مع انطلاقة البث الفضائي، دخلت نشرات الأخبار في المحطات التلفزيونية العربية مرحلة جديدة، اقتربت خلالها أكثر فأكثر من حالات "البث المباشر". وهذا يعني ايجاد صلات مباشرة بمواقع الأحداث، وكذلك بصناع تلك الأحداث وأبطالها، وحتى ضحاياها، الذين صار في امكانهم جميعاً التحدث بالصوت والصورة الى جمهور كبير من المشاهدين، يفوق بأضعاف الجمهور المحدود الذي اعتاد متابعة نشرات الأخبار من المحطات التلفزيونية الأرضية، مكتفياً بدور المتلقي، ومن دون ان تخطر في ذهنه أبداً، مسألة المشاركة والتفاعل ولو جاءت مشاركة بالنيابة، أي من خلال محللين وخبراء سياسيين، يمكن ان يقدموا اليه صورة مختلفة بل مناقضة للصورة التي يقدمها معدّو النشرة والقائمون على بثها. والحال ان ما ينطبق على نشرات الأخبار العادية، يصدق - وفي صورة أوضح - على الحالات الطارئة، أو بلغة الإعلام التلفزيوني، الخبر العاجل، حيث تقتضي المسألة الانتقال المباشر، عموماً، وبالصوت والصورة، الى موقع الحدث لبث تفاصيله أولاً ولسماع شهادات شهود العيان ثانياً، ثم الاستماع الى تحليل للحدث وطبيعته والظروف المحيطة به. هذا اللون من الأخبار العاجلة شاهدناه يتكرر في الفضائيات العربية خلال الشهور الماضية، خصوصاً حين تولت الطائرات المروحية الاسرائيلية للمرة الأولى - في عهد ايهود باراك - قصف مواقع فلسطينية رسمية وشعبية في الضفة الغربية وقطاع غزة، فتحوّل "الخبر العاجل" في مرات كثيرة بثاً حياً ومباشراً من مواقع الأحداث، في ما يشبه المعارك المصوّرة. وصار في امكاننا كمشاهدين متابعة حياة الفلسطينيين في مواجهة القصف المباشر، وملاحقة الطائرات المروحيّة، وهي تقصف هذا الموقع الفلسطيني أو ذاك، ونحن نستمع خلال ذلك الى تعليق وتحليل لمسؤول حيناً، أو لمحلّل سياسي حيناً آخر، وبما يلقي ضوءاً على الحدث الساخن ويجعله أقرب الى ذهن المشاهد العادي ووعيه. هذا الشكل الجديد لنشرات الأخبار، أفرز في الساحة الإعلامية العربية معسكرين إعلاميين، حافظ أولهما على التزامه النمط التقليدي للنشرة، القائم على نصّ مكتوب وعلى سياسة لا تسمح بالخروج عن النص، إذا جاز التعبير، بينما ذهب المعسكر الثاني الى الأمام، ودخل بوابة تحديث خطابه الإعلامي، من خلال التنصل التدريجي من ضوابط النص القديم بكل ما حمله من ممنوعات وصلت الى حدود التقديس. وغني عن القول ان المعسكر الأول بدأ يفقد تدريجاً ما تبقى له من مشاهدين، راحوا يديرون له ظهورهم، متجهين نحو المعسكر الآخر، بل ان مقياس المفاضلة بين محطة حديثة وأخرى راح يعتمد في صورة متزايدة مساحة الخروج عن النص التي يمكن ان تسمح بها المحطة. فالانحياز دوماً هو الى المحطة التي تتمتع بمقدار أكبر من حرية الحركة ومن القدرة على تشغيل مراسلين مباشرين يقدمون تقاريرهم، لا من مواقع الأحداث وحسب، ولكن أيضاً - وهذا شديد الأهمية - في صورة مباشرة، تتخلى عن عادة بث التقارير المسجّلة، ونقلها مباشرة وحيّة عبر الأقمار الصناعية، وهي عادة جديدة جعلت من المراسلين المحليين في مواقع الأحداث، نجوم نشرات الأخبار وليس المذيع كما تعودنا سابقاً. هذا الانفتاح الإخباري، ما لبث ان تطور وتوسع، فشمل البرامج الحوارية، التي راحت بدورها تعتمد استضافة مسؤولين، بعضهم يجلس الى جانب المذيع في الاستوديو، بينما يتحدث آخرون - بالصوت والصورة - من مدن أخرى، وكل ذلك في بث حي ومباشر، يعطي الفرصة لمداخلات من جمهور المشاهدين من خلال الاتصالات الهاتفية المباشرة، وبما يغني الأفكار المطروحة بين المتحاورين ويوضحها ويطورها. هذه السياقات الاخبارية الجديدة أتاحت فرصاً ثمينة لإعداد برامج توثيقية عن عدد مهم من قضايانا الأساسية، خصوصاً ان اشرطة مصورة غنية وذات صدقية عالية توافرت لها في مجالي الرأي والحدث، فأمكن في كثير من البرامج التوثيقية اعادة قراءة أحداث كبرى من خلال رؤيتها في سياقات سياسية صحيحة، ما جعل المشاهدة الأخبارية التلفزيونية تنتقل من لحظتها الآنية - بأهدافها وطبيعتها الاستهلاكية العابرة - الى مادة قابلة للعيش في الأزمان المقبلة. وهو ما منح هذه المادة التوثيقية المصوّرة قيم خطابها الإعلامي - السياسي، ووضعها في اطار وعي حضاري متكامل أو شبه متكامل، يقول في شرطه الأساس على مقارعة الحجة بالحجة، وعلى الاحتكام الى الصورة التي ما لبثت ان اصبحت سيّدة الخطاب الإعلامي وأساسه. علاقة مع المواطن وفي هذا المجال يمكن الملاحظة ان العلاقة الإخبارية المباشرة والمكشوفة مع المواطن العربي عبر الشاشة الصغيرة، أسهمت بقسط وافر في اعادة ترتيب القيم الاجتماعية فدفعت بقضية الديموقراطية خطوات واسعة الى الأمام من خلال تقديمها في صورة عملية، بصفتها حاجة معيشية يومية، وليس فقط باعتبارها قيمة تحتمل الجدل أو النقاش الفكري المحض. فالمتأمل في ما تبثه النشرات الأخبارية الراهنة بمواصفات عملها وطرقه، يدرك بالضرورة، لا أفضلية الجديد فحسب، ولكن أيضاً - وهذا هو المهم - استحالة العيش مع الإعلام القديم، أو بدقة أكبر استحالة العيش راهناً ومستقبلاً مع الإعلام بأدوات ومفاهيم وأساليب عمل، هي بالضرورة قاصرة ومحدودة الأفق، وهي كذلك وسيلة احباط لأي تطلعات نحو تنمية ناجحة لا يمكنها ان تتحقق خارج مساحات الحوار المفتوح والمرتبط بدوره بإعلام مفتوح وحداثي. عالم اليوم، في معنى ما، عالم الشاشة الصغيرة، ولكن التي تستحضر الى البيوت كلها دنيا واسعة مترامية الأطراف، ومن هذه النقطة بالذات تنشأ بالضرورة علاقة اجبارية بين سكان البيوت وشاشاتهم الصغيرة، وهي اجبارية الى الحد الذي تترتب خلاله على طرفي العلاقة حقوق وواجبات، تفرض من ثم أفق تبادل الأفكار والاقتراحات، بل تفرض شكل المستقبل نفسه.