبق الأمور كثيراً فننضم الى أي من هذين الطرفين المتعارضين في نظرتهما الحاسمة الى ما يجري في الساحة السورية، لكن لا يسعنا سوى ان نلاحظ السرعة التي انتقلت بها وسائل إعلام السلطة والحزب الحاكم هناك الى مهاجمة المراهنين على صراع داخلها بين جناحين محكمي الفرز، ولا سيما صحيفة الحزب، التي تحمل بالمناسبة الاسم ذاته "البعث"، وصولاً الى صدور القرار المعروف بحظر المنتديات، وربط نشاطها بشروط تعجيزية، كطلب ترخيص من الأمن قبل 15 يوماً من المحاضرة، وتقديم نسخة عن هذه المحاضرة مع تعريف بالمحاضر وأسماء المشاركين... الخ.
لقد شدد المتحدثون باسم الحزب الحاكم في دمشق على عدم وجود اي صراع في صفوفه، وتالياً في صفوف السلطة ككل، بما يوحي أن المسعى "الإصلاحي" انما هو امر متوافق عليه من الجميع. بيد ان "الإصلاح"، بحسب هؤلاء، يجب ان يقتصر على الجانب الاقتصادي، في اتجاه اعتماد اقتصاد السوق وإشاعة الحرية الاقتصادية، وخصخصة اجزاء اساسية من القطاع العام، على ألا يرافق ذلك إطلاق جدي للحريات السياسية. والنموذج الذي يقال انهم يعتبرونه قدوة لهم انما هو النموذج الصيني، كبديل من الخيار السوفياتي الذي ادى الجمع في التجربة الغورباتشوفية التي شهدها، بين ما سمي البيريسترويكا إعادة البناء، على المستوى الاقتصادي، والغلاسنوست الشفافية والحريات الديموقراطية، على المستوى السياسي، إلى الانهيارات المعروفة، بحسب وجهة النظر التي يدافعون عنها.
فلقد شكلت وفاة ماوتسي تونغ عام 1976، ثم تصفية الجناح المتصلب الذي كانت تقوده زوجته، ايذاناً ببدء مسيرة اللبرلة الاقتصادية بقيادة دينغ هسياو بينغ. وقد كانت مسيرة وحيدة الجانب والاتجاه، اذ حين حاول الطلاب، في عام 1989، الضغط لإطلاق الحريات، لم يتردد النظام في اقتراف مجزرة تيان آن مين المشهورة ونجحت في اخراس دعاة الديموقراطية.
إلا أن ما لا تأخذه وجهة النظر هذه في الاعتبار انما هو الفرق العميق بين حالتي كل من سورية والصين. وهو فرق متعدد الجوانب:
1- أياً تكن حال الانحطاط البيروقراطي التي يعيشها الحزب الشيوعي الصيني، الحاكم منذ عام 1949، وعلى رغم ملامح الفساد والقمع التي تشوه صورته الى هذا الحد او ذاك، فهو حزب يرتكز الى ماض ثوري حقيقي لم تشهده سورية، نجح في سياقه الحزب المذكور في إحداث تغيير عميق في صورة بلد كان نصف اقطاعي ونصف مستعمر، وعلى درجة كبيرة من التخلف، وفي نقله الى الحداثة. وهو أمر يترك آثاراً واضحة، وإن كانت متناقصة باستمرار، في نظرة المواطنين هناك الى السلطة القائمة في بلدهم.
2- في الوقت الذي كانت فيه السلطة مصرة على حرمان اوسع الجماهير الصينية من الحريات الدميوقراطية، كانت قد توصلت عبر سياستها الاقتصادية الجديدة الى تحقيق معدلات عالية جداً، وغير مسبوقة، من النمو الذي بلغ في بعض السنوات - على عكس ما هي الحال في واقع الاقتصاد السوري المأزوم - حوالى ال15 في المئة، وبقي على مدى سنوات بعد مجزرة تيان آن مين يتراوح بين 9 في المئة و12 في المئة، مع ما يعنيه ذلك من ارتفاع جدي في المستوى المعيشي لمئات الملايين من ابناء الشعب الصيني، على رغم مما يتلازم مع ذلك من تعمق شديد في التفاوتات الاجتماعية، على حساب مفهوم العدالة والمثل الأعلى المساواتي الذي كانت الماوية، في مرحلة اولى، قد شددت عليه، على المستوى الإيديولوجي، وبصورة نسبية على أرض الواقع.
3- على رغم كل ذلك، فإن السلطة العليا في الصين عجزت على امتداد اشهر خلال "الربيع الصيني"، عن مباشرة القمع، وحتى حين توصلت الى اتخاذ القرار بذلك، في الأيام التي سبقت الرابع من حزيران 1989، اضطرت الى استبدال الفرق العسكرية الموجودة في العاصمة بكين، والتي تآخت مع المتظاهرين من العمال والطلاب، وكان من الواضح انها سترفض اطلاق النار عليهم، بفرق استقدمتها من الأطراف. وفي شتى الحالات، فإن امكان الإبقاء على القبضة الحديد للحزب الشيوعي الصيني الى ما لا نهاية له امر مستحيل، إذا نظرنا الى التناقضات التي لا تني تتفاقم داخل المجتمع الصيني وقد اعطت صورة عن جانب منها مشكلات السلطة مع طائفة الفالون غونغ. وعاجلاً أو آجلاً ستطرح مسألة الحريات هناك على أعلى جدول الأعمال، فكيف الحال بالنسبة الى سورية، التي من البديهي ان السلطة فيها لن تستطيع التعويل على نجاحات اقتصادية وسياسية غير موجودة اصلاً، لتأخير مجيء الديموقراطية الى تاريخ غير معروف.
من المؤكد ان مكمن الضعف الأساس في الحركة الحالية، في سورية، من اجل الديموقراطية، انما هو غياب القيادة المنسجمة والمتماسكة القادرة على تأخير الحال ولو المحدودة نسبياً من الأفراد والقوى التائقة الى نقل الوضع السياسي السوري من واقع المصادرة والقمع الحاليين الى مجتمع التداول الديموقراطي للسلطة وازدهار الحريات، وعلى تنظيم عملية التوسع باتجاه الجماهير صاحبة المصلحة في التغيرات المشار إليها في شتى الطبقات والشرائح الاجتماعية الدنيا والمتوسطة.
لقد تشكلت، بلا ريب، في سياق النضال الذي عرفته الأشهر الماضية، هيئة تنسيق قيادية علنية، لكنها تعرضت لانتكاسة واضحة حالما بدا ان السلطة قد انتقلت الى المواجهة. وكان بين عناصر تلك الانتكاسة انكفاء رموز في الحركة، من الأكثر بروزاً بينهم ميشال كيلو، والامتثال لقرارات السلطة بوقف المنتديات غير المرخصة.
ويطرح بالضرورة السؤال الآتي: أية قيادة هي تلك التي يتطلبها التعامل مع الوضع الراهن وتنظيم عملية التغيير المطلوب؟ لا شك في ان الناس المطالبين بالتحرك لأجل الاضطلاع بالمهمات غير السهل التنطح لتحقيقها يفترض ان يشكلوا حالاً واسعة قد لا يصح السعي الى جمعها في الإطار الضيق نسبياً الذي يمثله الحزب السياسي، بل هي تتطلب التفكير بصيغة جبهوية ان تكن فضفاضة بعض الشيء فهي على درجة جدية من التلاحم والاتحاد في ما يخص برنامج المرحلة الذي تغلب فيه قضية الديموقراطية. بيد انه لا مناص، لتحقيق ذلك التلاحم، ووحدة القرار، من ان يشكل وجود حزب متقدم، في إطارها، متأصل في فهمه للديموقراطية، الهيكل الذي يؤمن تلك الوحدة والملاذ الذي يضمن ذلك التلاحم.
لقد تخلف الحزب الشيوعي السوري عن لعب دور كان يفترض ان يضطلع به في مسألة الديموقراطية، واختار الالتحاق بالنظام القائم، في ظل قيادة حزب "البعث"، مع الاستثناء الذي مثله الجناح المنشق عنه، جناح "المكتب السياسي" بقيادة رياض الترك، الذي دفع من رفاقه غالياً ثمن الموقف المتميز الذي اتخذوه بابتعادهم عن مواقع السلطة ونقدهم لها. إلا ان الجناح المذكور عجز عن المضي بتميزه الى الحدود المطلوبة، وتالياً عن رفض الوقوع في فخ التحالف مع انظمة مشابهة للنظام الذي يقف في مواجهته - سواء من حيث تركيبته الطبقية، او من حيث بنيته البيروقراطية القمعية. والأمر ذاته يقال عن الأحزاب القومية التي حذت حذو الحزب المذكور.
إلا أن الساحة السورية لم تكن من العقم حيث ينعدم فيها ظهور قوى تحمل بذرة المستقبل، وترفع بشجاعة ونبل راية الديموقراطية وتحرر الإنسان، وتواجه شراسة القمع بصلابة مميزة. فلقد مثل "حزب العمل الشيوعي" النقيض الجذري لكل تلك الأحزاب التي انضوت في جبهة مع الحزب الحاكم، وتالياً عجزت عن القيام بدور اعتراض جدي على ممارسات النظام، لا بل ساهمت في تقديم غطاء ايديولوجي وسياسي له وللفساد الذي استشرى في ظله، كما لطابعه الديكتاتوري الخانق للحريات. كما انه تميز ايضاً عن الأحزاب الأخرى التي اختارت الدخول في تحالف مع انظمة مماثلة. ومن موقعه هذا، قدم الكثير من كوارده ومناضليه حياتهم في زنازين الأمن، وأمضى المئات من هؤلاء سنوات طويلة في السجون. والثقافة التي أنتجها هؤلاء، وبينهم كتّاب وشعراء وروائيون ومحللون سياسيون، كانت النقيض الجذري لثقافة النظام. لقد كانت الحرية دائماً هي الراية التي دافعوا عنها، والقيمة المثلى التي ضحوا بكل شيء من اجلها، الى جانب دفاعهم عن حقوق شعبهم في العدل الاجتماعي والخبز والفرح والكرامة الشخصية، كما الوطنية، ولقد بقيت جريدتهم السرية، الراية الحمراء، حتى آخر عدد صدر في عام 1992، قبل ان يغيِّب القمع خلف القضبان آخر كوادرهم القيادية، تنفرد في افتتاحيات طويلة بالتركيز على موضوع الديموقراطية، داعية "كل القوى الوطنية والمثقفين الثوريين والديموقراطيين الشرفاء - حسبما ورد في افتتاحية عدد آذار 1990 - بصرف النظر عن انتمائهم او عدم انتمائهم السياسي، للمشاركة بقسطهم، نقداً وإغناء وإكمالاً، وممارسة قناعاتهم ممارسة كفاحية مسؤولة، فالقضية اعظم شأناً وتأثيراً من ان يقف اي طرف يتحلى بأدنى قدر من وعي المسؤولية، خارج إطار المساهمة فيها، من موقعه وبما يستطيع".
بمعنى آخر، فإن الحركة من اجل الديموقراطية، التي بدأت تطل علينا منذ ايلول الماضي، كانت تستجيب، ولو متأخراً جداً، للنداء الذي أطلقته "الراية الحمراء" منذ اكثر من احد عشر عاماً، لا بل ان المطالب التي طرحها موقعو وثيقة الألف بدت كما لو كانت تستعيد حرفياً تقريباً المطالب الواردة في افتتاحية عدد آذار 1990، حيث نقرأ: "شعبنا اليوم يحلم بقوة بالحرية، وأمله بانتزاعها يتعزز. والحرية تعني للشعب إلغاء الأحكام العرفية والقوانين الاستثنائية كلها، وحرية المعتقلين الوطنيين جميعاً من دون قيد أو شرط، وتقديم كل موقوف او معتقل لأسباب سياسية الى محكمة علنية عادلة يكون له فيها حق الدفاع عن نفسه، وينال فيها حكماً منصفاً ومحدداً بدقة. وتعني حرية تشكيل الأحزاب والجمعيات والنوادي، وحرية الرأي والصحافة والإعلام، وحرية التجمع والتظاهر والاضراب، وتعني المساواة الكاملة امام القانون، بصرف النظر عن اي تمييز لأسباب دينية أو طائفية او قومية".
إلا أنه على رغم ان الغالبية الساحقة من اعضاء الحزب وكوادره العليا والوسطى باتت خارج السجن، فالحزب لم يعد قائماً كحال منظمة، وإن كان ثمة مشاركة نشطة للكثير من عناصره السابقة في الحركة الراهنة لأجل الديموقراطية. إن هذه الحركة بحاجة قطعاً الى أن يشكل حزباً شبيهاً بحزب العمل الشيوعي رافعة اساسية لعلمها، ومساهماً مركزياً في بلورة برنامجها وتوجيه نضالها، على ان يستمد عناصره وروافده ليس فقط ممن سبق ان انضووا في الحزب الذي حمل هذا الاسم، بل أيضاً من كل التيارات والجماعات التي اقتربت من تجربته وتعاطفت مع خطه ونضاله وتضحياته، ودفعت احياناً ثمناً باهظاً لمجرد قراءة ادبياته أو حيازتها، كما من الشبيبة الجديدة التي تتطلع لأن يكون لها دور جدي في "إخراج سورية من ثوبها القديم". على ان يستوعب هذا الحزب المستجدات الكثيرة التي طرأت على الواقع المحلي والإقليمي والعالمي، ويقرأها قراءة صحيحة على ضوء المنهج الديالكتيكي العلمي، مع انعكاسات ذلك على ما يفترض ان يكونه الخط والبرنامج السياسيان، ناهيك عن العلاقات التنظيمية. وهو امر يتطلب بالتأكيد ان يحمل هذا الحزب، الى مطلب الديموقراطية السياسية، برنامجاً للديموقراطية الاجتماعية، لا سيما في بلد يشكل القطاع العام فيه وزناً طاغياً على صعيد العملية الاقتصادية، ناهيكم عن ايلاء المسألة الوطنية التي سنعرِّج عليها باقتضاب الأهمية التي تتطلبها في بلد يخضع جزء مهم من أرضه للاحتلال الإسرائيلي منذ 34 عاماً. وبالطبع ان نشوء حزب كهذا تقف دونه معوقات كثيرة، ليس الوحيد بينها عدم حسم النظام القائم امره الى الآن، ايجاباً، لمصلحة القبول بالتعددية السياسية، وحرية الرأي والمعارضة، وغياب حال جماهيرية واعية ومتقدمة قادرة على الضغط الناجح في هذا الاتجاه.
على رغم الدعم الذي قدمه النظام السوري للمقاومة الوطنية اللبنانية في قتالها للاحتلال الإسرائيلي، هذا الدعم الذي لعب دوراً مهماً جداً في دحر الاحتلال المذكور، انسحابه غير المشروط من الأراضي اللبنانية، فقد جرى الحرص بشكل واضح على إبقاء الجبهة السورية - الإسرائيلية هادئة على امتداد عقود الى الآن، واكتفت دمشق بالمساعي الديبلوماسية لأجل استعادة الجولان المحتل. وهي مساع اظهرت عقمها بالتأكيد: بقي الاحتلال جاثماً على الهضبة السورية البالغة الأهمية، سواء من الناحية الاستراتيجية على الحدود بين سورية وفلسطين التاريخية، أو من ناحية الثروات التي تنطوي عليها، ولا سيما على صعيد المياه التي يستنزفها العدو الى آخر نقطة، في جانبها الظاهر الأنهار والينابيع والبحيرات والثلوج أو في جانبها الجوفي. وإلى ذلك بقي مئات الألوف من سكان الجولان مهجّرين خارج ارضهم، منذ حزيران 1967 بالذات، وممنوعين من العودة، لا سيما بعد اتخاذ اسرائيل قرارها في السبعينات من القرن الماضي بضم الجولان الى إسرائيل.
وبالطبع، لن نناقش الأسباب التي دعت النظام السوري الى الامتناع عن اعتماد "الحل اللبناني" وهو الحل المعروف لدى كل الشعوب التي تتعرض أرضها للعدوان والاحتلال، في سيرورة استعادة الأرض السورية. وهي أسباب يعزوها كثر الى كون الانخراط في سيرورة مشابهة يتطلب موقفاً ديموقراطياً ايجابياً تجاه حركة الجماهير ربما هدد المرتكزات الاجتماعية - الطبقية لنظام شديد الحرص على ديمومته. إلا أنه من الواضح ان هذا "الحل" المتمثل في تنظيم مقاومة شعبية حقيقية للاحتلال الصهيوني، هو الوحيد القادر على دحره، وحرمان إسرائيل، في الوقت عينه، من تحقيق اية مكاسب لقاء انسحابها من هضبة الجولان. لا بل ان من شأنه اجبار الأنظمة العربية التي سبق ان دخلت في علاقات مع الكيان الصهيوني على الخروج منها، وسيلعب - في حال نجحت حركة شعبية وديموقراطية حقاً في الاندفاع الى واجهة الأحداث لاحقاً وفرض هذا الحل - دوراً متقدماً في دعم انتفاضة الشعب الفلسطيني وإدامتها، على طريق إرساء الدولة الفلسطينية ذات السيادة، واستعادة حقوق الشعب المذكور في العودة الى أرضه التاريخية. باختصار، إنه نقطة انطلاق اساسية الى إعادة النظر جدياً ايضاً في وجود الدولة الصهيونية، بما هي دولة استيطانية عنصرية.
لقد وافق رئيس مجلس الشعب السوري قبل اشهر على إحالة النائب رياض سيف الى القضاء بتهمة طعن الدستور لاعتراضه علناً على تفرد حزب البعث بالسلطة. وإمكان ملاحقة اي مواطن في سورية، أياً يكن موقعه، بتهمة كهذه، عدا انها تشكل مساً خطيراً بحرية الرأي، فهي تقضي على البلد بالتحجر والتخلف، وتحرمه من مجاراة روح العصر في التطور الديموقراطي والتداول الحر للسلطة. من هنا يصبح بالغ الإلحاح ان يوضع في أعلى جدول اعمال الحركة الحالية لإصلاح الواقع السياسي السوري مطلب الانتخاب الحر لجمعية تأسيسية تضع دستوراً جديداً إذ يحافظ على المكاسب، وإن المحدودة، التي تحققت للشعب السوري في العقود الأربعة الأخيرة، لا سيما على صعيد الإصلاح الزراعي والضمانات الاجتماعية ووجود قطاع عام مسيطر في الاقتصاد الوطني، يطلقفي الوقت ذاته الحريات الديموقراطية، ويقر التعددية السياسية، والتناوب على السلطة، على أساس برامج واضحة.
يبقى أن نقول إن مطلب الديموقراطية لا يأخذ أبعاده كاملة إذا اقتصر تحقيقه على بلد واحد. إن ازدهار الحرية الجدي وقدرتها على الصمود، إنما يتمان حقاً حين يشملان بمفاعيلهما كامل الأقطار العربية، أو على الأقل معظمها. ذلك ان الديموقراطية المطلوبة في سورية مطلوبة ايضاً في كامل الوطن العربي، من العراق والسعودية واليمن وعمان وصولاً الى ليبيا وتونس والجزائر والمغرب. وبقدر ما تتسع دائرة "المجتمع المدني" التائق والساعي في آن الى الحرية في صحراء القمع الشاسعة، يصبح وارداً ان يخرج مارد الأسطورة من القمقم، وأن تتحول الأغنية التي طالما رددتها الإذاعات على امتداد الستينات عن المارد العربي، في العصر الذهبي لأحلام التحرر والتقدم والوحدة، الى حقيقة. وفقط عندئذ تتغير المعادلات التي تُحوِّلنا الى قطعان مقهورة وذليلة امام غطرسة إسرائيل وعبث العربدة الأميركية.
* كاتب لبناني.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.