قبل ان اتوجه الى كردستان العراق مع عدد من المثقفين العرب، اتصلت بالدكتور قسطنطين زريق للاطمئنان عن صحته، وللإستئناس برأيه حول الزيارة. فاعتذر عن عدم استقبالي بسبب وضعه الصحي. وطلب مني ارجاء اللقاء الى وقت لاحق. وحين عدت من كردستان، وقبل ان أهم بالاتصال به، لكي اقدم له انطباعاتي عن الزيارة، فوجئت بنبأ وفاته. غمرني حزن عميق، أولاً، لأنني لم اتمكن من الالتقاء به قبل وفاته، ومتابعة احاديث شيقة معه، سابقة على مرضه، حول قضايا فكرية وسياسية، وللبحث في شأن زيارة كردستان العراق التي أثارت جدلاً. وغمرني حزن أعمق لغيابه المفاجئ، الذي احدث دوياً في جميع الأوساط الفكرية والسياسية العربية. ذلك ان الرجل هو رائد كبير من رواد الفكر العربي المعاصر، يحتل مكاناً مرموقاً في ميدان البحث، من موقع العقلانية، عن مستقبل للعالم العربي، يليق بتاريخ شعوبه وبحضارتها، بالمفرد وبالجمع، أي بالخاص بكل منها وبالمشترك بينها، ويليق بالكفايات والابداعات الخلاقة لانسانها. رغبتي في الحديث مع قسطنطين زريق حول الزيارة كانت جزءاً من رغبة عامة عندي في جعلها، اي الزيارة، علنية الى الحد الأقصى، وفي اعطائها معنى سياسياً واضحاً ومحدداً لا يقبل الالتباس. وفي الواقع فقد اخبرت، مباشرة وبالواسطة، عدداً غير قليل من الاصدقاء، سياسيين ومثقفين، بمشروع الزيارة، وبتاريخها المحدد، وبالهدف من ورائها. وتلقيت ردود فعل مختلفة منهم. البعض ابدى اعتراضاً مبدئياً على الزيارة، لأسباب قومية، أولاً، ولأسباب سياسية، يتعلق بعضها بموقف المعارضة العراقية التي تشكل الحركة القومية الكردية جزءاً منها من الاميركان. في حين اتخذ بعض آخر موقفاً محايداً. اما العدد الأكبر فكان واضحاً في تأييده للزيارة، بكل المعاني. ومن المهم ان أشير، هنا، تعميماً للمعرفة، أن الحزب الشيوعي العراقي قد تمايز، منذ وقت مبكر، عن هذه المعارضة، ذات العلاقة بالأميركان. لماذا هذا الاختلاف في الموقف من القضية الكردية، ومن الحركة القومية للشعب الكردي، بشكل عام، ومن القضية الكردية في العراق، على وجه الخصوص؟ وأين هو الصواب، وأين هو الخطأ، في مواقف هذه الحركة، عراقياً واقليمياً، وأين هما، اي الصواب والخطأ، في المواقف العربية المختلفة من هذه القضية؟ تلك هي المسألة. ووظيفة هذا المقال هي الدخول في صلب هذه المسألة، وفي تفاصيلها، من خلال الحديث عن انطباعاتي وهواجسي، بعد زيارتي لكردستان العراق، واجتماعي الى قيادات الشعب الكردي السياسية، والى مثقفيه واعلامييه، وتعرفي الى جوانب كانت مجهولة بالنسبة لي، في التاريخ والجغرافيا، وفي الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، في هذه المنطقة التي تحكم ذاتها، موقتاً، منذ عشر سنوات، وربما لآخر مرة في المدى التاريخي المنظور! والحديث عن الصواب والخطأ، في هذه المسألة، وفي مثيلاتها من المسائل، لا يمكن ان يكون، في هذا السياق، الا نسبياً، بسبب دقته، ولا يمكن الا ان يحمل اسم صاحبه. وأنا، هنا، في هذا الموضوع، انما أمارس حقي في عرض وجهة نظر يشاركني فيها الكثيرون من يساريي العراق والعالم العربي، الماركسيين والمتأثرين بالماركسية من القوميين العرب، وكذلك العديد من السياسيين والمثقفين العرب من كل الاتجاهات. ويناقضني فيها الكثيرون، أيضاً، من كل الاتجاهات. وهي وجهة نظر تكونت عندي، بالتدريج، خلال ما يزيد عن خمسين عاماً. كانت البداية، في تعرفي الى القضية الكردية، في العراق، في أواخر الأربعينات، عندما كنت طالباً في احدى مدارس بغداد الثانوية. هناك، بالتحديد، سمعت لأول مرة بوجود أكراد، ينتمون الى شعب كردي، ولهم قضية كردية يتمسكون بها ويدافعون عنها. ونشأت بيني وبين العديد من زملائي الطلاب، ومن المثقفين، في ذلك الحين، صداقة عميقة. وكانوا خليطاً من عرب وأكراد، ينطقون جميعهم بالعربية الفصحى، ويتحدثون، كعراقيين، بلهجات العراق المختلفة، الجنوبية والمصلاوية نسبة الى الموصل وبلهجات اخرى. وكانوا جميعهم، من دون استثناء، يجهرون بالدعوة الى عراق ديموقراطي واحد. ولأنني انتميت الى الفكر الاشتراكي، والى الشيوعية كمشروع سياسي، خلال وجودي في العراق، في تلك الفترة، وذلك مع بداية الانتفاضة المعروفة بأسم "الوثبة"، التي قام بها الشعب العراقي ضد معاهدة بورتسماوث 1948، فقد اتخذت معرفتي بالقضية الكردية معنى مختلفاً عما كان سائداً في الأوساط القومية العربية، خارج العراق. كنت قومياً عربياً يتبنى الفكر الماركسي، ويناضل من اجل انتصار الاشتراكية، بصفتها الضامن الأساسي لتحقيق التقدم والحرية في بلداننا. لم يكن حزب "البعث" قد وصل الى العراق، يومذاك. الا ان حزب الاستقلال، بزعامة مهدي كبه، كان الممثل الشرعي للاتجاه القومي. وكان الحزب الوطني الديموقراطي، بزعامة كامل الجادرجي، يمثل التيار الوسط بين الشيوعيين والقوميين. أما الحزب الشيوعي، بزعامة فهد يوسف سلمان، فكان يحمل في شعاراته الأساسية، منذ التأسيس في أواسط الثلاثينات، راية النضال من أجل عراق ديموقراطي، مؤلف من عرب واكراد وأشوريين وكلدان، وقوميات صغيرة اخرى. وكان هذا الحزب هو أول من اعترف بحقوق هذه القوميات في عراق موحد، وأول من دافع عن هذه الحقوق، استناداً الى مرجعيته الفكرية، المتمثلة بالماركسية - اللينينية. وهي المرجعية التي تقر للقوميات بحقها في تقرير المصير، بما في ذلك الحق في الانفصال، على رغم دعوتها، أي الماركسية - اللينينية، الشعوب والأمم والقوميات الى تشكيل وحدات أكبر، باسم الأممية. لكن الشيوعيين العراقيين، الذين تشكل حزبهم من كل قوميات العراق، وان بأكثرية عربية - وذلك أمر طبيعي - كانوا على الدوام، من انصار حق تقرير المصير للقوميات غير العربية في اطار عراق موحد، ديموقراطي، بالضرورة، كشرط لجعل هذا الحق في تقرير المصير عادلاً وغير مجحف، من قبل القومية الأكبر، وطوعياً وغير قسري، من قبل القوميات الأصغر. وكان للقضية الكردية موقع خاص في برامجهم، في كل العهود. كان الشعب العراقي، اذاً، بكل قومياته - على رغم الفوارق في المواقف والاتجاهات لدى القوى السياسية - يناضل من أجل الديموقراطية، كشرط ضروري من أجل التنمية والتقدم، ومن أجل وحدة العراق، وحرية شعبه وسعادته. وكان النظام الملكي، بارتباطاته الخارجية، وبسياساته الداخلية - على رغم التفاوت في المواقف بين عهد وعهد - هو العائق أمام تحقيق الديموقراطية والتقدم، بتلازمهما، وبالمعاني العميقة التي يعبران عنها. ولذلك لم يكن هذا النظام قادراً على ايجاد حل عادل للقضية الكردية. ولم يكن قادراً على ايجاد حل لأي من القضايا التي كانت تواجه العراق، داخلياً واقليمياً. وكان ذلك شأن الأنظمة التي تعاقبت على العراق، منذ ثورة 14 تموز يوليو حتى الآن. مع الفارق ان القضية الكردية قد اتخذت، في العهود الجمهورية، بدءاً من ثورة 14 تموز، بعداً ديموقراطياً الى جانب بعدها القومي. وحين بدأت تتعمق معرفتي بقضايا العراق، القومية والاقتصادية والاجتماعية، وبالتعدد القومي والثقافي فيه، وبالغنى الذي يتميز به في عدد وتنوع الكفايات، وقع الحدث الأعظم، بالنسبة لي، في تاريخ العراق في تلك الحقبة 1949. فقد وصل الحقد، من قبل أهل النظام، على الحزب الشيوعي العراقي، الى حد تحطيمه، أو محاولة تحطيمه، سياسياً وتنظيمياً وجسدياً. فزج بالألوف من كوادره وأعضائه ومناصريه، ومن المثقفين اليساريين والديموقراطيين، في السجون. ونصبت المشانق لزعمائه، فهد يوسف سلمان وحسين الشبيبي وزكي بسيم، في مدخل العاصمة بغداد من الجهة الشمالية، بالقرب من مقام الامام أبي حنيفة، في الأعظمية، وغير بعيد من مجرى نهر دجلة، الذي يفصل بين مدينة الكاظمية، حيث مقام الامام موسى الكاظم، وبين بغداد العاصمة وهي المنطقة التي تحمل اسم "باب المعظم"، نسبة الى الامام أبي حنيفة، المنطقة التي منها تتفرع الطرق في اتجاه عمق العاصمة، وفي اتجاه الضواحي الجنوبيةوالشرقية. الا ان هذه الهجمة، التي طاولت الحزب الشيوعي، قد طاولت، أيضاً، سائر القوى اليسارية والديموقراطية. وكان من ضحاياها، بالتحديد، حزب الشعب، بزعامة عزيز شريف، وحزب الاتحاد الوطني، بزعامة ناظم الزهاوي وعبدالفتاح ابراهيم، فضلاً عن العديد من الشخصيات الديموقراطية المستقلة. وتجدر الاشارة، هنا، الى ان هذه الهجمة قد ترافقت مع نكبة فلسطين، إذ لعب النظام العراقي والأنظمة العربية الأخرى، دوراً أساسياً فيها، بتضييع فلسطين، والتفريط بالحقوق القومية لشعبها العربي. هل كان ذلك عقاباً للحزب الشيوعي العراقي لأنه كان يحمل الشعار الوحيد الداعي الى عراق ديموقراطي موحد لكل أبنائه، من عرب وأكراد ومن قوميات أخرى؟ هل كان ذلك تحذيراً له ولسواه، من قبل بعض العروبيين ومدعي العروبة، في السلطة وخارجها، لعدم المغالاة في هذا الاتجاه الأممي، على "حساب" القومية العربية !، التي لا تقبل، بنظر هؤلاء، بتعدد القوميات، حيث تكون للقومية العربية السيادة، ولا تسمح لسواها بالسيادة على أي أرض، أو في أي منطقة، تحمل اسماً عربياً؟! لم أفهم ما حدث، يومذاك. لم افهم دلالاته كلها. اذ لم تكن مداركي قد بلغت المستوى الذي يتيح لي أدراك هذه الأمور، بعمومياتها وبتفاصيلها، على رغم اعتناقي الفكر الاشتراكي، نظراً لحداثة سني، من جهة، وللتعقيدات التي يحفل بها تاريخنا العربي، من جهة ثانية. لكنني تدرجت في الفهم، خلال السنوات التي أعقبت ذلك الحدث المروع، الذي لا يزال يهزني حتى الأعماق، كلما تذكرته، وكلما بدت لي صورة ذلك المشهد في الذاكرة. كان رمز الحركة الكردية، في تلك الحقبة، الملا مصطفى البارزاني، الذي اقترن اسمه، عندي، باسم الأكراد والقومية الكردية والشعب الكردي، منذ البدايات. وكان البارزاني يتحول، بالنسبة لي، الى رجل اسطوري. وظل هكذا الى ان توفي في 1 آذار مارس 1979. إلا ان هذه المعرفة المبكرة بالقضية الكردية ظلت ناقصة عندي، الى حين انتقلت في مطلع الخمسينات 1953 الى أوروبا، بعد انتخابي عضواً في قيادة اتحاد الشباب الديموقراطي العالمي، كممثل للشبيبة العربية، وأصبحت مسؤولاً في قيادته اليومية مقرها بودابست عن قسم الشرق الأوسط وشمال افريقيا. فقد اتاحت لي هذه المسؤولية، من خلال مؤتمرات الاتحاد، ومن خلال المهرجانات العالمية للشباب والطلاب، التي كانت تنظم كل عامين في احدى عواصم أوروبا الشرقية، اتاحت لي ان أتعرف الى كل قضايا المنطقة، وتفاصيلها، ومنها القضية الكردية. وأذكر أنني التقيت في المهرجان الذي أقيم في مدينة وارسو 1955، لأول مرة، بالشاب جلال الطالباني، الذي يشغل اليوم منصب الأمين العام لحزب الاتحاد الوطني الكردستاني، الجناح الآخر في الحركة القومية الكردية المعاصرة، يقابله مسعود البارزاني نجل الملا مصطفى البارزاني رئيس الحزب الديموقراطي الكردستاني، الحزب التاريخي الذي كان الطالباني في بدايات نشاطه عضواً فيه وفي قيادته، قبل ان يؤسس حزبه المستقل مع عدد من الكوادر الشابة ومن المثقفين ذوي الميول اليسارية. جاءني الطالباني الشاب، يومذاك، من خارج الوفد العراقي، ليطلب مني، بصفتي مسؤولاً عن منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا في اللجنة العالمية المنظمة للمهرجان، ان نسمح له بالدخول في الاستعراض العام للوفود، مع عدد من الشباب الأكراد الأعضاء في الوفد العراقي، تحت يافطة تحمل اسم الشعب الكردي، وتتضمن صورة لخريطة كردستان، المؤلفة من اجزاء من ايران وتركيا والعراق. كان الطالباني الشاب شديد الحماسة للاعلان، من ذلك المكان، بالذات، وأمام ذلك الحشد من شباب العالم، بأن للأمة الكردية الموزعة والمقسمة بين بلدان عدة، والمقهورة قومياً، الحق بتأسيس دولتها القومية. قلت له، يومذاك، بأنني، كقومي عربي ماركسي الاتجاه، اقر له بهذا الحق. لكن المسألة لا تتعلق، لا بموقفي الأممي، ولا بمشاعره القومية. بل هي تتعلق بالشروط التاريخية، وبالامكانات، وبموازين القوى، وبعدد لا يحصى من الأمور. ونصحته بأن يلتزم، ككردي عراقي، بالبقاء في العراق، كوطن له ولأبناء شعبه، أي بالبقاء فيه كردياً عراقياً. ثم جرت تسوية للمسألة، لم أعد أذكر تفاصيلها، ساهم فيها مسؤول الوفد العراقي، حينذاك، صديقي الشهيد الدكتور صفاء الحافظ، الذي اغتيل في الثمانينات في سجنه المظلم. وصرنا، جلال وأنا، بعد ذلك، صديقين حميمين، حتى هذه اللحظة. أما علاقاتي بمسعود البارزاني فتعود، فقط، الى أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات. وهي علاقة صداقة لم تقلل من حميميتها ندرة اللقاءات بيننا. غير ان علاقتي بقيادات الحزب الديموقراطي الكردستاني فهي قديمة ومتعددة، تعود الى الستينات وما بعدها، ولا سيما مطلع السبعينات، حين كانت زياراتي الى العراق متواصلة، قبل ان تنقطع، لأسباب خارجة عن ارادتي وارادة الكثيرين ممن اشترك معهم في الموقف مما جرى ويجري في العراق، منذ أوائل الثمانينات من القرن المنصرم. ولم تنحصر علاقاتي بالأكراد بزعماء هذين الحزبين. بل هي شملت عدداً غير قليل من قياديي الحزب الشيوعي العراقي، وعدداً غير قليل من المثقفين الأكراد، كان من أبرزهم صديقي منذ أواخر الأربعينات الشاعر الراحل بلند الحيدري. وأذكر، ويذكر الكثيرون ممن لا تزال ذاكراتهم حية، ان الصراع حول حق تقرير المصير للشعب الكردي، داخل العراق الموحد، الذي تخللته ثورات، وحروب، ومآس لا حصر لها، قد انتهى، في أول السبعينات 11 آذار/ مارس 1970 الى اتفاق يقضي باعطاء حكم ذاتي للأكراد. كان الاتفاق حدثاً تاريخياً مهماً. وكان الجميع يتمنى لو أنه ثابت ومديد. إلا ان الشكوك كانت تساور الجميع حول امكان تحقيقه، في ظل شكوك حول ملابسات الاقرار به، من قبل النظام العراقي، في ذلك الظرف. وسرعان ما جرى الاعلان عن فشل الاتفاق، قبل ان يدخل حيز التطبيق. فشكل ذلك نكسة كبيرة، ورجوعاً بالتاريخ الى الوراء. والجدير بالذكر أن الاعلان عن الاتفاق قد ترافق مع عدد من الاجراءات التي قامت بها الحكومة المركزية في الاقليم، مرفقة ببعض العمليات الأمنية، كان آخرها محاولة اغتيال الملا مصطفى البارزاني. الأمر الذي أدى الى افراغ الاتفاق من محتواه، والى جعل الشكوك في النيات تحل محل الأمل في تطبيق الاتفاق. وهكذا تطورت الأمور، بالتدريج، في اتجاه التفجير. وبدأت الحرب من جديد، بديلاً من هذا الاتفاق، الذي ولد ميتاً. وربما تكون قد اسهمت في هذا الفشل، منذ البداية، اضافة الى ما أشرت اليه من اجواء واجراءات تلك الشكوك ذاتها، التي سبقت ورافقت توقيع الاتفاق. تضاف اليها أسباب أخرى، تتعلق، في رأيي، بالعجز، من قبل الحكومات العراقية كلها، عن ايجاد صيغة ديموقراطية توفق بين الاعتزاز القومي عند القومية الأكبر، القومية العربية، وبين الاعتزاز القومي عند القومية الأصغر، القومية الكردية. كما تتعلق بالعجز عن التوفيق بين مصالح خاصة بحزب أو فرد، أو بنظام، من جهة، وبين مصالح من الطبيعة ذاتها، ومن طبيعة أخرى، من موقع القهر، من جهة ثانية. وهكذا ضاعت فرصة تاريخية، هي الأولى من نوعها، لحل هذه القضية الكبيرة المعقدة. وتحولت الحرب، بالتدريج، الى حرب شرسة، وبشعة، اتخذت من قبل السلطة طابع ابادة جسدية لشعب بكامله، ابرز عناوينها مأساة مدينة حلبجة، التي قصفت بأسلحة كيمائية، أبادت خمسة آلاف انسان من سكانها، خلال نصف ساعة. فضلاً عن عشرات الألوف من الأكراد والعرب، الذين قضوا في ساحات الحرب، وفي السجون والمعتقلات، وفي سائر وسائل الإبادة، التي جرت على قاعدة قانون "الانفال"! وهو القانون الذي شرّع عمليات الإبادة للأكراد، بكل الوسائل. وهو ما اتاحت لنا الزيارة معرفته، من خلال الكتب والبيانات والوثائق، ومن خلال الوقائع على الأرض، الشاهدة، بمرارة وأسى، على ما حصل، يا للفظاعة! وظل الأمر كذلك، أي ظلت هذه الحرب في تصاعدها بكل بشاعاتها، الى ان جاءت حرب الخليج الثانية، التي اعقبت غزو العراق للكويت. وهي الحرب التي دمرت العراق، ووضعت شعبه حتى هذه اللحظة تحت حصار قاهر ومذل، ووضعت، في الوقت ذاته، اقليم كردستان العراق تحت الحماية الأميركية، بعد ان كانت قد وقعت انتفاضة شعبية في كل من جنوبالعراق، وشماله. وفي ظل هذه الحماية، بالذات، تولت السلطة في الاقليم قيادة الحركة القومية للشعب الكردي. كل هذا الكلام عن الأكراد لا يشفي غليلاً. اذ هو لا يقدم معرفة كاملة بهذا الشعب، وبهذه الأمة، تاريخاً ومزايا وتقاليد وثقافة وكفاحاً. فمن هو هذا الشعب؟ من هي الأمة الكردية؟ ما هو تاريخهما، وكيف تكونا عبر التاريخ ؟ وما هي الأرض التي عليها تكونت سماتهم الخاصة؟ وما هو تاريخ كفاحهم ومراحله؟ لن أدخل في تفاصيل الجواب عن كل هذه الأسئلة. اذ ان الكتب الكثيرة التي صدرت عن الأكراد، باللغة العربية وبلغات أخرى، تقدم الضروري من المعلومات. غير ان المعروف عن الأكراد، بحسب المعطيات المتداولة، انهم شعب عريق. يعود تاريخه الى ألوف السنين، كما يقول قياديو الشعب الكردي ومثقفوه والمؤرخون. يتميز بحضارة قديمة، لها سماتها الخاصة، أسوة بحضارات الشرق القديم. وهذا التاريخ حافل بالثورات، التي حملت في الماضي، دون طائل، شعار تأسيس دولة قومية للشعب الكردي على أرض كردستان، الموزعة اليوم بين ثلاثة بلدان. وآخر محاولاته في اقامه هذه الدولة، كان في أواسط الأربعينات 1946 من القرن المنصرم، حين أنشأ الأكراد دولة "ماهاباد"، في ايران، التي دامت اقل من عام واحد. إذ هي قمعت بشراسة، واعدم زعيمها وعدد من قيادييها الآخرين. والجدير بالذكر ان الملا مصطفى البارزاني كان القائد العام للقوات المسلحة في الجمهورية. وواضح من هذا التاريخ السحيق، ومن مآسي الشعب الكردي فيه، أثر الصراع بين هذا التاريخ وبين الجغرافيا التي احتضنته. فليس سهلاً ان يعيش شعب جبلي، متمرد في طبيعته، مثل الشعب الكردي، عميق الاعتزاز بقوميته، وبتقاليده، وبثقافته، ليس سهلاً على مثل هذا الشعب ان ينشئ دولته على أرض يعتبرها أرضه، وتقاسمه فيها شعوب واعراق وقوميات اخرى، مختلفة في حضاراتها. بعضها سابق عليه في التكون، وبعضها لاحق. وجميعها فاقته قدرة في تكوين دولها القومية، منذ قديم الزمان. ولذلك كان تاريخ الشعب الكردي، على الدوام، تاريخ صراع مع هذه القوميات، وتاريخ ثورات لا تنتهي. صحيح أن التاريخ يعاقب، في فترات معينة، بعض الشعوب والأمم، فيحرمها حقوقها المشروعة، ويجعلها فريسة دائمة للقهر القومي والاجتماعي. لكن ما الذي يجعل التاريخ يقدم على مثل هذا العقاب لمثل هذه الشعوب؟ هل لأنها اخطأت، أم لأنها وقعت في غفلة من الزمن، في فخ نصب لها، ولم تستطع الافلات منه؟ أم لأنها لم تبرر، في سلوكها العام، وجودها، وحقها الطبيعي في الحياة؟ أم أن لهذا العقاب الجائر أسباباً أخرى؟ من السهل على من يقرأ تاريخ الأمم والشعوب أن يجد نماذج من هذه الشعوب المعاقبة. ولكن من الصعب عليه الاجابة بدقة عن الأسئلة حول أسباب هذا العقاب. ويحفل عالمنا المعاصر، في قارات الكوكب الخمس، بالأمثلة عن شعوب وأمم، شبيهة بالنماذج المشار اليها، ممن عاقبها التاريخ، على النحو الذي أشرنا اليه. فهل يعني ذلك ان التاريخ القديم يعيد نفسه، اليوم، في شروط أكثر تعقيداً، وأكثر مأسوية؟ إلا ان هذا الأمر لا ينطبق على الشعب الكردي. إذ هو يستعصي على التذويب، وعلى الابادة، ويكافح، بكل طاقاته، لاثبات جدارته بالحياة، مهما عظمت التضحيات. وبمعزل عن كل ما اتيح لي الاطلاع عليه في الكتب عن اقليم كردستان العراق، تحديداً، وعن طبيعته، فإن ما عرفته عن هذه الطبيعة، خلال زيارتنا، يسمح لي ببعض الوصف، من أجل تعميم المعرفة. فقد دخلنا الى اقليم كردستان العراق من الحدود السورية الشمالية، أي من منطقة القامشلي. نهر دجلة هو الحد الفاصل بين سورياوالعراق، في هذه الزاوية، أي في المثلث العراقي - السوري- التركي. عبرنا النهر خلال دقائق معدودة في قارب آلي صغير. عبرناه في الاتجاه المعاكس للتيار، من دون أدنى صعوبة، وكأننا ننتقل من منطقة الى منطقة مجاورة لها، داخل البلد الواحد. أمران كانا موضع ملاحظاتنا جميعاً: الأمر الأول، يتمثل بسهولة الانتقال، بين بلدين عربيين، كما لو أن الحدود انتفت بينهما. وقد أثار عندنا هذا الأمر السؤال الطبيعي الآتي: لماذا، إذاً، يصعب الانتقال في أماكن أخرى، وفي حدود أخرى، اذا كان بالامكان ان تكون الحدود بهذه البساطة؟ أليس صحيحاً في هذه الحالة، كأستنتاج طبيعي، ساذج ربما، ان الحدود بين بلدين، بشكل عام، وبين بلدان شقيقة، بشكل خاص، انما تصنعها السياسة، والمصالح، والأهداف، واختلافاتها كلها، وتناقضاتها؟ الأمر الثاني، يتمثل بمشهد نهر دجلة، وهو يجري بخجل وتواضع، وبقليل من المياه، خلافاً لما نعرفه عنه في بغداد، وخلافاً لما نسمع عنه في مناطق اخرى من العراق. وقد أثار هذا الأمر عندنا السؤال الآتي: ما الذي جعل هذا النهر التاريخي العريق في جريانه يوحي لنا بالحزن والخيبة، ويوحي لنا، في الوقت ذاته، بأفكار تتزاحم في كل الاتجاهات؟ هل هي الطبيعة تدخل في عملية العقاب للشعوب، هنا، أم هي السياسة، سياسة الأتراك في معاقبة كل من سورياوالعراق؟ أم أن ثمة ما يستعصي على مداركنا من أمور السياسة المحلية والاقليمية والدولية، في هذه الحقبة من تاريخنا؟ أدهشنا، ونحن نتوغل في محافظة دهوك، وفي لحظة دخولنا مدينة دهوك، ذاتها، جمال الطبيعة في هذه المنطقة، وجمال الطبيعة المحيطة بالمدينة. دهوك، التي تتوزع أحياؤها على هضاب صغيرة، تمتاز بتنظيمها، وبأمور مدينية أخرى، عن سائر المدن التي انتقلنا اليها تباعاً، خلال رحلتنا الطويلة، في أعماق الاقليم. ولكن هذا التمايز لمدينة دهوك، الذي للإنسان، على امتداد عقود، دور مباشر فيه، لا يجعلها تفوق في جمالها الطبيعي المدن الأخرى. بل هي تلتقي معها في ما منحته الطبيعة من جمال لكل هذا الاقليم، وما اكتسبته تلك المدن، لا سيما اربيل، العاصمة التاريخية لكردستان، والسليمانية، العاصمة الثقافية، من مكانة في تاريخ العراق القديم، والحديث، وفي تاريخ الشعب الكردي. لست بارعاً في الوصف. وليس هذا المقال المجال الصالح لذلك. لكنني أحب ان أذكر، فقط، ببعض الملامح لهذا الاقليم الواسع الشاسع. والحقيقة، فإن اقليم كردستان، هذا - وهو الجزء الشمالي من العراق، المتاخم لكل من ايران وتركيا وسوريا - يضم أربع محافظات، هي محافظة دهوك، ومحافظة اربيل، ومحافظة السليمانية، ومحافظة كركوك. وباستثناء مدينة كركوك، بالذات، فإن معظم أراضي هذه المحافظات يقع تحت سيطرة الحركة الكردية، بشقيها، أو بحزبيها، أو بسلطتيها، سلطة الحزب الديموقراطي الكردستاني، وسلطة حزب الاتحاد الوطني الكردستاني. ومجمل مساحة كردستان العراق يصل الى حوالى ثمانين الف كيلو متر مربع، أي ثمانية أضعاف مساحة لبنان. أما القسم الخاضع لسلطة الحركة الكردية فيصل الى حدود الستين الف كيلو متر مربع. وهي أرقام تقريبية. أما عدد السكان فيختلف باختلاف التقديرات. ويقول المسؤولون في الاقليم ان عدد سكان العراق، اليوم، يصل الى ما يقرب من عشرين مليوناً. ستة ملايين منهم اكراد بدياناتهم المختلفة، بما فيها الديانة الايزدية. في حين لا يتجاوز عدد المنتمين الى القوميات الصغيرة، الكلدانية والآشورية والتركمانية والأرمنية، المليون نسمة، أو كحد أقصى الميلونين. وهي جميعها أرقام تحتاج الى تدقيق. والقسم الخاضع لسلطة الحركة الكردية يصل الى حدود ثلاثة ملايين تقريباً. اذ يعيش القسم الباقي في الداخل العراقي. المنطقة غنية بالمعادن الثمينة، على اختلاف أنواعها، وغنية بالثروات الجوفية، ولا سيما النفط. وهي غنية بالمياه، انهاراً وينابيع ومياهاً جوفية. تساعدها في ذلك طبيعة متوحشة، فالتة من عقالها، غارقة في سحر تكوينها الحر البديع. وهي منطقة جبلية بكاملها تقريباً. يتراوح ارتفاع جبالها بين ألف وخمسة آلاف متر، كما قيل لنا، والعهدة على الراوي. ولقد شاهدنا بأم العين روعة هذه الجبال وسحرها، وروعة الوديان وسحرها، وروعة وسحر المضائق، القائمة بين جبلين أو أكثر. الا ان البارز في هذه الجبال هو قلة الأشجار. ويعزون ذلك الى كثرة الحروب، من جهة، والى حاجات المواطنين، من جهة ثانية، التي فرضت عليهم، في الظروف الصعبة، الحافل بها تاريخ هذه المنطقة، قطع الأشجار، من أجل التدفئة ولأغراض عديدة أخرى، لا سيما بعد ان توقفت الحكومة المركزية عن تقديم مادة المازوت للمنطقة. قطعنا في تجولنا في المناطق، بين جبالها ووديانها وسهولها، ومدنها وقراها، الفقير معظمها، الموزعة بغير انتظام، ما يقرب من عشرة آلاف كيلو متر. هل أبالغ؟ ربما! لكنني أحسب ان الانتقال من نهر دجلة، على الحدود، الى مدينة دهوك ومحافظتها، صعوداً وهبوطاً، في اتجاه سولاف والعمادية، وعقرا، ثم الى مدينة اربيل ومحافظتها، صعوداً وهبوطاً، من صلاح الدين الى شقلاوة الى بيخال، وهي مدن اصطياف جميلة عريقة في تاريخ العراق، ثم الى منطقة بارزان، الجبلية المغطاة بالغابات، ثم الى مدينة السليمانية، صعوداً وهبوطاً، من مدينة كويسنجق الى سددوكان، الذي يستطيع ان يكون، لو توفرت الامكانات، احد أهم وأجمل المنتجعات السياحية في الاقليم، ثم من سددوكان الى سد دربنديخان، الواقع في ملتقى جبال رائعة التكوين، مروراً بمدينة حلبجة ومحيطها. أن الانتقال بين هذه المناطق، في الاتجاهين أكثر من مرة، لا يجعل العشرة آلاف كيلو متر رقماً كبيراً. جزء من هذه المسيرة الطويلة كان وسط سلسلة من الجبال المتصلة بعضها ببعض، على امتداد كردستان الكبرى، وجزء آخر كان في سهول لا نهاية لها، وجزء ثالث كان في موازاة نهر الزاب الكبير - احد الروافد الرئيسية التي تصب في نهر دجلة - وعلى امتداد مسافات طويلة على حدود مجراه الذي يشق وديان تلك المنطقة، متحدياً في سريانه الهادئ اعالي الجبال الشاهقة، المناطحة للسحاب مثل رؤوس الصواريخ، وكأنها لوحات فنية من صنع فنان تفوق قدرته قدرة البشر جميعاً. * كاتب لبناني.